القائمة الرئيسية

الصفحات

الشّكر ودلالاته في القرآن والسنة



الشّكر ودلالاته في القرآن والسنة

    الشُّكر لغةً: مصدر شكر، وهو تَصَوُّرُ النِّعْمَةِ وإظهارُها، ونقيضه الكفر أي كفر النعمة وجحودها، والشكر في القرآن الكريم هو عبادة الله تعالى حمدا له وثناءً عليه وامتنانا لفضله العظيم.

حقيقة الشكر:

    قال الفخر الرازي: الشكر هو عبارة عن الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة .

    والشكر نصف الايمان كما انّ الصبر نصفه الآخر، إذ انّ المؤمن بين نعمة فيشكر، ونقمة فيصبر، ومن هنا نجد اقتران الشكر بالصبر في جملة من الآيات والروايات ، منها قوله تعالى:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} لقمان31 .
وقوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } الشورى33
    ولما سئل الإمام الصادق عليه السلام عن أكرم الخلق على الله قال: ((مَن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر)).

    وحقيقة الشكر: أن يفرح المؤمن بالمُنعم لا بالنِعم، وهي الاعتراف بنعمة المنعم على سبيل الخضوع، وأن تكون حركات العبد وسكناته وخواطره ومشاعره كلها موجهة للخير وفي سبيل الله .

    وقيل ان حقيقة الشكر عبارة عن عرفان كلّ النعم من الله عزّ وجلّ وصرفها في جهة محبّته ، وإنّه من جنود العقل ومن الفضائل الاخلاقيّة ، ويقابله الكفران ، فانه من الرذائل ومن جنود الجهل .

    قال العلاّمة النراقي في كتابه جامع السعادات حول حقيقة الشكر: لما كانت حقيقة الشكر عبارة عن عرفان كل النعم من اللّه تعالى مع استعمالها في طريق محبة اللّه، فإن الشكر على كل نعمة أن تعرف كونها من اللّه وتعمل بها في جهة محبته تعالى ورضاه .

    ولا شك في أن هذه المعرفة والعمل بها أيضا نعمة من اللّه، إذ جميع ما نتعاطاه باختيارنا نعمة من اللّه، فإن جوارحنا، وقدراتنا، وإرادتنا، وعلومنا ومعارفنا، وسائر أمورنا من اللّه، وعلى هذا فالشكر على كل نعمة نعمة أخرى من اللّه تحتاج إلى شكر آخر، وكيفية هذا الشكر ان نعرف أن هذا الشكر أيضا نعمة من اللّه تعالى فنفرح به ونعمل بمقتضى فرحنا.

    وهذه المعرفة والفرح تحتاج إلى شكر آخر، وهكذا، فلا بد من الشكر في كل حال، ولا يمكن ان تنتهي سلسلة الشكر هذه إلى ما لا يحتاج إلى شكر، ومن هنا لابد للعبد ان يعرف عجزه عن أداء حق شكره تعالى .

زيادة النعم الناتجة عن الاشتغال بالشكر:   

    الشكر موجب لدفع البلاء وازدياد النعماء، وقد وردت آيات وروايات عديدة في الترغيب الشديد به، والتصريح بزيادة النعم عقيب الشكر، منها قوله تعالى:

]وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[ إبراهيم 7 ،
    وعن الإمام الصادق عليه السلام: ((من أعطى الشكر أعطي الزيادة)).
    وعنه عليه السلام أيضا: ((ما أنعم الله على عبد بنعمة فعرفها بقلبه وحمد الله ظاهراً بلسانه فتم كلامه حتى يؤمر له بالمزيد)) .

    قال العلاّمة الآلوسي لدى تفسيره للآية الكريمة ]وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ...[: { لَئِن شَكَرْتُمْ } ما خولتكم من نعمة الإنجاء من إهلاك وغير ذلك، وقابلتموه بالإيمان أو بالثبات عليه أو الإخلاص فيه مع العمل الصالح، سيقابله الله تعالى بـ { لأَزِيدَنَّكُمْ } نعمة إلى نعمة، فإن زيادة النعمة ظاهرة في سبق نعمة أخرى.

    وقيل: يفهم ذلك أيضاً من لفظ الشكر؛ فإنه دال على سبق النعم، فليس الزيادة لمجرد الإحداث، والظاهر ان هذه الزيادة في الدنيا، ويحتمل أن تكون في الدنيا وفي الآخرة، وليس ببعيد، فجعل اللّه الشكر سببا للمزيد من النعم.

أقسام الزيادة في النِعم:

    الزيادة في النِعم على قسمين:

النعم الروحانية:

    النعم الروحانية هي أن الشاكر يكون أبداً منشغلا في النظر إلى أنواع نِعم الله تعالى وفضله وكرمه، فشغل النفس بتأمل فضل الله وإحسانه يوجب تأكّد محبّة العبد لله تعالى، ولا شك أن مقام المحبّة من المقامات العليا للصديقين.
    وقد يترقى العبد من حالة التأمل والتنعّم بنِعم الله تعالى إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلاً له عن الالتفات إلى النعمة، وهنا يكمن منبع السعادات وعنوان كل الخيرات، وهو محبة الله تعالى ومعرفته.
    إذن يمكن القول أن الاشتغال بالشكر يوجب المزيد من النعم الروحانية.

النعم الجسمانية:

    المقصود من النعم الجسمانية: كل من كان اشتغاله بشكر نِعم الله تعالى أكثر، كان وصول نعم الله إليه أكثر.
    وعلى العموم فالشكر إنما حسن موقعه، لأنه اشتغال واستغراق بمعرفة المعبود، وكل مقام انتقل فيه العبد من عالم الغرور إلى عالم القدس، فهو المقام الشريف العالي الذي يوجب سعادة الدارين



أنواع الشكر:

    قال ابن قيم الجوزية في حقيقة الشكر في العبودية : هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناء واعترافا، وعلى قلبه شُهودا ومحبة , وعلى جوارحه انقيادا وطاعة .
   وبهذا فقد قسم الشكر على ثلاث:
(1)          الشكر باللسان ثناءً واعترافاً: وهو ان تلهج بلسانك دوما بالحمد والثناء على الله تعالى، والذكر والدعاء لله المنعم .
(2)      الشكر بالقلب شهودا ومحبة: وهو أن تضمر في قلبك الخير والمحبة لجميع الناس .
(3)         الشكر بالجوارح انقيادا وطاعة: وهو الشكر العملي، ومصداقه الواضح قوله تعالى ]اعملوا آل داود شكرا[.

    وشكر الجوارح من أرقى أنواع الشكر، فشكر نعمة البصر، أن نستعمل هذه النعمة في طاعة الله دون معصيته، وشكر نعمة المال، ان ننفقه في سبيل الله، ونعرف حق الفقير والمسكين، وشكر نعمة القوة، ان ننتصر للمستضعفين وان ندافع عن الدين، وشكر نعمة الذرية ان نحسن تربيتهم... وهكذا.

الشكر في القرآن الكريم:

    وردت مفردة الشكر بصيغ متنوعة في الآيات القرآنية، فجاءت مفردا وجمعا واسما وفعلا ومصدرا ، وجميعها تحمل في دلالاتها حثّ وترغيب للإنسان بأن يتحلى بهذه الفضيلة الراقية، وسوف ننتخب جملة من هذه الآيات:

1.  الله تعالى يحثّ العبد على الشكر على النعم التي أغدقها عليه:

{وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } النحل78
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } سبأ15
{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ } يس73

2.  من حكمة الشكر وفلسفته ان العبد حين يشكر الله تعالى تعود الفائدة له لا لله؛ لأن الله غني عن شكر العبد:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } لقمان12
{مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً} النساء147
]وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ[ النمل40

3.  اقتران الشكر بالعقيدة وتوحيد الله وعبادته:

{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } العنكبوت17
{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ } الزمر66
{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ } الأعراف144

4.  دعاء العبد وتضرعه الى الله تعالى ليكون من الشاكرين إن استجاب دعائه:

]دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } الأعراف189
{قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } الأنعام63
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } يونس22

5.  ليس من اليسير الوصول إلى منازل الشاكرين ومقامهم:

     فهذا المقام يحتاج الى إيمان راسخ، وترويض للنفس، وإخضاع الجوارح والجوانح الى أوامر العقل والشرع؛ وبهذا قلّ الشاكرون, وبتصريح القرآن الكريم فإن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ:
]إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ }يونس60
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } الأعراف10
{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } المؤمنون78
   {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ }النمل73
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } غافر61

الشكر في السنّة الشريفة:

    كثرت الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله، وعن أهل بيته عليهم السلام بشأن الشكر وفضله وكيفيته، وسوف نقتطف باقة من رياحينها لنتعرف منزلة الشكر والشاكرين وبعض أسراره وكنوزه :

(1)          كيف نشكر الله حق شكره؟

-      ورد في الكافي للكليني عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (( أوحى الله عزّ وجل إلى موسى عليه السلام: يا موسى اشكرني حق شكري. فقال: يا رب وكيف أشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به علي، قال: يا موسى الآن شكرتني حيث علمت أن ذلك مني)) .

-      وقال عليه السلام أيضا: ((من أنعم الله عليه نعمة فعرفها بقلبه ، فقد أدّى شكرها)) .
-      وقال عليه السلام أيضا: ((شكر النعمة اجتناب المحارم، وتمام الشكر قول الرجل ]الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ[ )) .

-      وقال الإمام الكاظم عليه السلام: ((من حمد الله على نعمة فقد شكره، وكان الحمد أفضل من تلك النعمة)) .
-      وعنه عليه السلام أيضا: ((كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا ورد عليه أمر يسرّه قال: الحمد لله على هذه النعمة، وإذا ورد عليه أمر يغتم به قال: الحمد لله على كل حال)) .

(2)          ثبات النعم ودوامها بالشكر:

-      قال الإمام الصادق عليه السلام: ((لا زوال للنعماء إذا شكرت ولا بقاء لها إذا كفرت ، والشكر زيادة في النعم ، وأمان من الغير))
-      وعنه عليه السلام أيضا: ((ثلاث لا يضر معهن شيء: الدعاء عند الكرب، والاستغفار عند الذنب، والشكر عند النعمة)) .

-      وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وآله عند عائشة ليلتها فقالت: يا رسول الله لِمَ تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً)) .
-      وعن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: (( بالشكر تدوم النعم)).

    والخلاصة، أنّ الشكر هو أصل كل سعادة وبركة إلهية ، لأنّه يعمل على تقريب العبد الشكور شيئا فشيئا من المنعم ، ويوثق أواصر المحبّة بين العباد وخالقهم ، وهو السبيل القويم الى التقوى والفلاح في الدارين.

الدكتورة نهضة الشريفي

المصادر:
لسان العرب: ابن منظور الأفريقي
الأخلاق في القرآن: ناصر مکارم الشیرازي مفاتيح الغيب، الفخر الرازي
جامع السعادات: العلاّمة النراقي
روح المعاني: أبو الثناء الالوسي
كتاب الكافي: الكليني
حقيقة الشكر وأقسامه وطرق تحصيله: السيد عبد الله شبر
حقيقة الشكر لغةً ومصطلحاً: موقع مكتب السيد عادل العلوي




هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات