أبو حامد الغزالي متكلماً
اصطلح العلماء على " الكلام" تسميته بهذا الاسم ؛ لأنه ينشئ جدلا وحجاجا في الشرعيات،
والكلام هو مقابل للفعل، وأصحاب هذا المذهب يبدو كلامهم نظريا، لأنهم يتكلمون عن أشياء
ليس تحتها عمل، بخلاف الفقهاء وعلماء الدين الذين يبحثون في الأحكام الشرعية والعملية.
وأهل هذا العلم يسمّون بالمتكلمين ويسمّون كذلك
بعلماء التوحيد، ويطلقون على هذا العلم اسم:( علم الإلهيات الإسلامية) كونه يبحث في
ذات الله وصفاته وأفعاله وكل ما يتعلق بالعقيدة والدين.
الجويني أستاذ الغزالي:
درس الغزالي علم الكلام على يد أستاذه المجدد في المذهب الأشعري
الجويني، ولكنه لم يقلده فيما أخذ منه بل تعمق في مذهب الأشعري تعمقاً كبيراً حتى صار
له نظرته المستقلة، وافق الأشعري في بعض المسائل وخالفه في بعضها، كما أخذ ينتقد المتكلمين
على مؤاخذتهم العوام بعلم الكلام وتكليفهم بمعرفة الدلائل الكلامية، والتقسيمات المرتبة،
وأن من يجهل ذلك، ولم يعرف الله عن طريق الكلام والأدلة المحررة فهو ناقص في دينه أو
شاك في يقينه([1])
.
الغرض من علم الكلام:
إن الغرض من
علم الكلام بالنسبة للغزالي هو حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة والرد
على المبتدعة الذين ألقى الشيطان في نفوسهم أمورا مخالفة للسنة , يتبين
ذلك من خلال تصريحه في كتابه " المنقذ من الضلال":
(ثم إني ابتدأت بعلم الكلام فحصلته، وعقلته، وطالعت
كتب المحققين منهم، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف، فصادفته علما وافيا بمقصوده، غير واف
بمقصودي، إنما المقصود منه حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة.
فقد ألقى
الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عقيدة أهل الحق، على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم،
كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار، ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورا مخالفة
للسنة، فلهجوا بها، وكادوا يوشوشون عقيدة الحق على أهلها.
فانشأ
الله تعالى طائفة المتكلمين، وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات
أهل البدع المحدثة على خلاف السنة المأثورة، فمنه نشأ علم الكلام وأهله... فلم يكن
الكلام في حقي كافيا ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيا)([2]).
واعتبر أن علم الكلام حلال مندوب أو واجب باعتبار منفعته ، وحرام باعتبار مضرته
( أن فيه منفعة وفيه مضرة، فهو باعتباره منفعته في وقت الانتفاع حلال أو مندوب إليه
أو واجب كما تقتضيه الحال، وهو باعتباره مضرته في وقت الاستضرار حرام )([3])
.
نقد الغزالي للمتكلمين:
قال الغزالي
في كتابه "فيصل التفرقة":
(ومن أشد الناس
غلواً وإسرافاً، طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لا يعرف الكلام
معرفتنا ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتنا التي قررناها فهو كافر.
فهؤلاء ضيقوا رحمه الله الواسعة على عباده أولاً،
وجعلوا الجنة وقفاً على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواتر من السنة ثانياً،
إذ ظهر في عصر رسول الله وعصر الصحابة حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين
بعبادة الوثن، ولم يشتغلوا بعلم الدليل ولو اشتغلوا فيه لم يفهموه ومن ظن أن مدرك الإيمان
الكلام والأدلة المجردة والتقسيمات المرتبة فقد بعد عن الإنصاف ، بل الإيمان نور يقذفه
الله في قلوب عباده عطية وهدية من عنده )([4]).
وقال في "
إلجام العوام عن علم الكلام": ( فأدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان، وأدلة
المتكلمين مثل الدواء، ينتفع به آحاد الناس ويستضر به الأكثرون، بل أدلة القرآن كالماء
الذي ينتفع به الصبي الرضيع والرجل القوي، وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء
مرة، ويمرضون بها أخرى، ولا ينتفع بها الصبيان أصلاً )([5]) .
العقيدة وعلم الكلام:
لم يجد الغزالي ضالته المنشودة في علم الكلام
ورآه غير واف بمقصوده، إذ لم يكن علم الكلام مقنعا للغزالي فظل يبحث عن الحقيقة وانتقل
إلى الصنف الثاني من طالبي الحقيقة وهم الفلاسفة.
وإذا كانت الغاية من علم الكلام عند الغزالي
حفظ عقيدة أهل السنة عن تشويش المبتدعة فإنه لا يحتاجه أصحاب الفطر السليمة ومن لم
تطرأ لهم شبهة كالصغار مثلا , وهذا ما صرح به الغزالي فذكر انه ينبغي تلقينهم
العقيدة بعيدا عن علم الكلام وأدلة المتكلمين , وشرح ذلك في كتابه "إحياء
علوم الدين" فقال :
( فابتداؤه الحفظ ثم الفهم ثم الاعتقاد
والإيقان والتصديق به, وذلك مما يحصل في الصبي بغير برهان, فمن فضل الله سبحانه
على قلب الإنسان أن شرحه في أول نشوئه للإيمان، من غير حاجة الى حجة وبرهان)([6]).
وأكّد
الغزالي البُعد الفطري الذي أودعه الله تعالى للبشر، وانتفاء الحاجة للأدلة
والبراهين في الاعتقاد بالله، (وكيف ينكر ذلك وجميع
عقائد العوام مبادئها التلقين المجرد والتقليد المحض؟ نعم يكون الاعتقاد الحاصل
بمجرد التقليد غير خال عن نوع من الضعف في الابتداء على معنى انه يقبل الإزالة
بنقيضه لو ألقي إليه, فلا بد من تقويته وإثباته في نفس الصبي والعامي حتى يترسخ
ولا يتزلزل)([7]).
وهنا
رسم الغزالي طريقا آخر بمنأىً عن علم الكلام لتقوية العقيدة: (وليس الطريق في
تقويته وإثباته أن يعلم صنعة الجدل والكلام, بل يشتغل بتلاوة القرآن وتفسيره
وقراءة الحديث ومعانيه, ويشتغل بوظائف العبادات, فلا يزال اعتقاده يزداد رسوخا بما
يقرع سمعه من أدلة القرآن وحججه، وبما يرد عليه من شواهد الأحاديث وفوائدها، وبما
يسطع عليه من أنوار العبادات ووظائفها، وبما يسري اليه من مشاهدة الصالحين
ومجالستهم)([8]).
حاجة العوام الى علم الكلام:
لم يقتصر رفض الكلام عند الغزالي على
الصبيان، بل أدخل العوام أيضا من سائر الناس, فأكد عدم حاجة العوام الى علم الكلام،
لذلك ألّف كتابه " إلجام العوام عن علم الكلام " وهو واضح الدلالة على
مراده من خلال عنوانه.
وسبب تأليفه لهذا الكتاب انه سئل عن الأخبار
الموهمة للتشبيه وعن اعتقاد الرعاع والجهال من الحشوية حيث اعتقدوا في الله وصفاته
ما يتعالى الله عنه , فنسبوا له الصورة واليد والنزول والانتقال والجلوس
والاستقرار , وزعموا ان معتقدهم هذا هو معتقد السلف .
فشرع يبين اعتقاد السلف وما يجب على عموم
الخلق ان يعتقدوه في هذه الأخبار من أجل التمييز بين ما يجب البحث عنه وما يجب
الامساك والكف عن الخوض فيه , فلخص مذهب السلف في عدة نقاط , فكل من بلغه حديث من
هذه الأحاديث الموهمة للتشبيه من عوام الخلق يجب عليه سبعة امور:
(
التقديس ثم التصديق ثم الاعتراف بالعجز ثم السكوت ثم الامساك ثم الكف ثم التسليم
لأهل المعرفة, فهذه سبعة وظائف اعتقد كافة السلف وجوبها على العوام )([9]).
ان الايمان عند الغزالي هو الاعتقاد الجازم
بما جاء به رسول الله9وما
جاء به القرآن ولو لم يعرف أدلته, وقد رد على المتكلمين الذين قصروا الإيمان على
طائفة من المتكلمين وكفّروا عوام المسلمين , وزاد نقده لعلم الكلام ولأدلة
المتكلمين بقوله :
(فأما الكلام المحرر على رسم المتكلمين فإنه
يشعر نفوس المستمعين بأن فيه صنعة جدل
يعجز عنه العامي لا لكونه حقا في نفسه , وربما يكون ذلك سببا لرسوخ العناد في
قلبه)([10])
.
أولا: حراسة عقيدة العوام
وفي معرض ذكره مسألة حاجة الناس الى علم الكلام
لخص لنا مهمته بكلمات قليلة هي : حراسة عقيدة العوام عن تشويه المبتدعة , فليست
مهمته إثبات العقائد بل حراستها من المبتدعة , وفصّل الكلام فيها في كتابه المنقذ
من الضلال , يمكن إجمالها بما يأتي([11])
:
ـــ
ألقى الله تعالى الى عباده على لسان الرسل عقيدة هي الحق ثم ألقى الشيطان في وساوس
المبتدعة أمورا مخالفة للحق فكادوا يشوشون عقيدة الحق .
ـــ
هيأ الله تعالى طائفة المتكلمين وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن
تلبيسات أهل البدع المحدثة على خلاف السنة المأثورة , فمنه نشأ علم الكلام وأهله .
ـــ
قام طائفة من المتكلمين بما ندبهم الله تعالى اليه فأحسنوا الذب عن السنة والنضال
عن العقيدة المتلقاة بالقبول من النبوة والتغيير في وجه ما أحدث من البدعة .
ـــ
اعتمد المتكلمون في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم , وكان أكثر خوضهم في
استخراج تناقضات الخصوم ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم .
ـــ
لما نشأت صنعة الكلام وكثر الخوض فيه وطالت المدة تشوق المتكلمون الى محاولة الذب
عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور, وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها ,
لكن لم يكن ذلك مقصود كلامهم ولم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى , فلم يحصل منه ما
يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق .
ثانيا: ضرر الكلام على العوام
إن منفعة الكلام تظهر في نوع واحد هو حراسة
العقيدة على العوام وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل, فإن العامي ضعيف
يستفزه جدل المبتدعة وإن كان فاسدا، ومعارضة الفاسد بالفاسد تدفعه([12])
.
فالغزالي يرى ان الضرر فيه أكبر, يمكن
تصنيفها إجمالا في أمور حسب الرؤية الغزالية :
ـــ
ضرره على الاعتقاد الحق وذلك بإثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم
والتصميم .
ـــ
تأكيد اعتقاد المبتدعة فيثبت البدعة في قلوبهم بحيث يشتد حرصهم على الإصرار عليها
, فالهوى والتعصب وبغض الخصوم يستولي على قلب المتكلم ويمنعه من إدراك الحق أو
التسليم له .
ـــ
يتضمن مجادلة مذمومة وهي من البدع .
ـــ
يقوم على المشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق لها وتطويل بنقل المقالات التي أكثرها
ترّهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماع .
ـــ
يشتمل على الخوض فيما لا يتعلق بالدين ولم يكن شيء منه مألوفا من العصر الأول .
اذن تكمن منفعة الكلام في منظور الغزالي في
أمر واحد هو حراسة العقيدة وحفظها من تشويشات المبتدعة, وبالتالي فإنه لا يحرّم
الكلام مطلقا بل يرى انه حرام في حق أكثر الناس, إلا انه قد يكون واجبا كفائيا أو
عينيا , ولذلك شبه المتكلم بالطبيب بقوله: ( ينبغي أن يكون كالطبيب الحاذق في
استعمال الدواء الخطر إذ لا يضعه الا في موضعه, وذلك في وقت الحاجة وعلى قدر
الحاجة)([13]).
الدكتورة
نهضة الشريفي
الهوامش:
تعليقات
إرسال تعليق