القائمة الرئيسية

الصفحات

الإيمان في الديانات السماوية والوضعية



الإيمان في الديانات السماوية والوضعية



                                        الإيمان في الديانات السماوية والوضعية

دراسات حديثة حول تنوع الديانات :

    ضمن دراسات متعلقة بموضوع تنوع الديانات والاعتقادات, ناقش بعض الباحثين المعاصرين مسألة اختلاف أنماط العلاقة الإنسانية بالله تعالى, وبحثوا كيفية استيعاب ديانات العالم فكرة "الله الواحد" أو "الحقيقة المطلقة" ، سواء الديانات قبل الإسلام أو بعده .

     فذكروا ان هذه العلاقة تمارَس عبر مفهومين , الأول : المفهوم الإيماني, وهو الأسلوب الإيجابي الذي يضفي على الحقيقة المطلقة صفات الخالق القادر المتعالي الرحيم, أما الثاني: فهو المفهوم اللاإيماني السلبي, الذي يرى الحقيقة المطلقة من دون صفات المتعالي والكامل والمطلق , وتمثله أشهر الديانات في العالم، وأغرب الديانات في الهند، والديانة البوذية والكونفوشيوسية والفلسفة الطاوية, وما أشبه ذلك([1]) . 

    إن الديانات العالمية ميزت بين "الحقيقة المطلقة"  و"الحقيقة المكيفة" , فالأولى أكثر حقيقة من الأخرى, بمعنى أن المكيفة تعتمد على المطلقة في تكوينها وإحيائها, فالمطلقة لا نهاية لإمكانياتها ولا حدود لقدرتها , وتعتلي الحقيقة المطلقة قمة الهرم في القيم الدينية, ويمكن القول ان الإيمان بها هو القيمة الموجهة للحياة, التي تميز بين النظرة الروحانية والنظرة العلمانية للعالم([2]) .

مصطلح اللاإيمانية :  

    في الواقع لابد من وقفة نقدية عند هذه المقولات, فإنّ فرض مصطلح اللاإيمانية على الواقع العملي غير مستساغ وغير مقبول منطقيا ؛ لأن كل الديانات الوضعية إنما تؤمن بمجموعة اعتقادات وطقوس نسجتها حولها لتبجيلها والتعبد بها وممارستها على النطاق التطبيقي, وهذا هو الإيمان، أو  هذه هي نوع حالة إيمانية على أية حال .

    ومن هذا المنطلق نتساءل: هل يمكن إطلاق وصف "الإيمان السلبي" على المفهوم اللاإيماني , لمجرد تخفيف وقع مصطلح "اللاإيمان" ؟ الجواب : لا , حتى هذا الوصف إنما يصحّ بلحاظ معين, وإلا فإن أصحاب الاتجاه المسمى باللاإيماني يعتقدون أن ديانتهم محقة وإيجابية ولا يسمحون بأي حال إسباغ المعنى السلبي عليها،  ولعل نعت الحقيقة بـ"المطلقة" و"المكيفة" أقرب للنفس ويعبر عن المقصود الى حدّ ما .

ثقافة اللاإيمان :

    ثمة من يعمل على إشاعة مصطلح - اللاإيمانية - وتداوله , بل الأنكى من ذلك هو عدّه "ثقافة" !! فقد صدر في سنة 1993م كتاب للمفكر الأمريكي ستيفن كارتير يحمل عنوان "ثقافة اللاإيمان"([3]) , الأمر عجيب حقا !! هل ننتظر من الكفر والزندقة أن تولّد ثقافة ؟ 

    اللاإيمان يعني عدم الإيمان الذي يقابل الكفر وجها لوجه, فمن أين يأتي بالثقافة وهو عدم ؟ معلوم ان فاقد الشيء لا يعطيه , ولكن (ومع العولمة فإن ثقافة اللاإيمان أو اللااعتقاد تفرض نفسها في كل مكان...إن ثقافة اللاإيمان المنتشرة في الغرب انتشارا كبيرا تضغط على الجهود المبذولة حاليا من أجل الاستملاك النقدي لثقافة الإيمان وتجعلها تبدو زهيدة ماضوية عفا عليها الزمن)([4]) , وهذا ما يأباه العقل الفطري السليم, إلا أن نقول ان مفهوم الثقافة قد تبدل وتحول, ولم يعد يحمل تلك القيمة الإيجابية المعطاءة .

    وإذا كان مصطلح "الثقافة" يماثل "الحضارة" من وجه؛ لاشتماله على الفنون والمعتقدات والاختراعات واللغة والتقنية والأعراف والعادات والتقاليد([5]), فمن أي عنصر منها تنشأ ما تسمّى "ثقافة اللاإيمان" ؟ !! بل ثمة من يستعمل مصطلحي الحضارة والثقافة كلفظين مترادفين كما فعل مثلا أحد أعلام الأنثروبولوجيا إبّان القرن التاسع عشر, وتبعه في ذلك جمع كبير من الأنثروبولوجيين([6]) .
    وقد تتسبب عوامل في تغير الثقافة, منها: التغيرات البيئية, الاحتكاك بالثقافات الأخرى, الاختراعات, التطورات التي تحدث في داخل الثقافة ذاتها([7]) .



نظام اللاإيمان :

     في الساحة العملية نجد من يترقى بمصطلح اللاإيمان ويعدّه نظاما !! فقد تحدّث المفكر الأمريكي ميلتون روكيش حول نظام اللاإيمان ضمن سلسلة بحوثه, وبيّن علاقته بالدوغمائية الناتجة عن "الصرامة العقلية" , فعرّف الأخيرة بأنها (عدم قدرة الشخص على تغيير جهازه الفكري أو العقلي عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك, وعدم القدرة على إعادة ترتيب أو تركيب حقل ما تتواجد فيه عدة حلول لمشكلة واحدة وذلك بهدف حل هذه المشكلة بفاعلية أكبر)([8]) .

    والدوغمائية أو الدوجماطيقية (Dogmatism) مصطلح معاصر يبثّ دلالة سلبية ظلامية, وصار شائعا استعماله في وصف الروح المنغلقة في مقابل الروح المنفتحة على فكرة تعدد الحلول لإشكال ما, لذا قيل في تعريف لهذا المصطلح بأنه (حيلة فكرية مخاتلة قائمة على تأكيد المرء لمعتقداته بأمر وسلطان, ودون القبول بأنها قد تحتمل شيئا من النقص أو الخطأ)([9]) .

    وصم روكيش العقلية الدوغمائية بأنها قائمة بشكل أساس على ثنائية ضدية حادة, تتمثل في نظام من الإيمان أو العقائد في مقابل "نظام" من اللاإيمان واللاعقائد, فالعقلية الدوغمائية ترتبط بشدة وصرامة بجملة من المبادئ العقائدية, وتتنكر بنفس الشدة والصرامة لجملة أخرى من العقائد وتعدّها لاغية لا معنى لها, وتدخلها في دائرة الممنوع التفكير فيه, فتتراكم بمرور الأجيال والأزمان على هيئة لامفكر فيه([10]) .

    ووصْف اللاإيمان بأنه نظام فيه تعسف وإجحاف بحق هذا اللفظ الذي يدخل (في كل شيء حتى يقال ليس لامرئ نظام أي لا تستقيم طريقته, والنظام الخيط الذي ينظَم به اللؤلؤ...وليس لأمرهم نظام أي ليس لهم هدى ولا متعلق ولا استقامة)([11]) , واللاإيمانيون هم من ليس لهم هدى ولا استقامة وبالتالي ليس لهم نظام .

وأخيرا وليس آخرا :

    إن المفهوم الإيماني متشعب المسالك متكثر الطرق واسع الأبعاد والتفريعات , ويعزى ذلك الى تنوع المعتقدات, ومدى رسوخها في النفس, وطبيعة الثقافة, والبيئة, وقابلية الاستيعاب والاستعداد النفسي والذهني, وما يماثلها من العناصر المؤثرة في فكر الإنسان ومسار توجهه على مرّ التاريخ.

    من هنا ينبغي أن يكون محل تأملنا واهتمامنا الدائرة الأولى من الإيمان , وبحسب الوصف الأول "المفهوم الإيماني" , ولكن ليس الاتجاه الإيماني المقابل لاتجاه آخر يوصم باللاإيمانية .

                                                               الدكتورة نهضة الشريفي

الهوامش :  



([1]) ظ  تراثنا الروحي: من بدايات التاريخ إلى الأديان المعاصرة , سهيل بشروئي ومرداد مسعودي :12
([2]) ظ م . ن : 13
([3]) ظ الفكر الاصولي واستحالة التاصيل , أركون : 119
([4]) م . ن : 119
([5]) ظ الموسوعة العربية العالمية : 8/ 38
([6]) ظ قصة الانثروبولوجيا – فصول في تاريخ علم الإنسان, حسين فهيم , عالم المعرفة , سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, إشراف أحمد مشاري العدواني– الكويت– 1986م : 18
([7]) ظ م . ن : 8/ 43
([8]) الفكر الإسلامي قراءة علمية , أركون : 5
([9]) موسوعة لالاند الفلسفية , أندريه لالاند : 1/ 297
([10]) ظ الفكر الإسلامي قراءة علمية , أركون : 5
([11]) لسان العرب , ابن منظور : 16/ 56

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات