القائمة الرئيسية

الصفحات

التأويل بين أهل اللغة واصطلاح العلماء



التأويل بين أهل اللغة واصطلاح العلماء


التأويل بين أهل اللغة واصطلاح العلماء

أولا: التأويل في المعاجم اللغوية

    قال الخليل الفراهيدي (ت: 175هـ): (والمآل: الملجأ والمحترز، غير أن وأل يئل لا يطّرد في سعة المعاني اطراد آل يؤول إليه، إذا رجع إليه، يقال: طبخت النبيذ والدواء فآل إلى قدر كذا وكذا، إلى ثلثه أو ربعه، يعني : رجع)([1]) .

    وذكر أيضا ان من اشتقاقات الأول "الأيل" وهو (الذكر من الاوعال، وجمعها الايايل ، وإنما سمي بهذا الاسم لأنه يؤول إلى الجبال فيتحصن فيها , قال :    
- من عبس الصيف قرون الاُيّل([2])...

والإيال بوزن فعال وعاء يؤال فيه شراب أو عصير أو نحو ذلك، يقال: أُلت الشراب أؤوله أوْلا)([3]) .

    والتأوّل والتأويل: تفسير الكلام الذي تختلف معانيه, ولا يصح إلا ببيان غير لفظه, قال:  نحن ضربناكم على تنزيله           فاليوم نضربكم على تأويله([4])

     ورد في تهذيب اللغة للأزهري(ت370)، أن المصدر من لفظ التأويل هو (الأَوُل والأُوُول، والموئل: الملجأ من وأَلْت وكذلك المآل من أُلت, والرجل يؤول من مَآلة بوزن مَعالة)([5]) .

    وقال أيضا: وأما التأويل فهو تفعيل من أول يؤول تأويلاً: أي رجع وعاد , والأوْل الرجوع , وآل ماله يؤوله إيالة إذا أصلحه وساسه([6]).

    وعند ابن منظور(ت 711هـ ) أن (الأول : الرجوع ، آل الشيء يؤول أولا ومآلا: رجع ، وأول إليه الشيء : رجعه ، وألت عن الشيء : ارتددت ، وفي الحديث : من صام الدهر فلا صام ولا آل، أي لا رجع إلى خير)([7]) .

    نلحظ إذن ان المعنى الجامع الأصلي للتأويل هو الرد والرجوع الى الأصل , وبذلك يمكن القول ان معنى تأويل الكلام رد معانيه وإرجاعها الى أصلها الذي تحمل عليه وتنتهي إليه , فجميع هذه النصوص تؤكد على أن الأوْل يساوق الرجوع , وبالتالي يكون التأويل بمعنى (الترجيع)، يعززه قول الشريف الجرجاني (ت 816 هـ) : (التأويل في الأصل الترجيع )([8]) .

ثانيا: التأويل في الاصطلاح

    أما التأويل في الاصطلاح فقد حظي باهتمام واسع من قبل العلماء والمحققين قديما وحديثا سواء أكان في النصوص الدينية أم النصوص الأدبية والعلوم الإنسانية , وكتبت حوله آراء واجتهادات وتعريفات اصطلاحية متعددة .

·         - التأويل في اصطلاح المفسرين:

    قال ابن حزم (ت:456هـ): (والتأويل نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة الى معنى آخر فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان ناقله واجب الطاعة فهو حق وإن كان نقله بخلاف ذلك اطرح ولم يلتفت إليه وحكم لذلك النقل بأنه باطل)([9]) .

    ونقل عن الباجي(ت:474هـ) قوله: (التأويل صرف الكلام عن ظاهره الى وجه يحتمله)([10]) , وهذا يعني أن يحتمل الكلام معنيين أو أكثر (إلا أن أحدهما أظهر في ذلك اللفظ اما لوضع او استعمال او عرف فإذا ورد وجب حمله على ظاهره الا ان يرد دليل يصرفه عن ذلك الظاهر الى بعض ما يحتمله, ويسمي أهل الجدل ذلك الصرف تأويلا)([11]) .

    أما ابن الجوزي (ت:597هـ) فقد عرّفه بأنه (العدول عن ظاهر اللفظ الى معنى لا يقتضيه, لدليل عليه)([12]) . وقال في موضع آخر أنه (نقل الكلام عن وضعه وأصله السابق الى الفهم من ظاهره في تعاريف اللغة والشرع أو العادة الى ما يحتاج في فهمه...الى قرينة تدل عليه لعائق منع من استمراره على مقتضى لفظه... ومن ذلك ما وقع الخطاب فيه على سبيل المجاز ولم يكن يراد به الأصل في الحقيقة)([13]).

    وفي الاتقان للسيوطي (ت:911هـ) ان التأويل من الرجوع , وفصّل فيه بقوله (فكأنه صرف الآية الى ما تحتمله من المعاني , وقيل من الإيالة وهي السياسة كأن المؤول للكلام ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه )([14]) .

·         - التأويل في البلاغة:  

    والتأويل في البلاغة يكون استنباطا لمعنى النص أو لمعنى اللغة , وقد أطلق عليه الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت:471هـ) معنى المعنى, إذ يقول : ( وهو أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر)([15])       .    

·         - التأويل في الرؤية الفلسفية:

    أما في نطاق الرؤية الفلسفية فقد قال الجويني (ت:478هـ) في تعريفه بأنه رد الظاهر الى ما اليه مآله في دعوى المؤول , ويؤكد ضرورة تقييد التأويل بقواعد اللغة ومراعاة أساليب البلاغة ويرى عدم حمل الألفاظ على النادر الشاذ يروم بذلك إعطاء معنى يحتمل الظاهر, وهذا الخروج عن الظاهر ينبغي اقترانه بقرائن تؤيده وتعضده ,  وان لا يحيد عن القواعد اللغوية ودلالاتها, وان لا يكون مبهما أو ملغزا([16]).

    وجاء معنى التأويل عند ابن رشد (ت:595هـ) موافقا لفحوى ما قرره الجويني , وهو (إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية الى الدلالة المجازية - من غير ان يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز -  من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي)([17]).

·        - التأويل عند العرفاء:

    وعند العرفاء جاء مفهوم التأويل متجاوزا المعنى المجازي أو المعنى المردد والمحتمل, ليتخذ طريق الحقيقة الخارجية, وهذا المعنى للحقيقة الخارجية يورده الطباطبائي لدى وقوفه عند لفظ التأويل في آية الإسراء بشأن الوزن والكيل: ]وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً[([18]), إذ يقول:

   (والتأويل بهذا المعنى ليس معنى خلاف الظاهر من الكيل والوزن، بل هو حقيقة خارجية، وروح اوجدت في الكيل والوزن تقوى وتضعف بواسطة استقامة المعاملة وعدم استقامتها)([19]).



ثالثا: التأويل في اصطلاح المعاصرين

·        - التأويل دفع شبهة:

    تطرق الشيخ محمد هادي معرفة الى تعريف مصطلح التأويل من خلال تمييزه عن التفسير, إذ إن (التفسير رفع الابهام عن اللفظ المشكل فمورده ابهام المعنى بسبب تعقيد حاصل في اللفظ , اما التأويل فهو دفع الشبهة عن المتشابه من الاقوال والافعال فمورده حصول شبهة في قول او عمل اوجبت خفاء الحقيقة...فالتأويل ازاحة هذا الخفاء)([20]).

    وبذلك يكون عمل التأويل في رأيه رفع ابهام ودفع شبهة , فمتى ما وُجد تشابه في اللفظ كان ابهام في وجه المعنى ايضا, فهو إذن دفع ورفع معا([21]).

    إن كلام الشيخ هذا فيه إشارة الى كون التأويل متلازما ومترابطا بالمتشابه من الآيات, لكن صاحب الميزان كان لديه رأي مغاير, وقد فصّل في المسألة مبينا ان كون الآية ذات تأويل تعود اليه غير كونها متشابهة ترجع الى آية محكمة, فالتأويل لا يختص بالآيات المتشابهة وإنما بجميع القرآن, فإن للآية المحكمة تأويلا وكذلك للآية المتشابهة, والتأويل ليس من المفاهيم التي هي بمثابة مداليل للألفاظ بل يعدّ من الأمور الخارجية العينية([22]) .

·         - التأويل ما لم يكن مقطوعا به:

    ومن المعاصرين الذين توقفوا عند مصطلح التأويل بالرؤية المتقدمة الدكتور محمد حسين الصغير, إذ يرى أن التأويل هو (ما لم يكن مقطوعا به وكان مرددا بين عدة وجوه محتملة, فيؤخذ بأقواها حجة وأبرمها دليلا, فيوجه المعنى على أساس الفهم واللغة وإعمال الفكر)([23])  .         

رابعا: التأويل في المنظور النفسي الحديث 

    أما في المنظور النفسي الحديث فإن التأويل هو (التفسير والإعلام ويساير العملية العلاجية تبعا لما يتوفر من المادة العلاجية للمعالجة أو المحلل الذي ينهض على أمر التأويل)([24]) , وقد ارتبط عند فرويد (ت:1939م) (بتفسير الأحلام باعتبارها النموذج الأول للتأويل بمنهج فرويد بافتراض ان الأحلام نشاط نفسي يصدر عن الحالم ويقبل التأويل)([25]) .

    فالحلم عند "فرويد" هو (الموضوع المفضل لأّنه يعبِّر عن نوع من استرخاء الوعي مما يخدم المحتويات النفسية الكامنة في اللاوعي، ويجعلها تطفو إلى السطح بطرق غير مباشرة)([26]). ويميز فرويد بين المحتوى الظاهر للحلم وبين الأفكار الكامنة والباطنة , إذ (تظهر أهمية التأويل كّلما أردنا تفكيك شفرة الحلم أي كّلما أردنا تحديده تحديدًا لغويًا حتى يظهر المعنى الكامن والمستتر...والذي يعبِّر عن الوجه الآخر، الوجه الخفي للإنسان)([27]) .

    وقد ارتبط التأويل بهذا المعنى - الأحلام والرؤى – في القرآن الكريم في آيات عدة لا سيما في سورة يوسف المباركة إذ تكرر فيها هذا اللفظ وحمل الدلالة ذاتها.

   أما اتجاهات العلماء والمحققين في التأويل فقد كثرت وتشعبت واتسعت قديما وحديثا.. لمتابعة المزيد اضغط هنا


الدكتورة نهضة الشريفي  

الهوامش:


([1]) العين , أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت: 175هـ) تحقيق: مهدي المخزومي– إبراهيم السامرائي : 8/ 359
([2]) ديوان أبو النجم العجلي, الفضل (أو المُفضّل) بن قُدامة بن عُبيد الله بن عُبيدة بن الحارث العِجلي(ت:130هـ)  من بني عجل بن لُجيم البكريين, راجز شاعر أموي. لا يُعرف كثير عن نشأته الأولى إلا أنه كان ينزل في سواد الكوفة، وكان يتردد على المساجد، واشتهر بقول الرجز – تحقيق: محمد اديب عبد الواحد جمران , 1427هـ - 2006م , مجمع اللغة العربية – دمشق : 350 , وشطر الرجز السابق عليه : كأن في أذنابهن الشوّلِ
([3]) العين : 8/ 358
([4]) م . ن : 8/ 369 , والبيت من تهذيب اللغة : 15/ 459 وقائله الصحابي الجليل عمار بن ياسر (( روى الأعمش، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: شهدنا مع علي عليه السلام صفين، فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد من أودية صفين، إلا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله يتبعونه، كأنه علم لهم، وسمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة: يا هاشم، تقدم الجنة تحت البارقة. اليوم ألقى الأحبة - محمدا وحزبه . والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل، ثم قال:
نحن ضربناكم على تنزيله - فاليوم نضربكم على تأويله)) المصدر: شرح نهج البلاغة, لابن أبي الحديد المعتزلي: 10/ 104
([5]) تهذيب اللغة , أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، (ت : 370هـ) , تحقيق: محمد عوض مرعب , دار إحياء التراث العربي – بيروت , ط: 1، 2001م : 15/ 442
([6]) ظ تهذيب اللغة : 15/ 437
([7]) لسان العرب : 1/32
([8]) معجم التعريفات , علي بن محمد السيد الشريف الجرجاني(ت: 816هـ 1413م) , تحقيق: محمد صديق المنشاوي, دار الفضيلة , القاهرة : 46
([9]) الإحكام في أصول الأحكام , علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي (ت: 456ه) , تحقيق: أحمد محمد شاكر, دار الآفاق الجديدة, بيروت: 1/ 42
([10]) الحدود في الأصول, الحافظ أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي, تحقيق: نزيه حماد, ط:1 , لبنان – بيروت, 1392هـ - 1973م : 48
([11]) م . ن : 1/ 42
([12]) نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر, جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي, تحقيق محمد عبد الكريم كاظم الراضي, مؤسسة الرسالة ,  ط:1 , 1404هـ , بيروت: 216
([13]) م . ن : 217
([14]) الاتقان في علوم القرآن , السيوطي : 2/ 346
([15]) نظرية القراءة ، عبد المالك مرتاض,  دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران ط: 1، 2003م : 184.
([16]) ظ ابن رشد فيلسوفا معاصرا، بركات محمد مراد, 2002م , مصر العربية للنشر و التوزيع، القاهرة : 155.
([17]) فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال , أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد , قدم له وعلق عليه: الدكتور ألبير نصري نادر , ط:2 , دار المشرق, 1986 , بيروت – لبنان : 35
([18]) سورة الإسراء : 35
([19]) القرآن في الإسلام , الطباطبائي : 59
([20]) التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب , محمد هادي معرفة, تنقيح: قاسم النوري, ط2 – 1425ه : 1/ 21
([21]) ظ التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب , محمد هادي معرفة : 1/ 22
([22]) ظ الميزان في تفسير القرآن , محمد حسين الطباطبائي : 3/ 31
([23]) المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق , محمد حسين علي الصغير : 23
([24]) المعجم الموسوعي للتحليل النفسي , عبد المنعم الحفني , إشراف: غسان شديد , دار نوبليس – بيروت ط: 1 , , 2005م : 1/ 113
([25]) م . ن : 1/ 114  
([26]) فصول في القراءة والتأويل , مليكة دحامنية, أطروحة دكتوراه, 2010- 2011 , الجزائر: 54
([27]) م . ن : 55

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات