القائمة الرئيسية

الصفحات

علاقات البعد الاعتباري في القرآن الكريم


علاقات البعد الاعتباري في القرآن الكريم

                             علاقات البعد الاعتباري في القرآن الكريم


      الاعتبار في القرآن الكريم هو العنصر الفعال الذي أسبغ عليه القرآن الكريم اهتماما خاصا, ليقوم بمهمة التبليغ ويؤدي عمله المناط به في الهداية الى الصراط المستقيم على المستويات كافة, فما مدى قابليته على الاتساع والشمول ضمن المديات الطبيعية ؟ ما هي علاقته بالأبعاد الأخرى ؟ وما علاقته بالأنواع والأجناس الأخرى ؟

أولا : العلاقة الزمانية 

الماضي : 

      تناول القرآن الكريم كثيرا من القصص حول الأقوام الغابرة وجعلها بمثابة رسالة إنذار وتوجيه الى الناس كافة, وجعل مصائرهم المظلمة دعوة للاعتبار بها, وردعا عن الحذو حذوهم, والسلوك مسلكهم, وعبرة لأولي الألباب .

      إن انتساب هذه القصص وما تحمل من العبر الى الماضي السحيق له تأثيره الكبير في تقويم سلوك الإنسان بيد ان ذلك لا يعني تحجيم البعد الإنذاري والاعتباري بانتسابه الى عنصر الزمن الماضي فحسب, فإن هذا البعد الفعّال الذي يمنح القرآن حياة وحركة لا يمكن أن تحجّمه حقبة أو وجهة زمنية معينة, فإن كان حدّ الزمان هو(إحصاء عدد حركة الفلك بالساعات والأيام والشهور والسنين)[[1]] فإن المسألة الاعتبارية تتسع بسعة القرآن وتتجاوز الحركة الإحصائية باستيعابها عنصري الحاضر والمستقبل .

الحاضر :

     إن القرآن الكريم ـــــ بحكم شموليته وعالميته ـــــ لم يقتصر على الاعتبار بالأمم الغابرة, وإنما كان الزمن الحاضر حيّاً بين أيدي الأمة ــــ في زمن الرسالة ــــ ليعتبر ذوو الألباب والأبصار, يتلمسونه آية إثر آية, وخطوة بعد خطوة.

    فلنتأمل قوله تعالى بشأن حدود معالجته الفساد في الأرض, التي لا تخلو من الجنبة الإنسانية والنفحة الرحمانية في فتح باب التوبة, لكي يعتدل ميزان العدل الإلهي وتتحقق الموازنة في منح فرصة الى المفسدين  للإياب قبل العذاب]إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[[[2]].

      هذا العقاب الدنيوي الرهيب الذي يصيب المحاربين الله ورسوله, والمفسدين في الأرض ــــ وما أكثرهم في زماننا ــــ إنما هو قانون كان حيا حاضرا جارٍ على عرب الجزيرة , وأضحى ماضيا ــــ بالنسبة إليناــــ بين طيات الزمن السحيق, بيد أنه جارٍ بالقوة نفسها على كل مفسد وجاحد , فلنعتبر ونتعظ !! 

المستقبل :

      أما المستقبل فقد شغل المساحة العظمى من كتاب الله تعالى, ويتمثل في  الجزاءات المستقبلية الأخروية التي لا مناص من وقوعها بعد انتهاء زمن الدنيا, وهي الوعد الحق من الحق سبحانه, منها هذه الصور المستقبلية في الآيات الكريمات الآتية :

]وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِير[ [[3]] .

]وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ألْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ[ [[4]].

]وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[[[5]] .

    إن رسم هذه الصور الأخروية وأمثالها التي أنزلها القرآن الكريم في الدنيا , إنما هي لغرض إعادة البشر الى جادة الصواب وتخويفه والاعتبار بها وإعداده للوقوف أمام الله تعالى, فلا ينبغي له أن يكون منّاعا للخير ولا معتدٍ .

      واللاّفت أن معظم الآيات التي تصف اليوم الآخر وعذاب جهنم في القرآن الكريم قد جاءت بصيغة الماضي, وكأن الأمر حاصل لا محالة, وهذا إنما يدل على أن الحاضر والمستقبل معا بحكم الماضي...كيف ؟

      يتقدم الحاضر على الماضي ويحتل موقع الصدارة عادةً بحركته وحضوره وآنيته, فإن قيل إن حدّ (الآن) هو:(وصلة غير منقسمة تصل بين الزمان الماضي والمستقبل)[[6]] يكون الحاضر هو هذه الوصلة غير المنقسمة؛ لأنه حالما يتسمى حاضرا يصير آناً, وسرعان ما يلتحق بقافلة الزمن ويحث الخطى, ويغذّ المسير حتى تتضبّب معالمه ويندرس في متاهات الماضي السحيق, وحالما يختفي الحاضر يحلّ محله المستقبل ليغدو آناً حاضرا, ولسوف ينال ما ناله (الآن القبلي) فيدور مع عجلة الزمن التي أبداً لن تتوقف, فتسحقه وتجعله ركاما ماضيا.

      وهكذا نفهم أن الحياة في كل لحظة تتآكل ثناياها وتنسحق وتتحول الى ماض شيئا فشيئا, فيكون الحاضر والمستقبل بحكم الماضي .



ثانيا : العلاقة المكانية  

       يعرض القرآن الكريم آيات عديدة لإظهار مواطن العظة والعبرة,  وتقديمها لبني البشر, كي يتلمسوا عبرها طريق الحق ليعبروا الصراط المستقيم , من مثل أقوام نوح وعاد وثمود الذين احتل كلّ منهم بقعة من بقاع الأرض, في العراق, في الشام, في اليمن, صالوا وجالوا, وانحرفوا عن جادة الحق, وكذبوا أنبياءهم, ثم أبيدوا بسوء أعمالهم ففنيت حضاراتهم, وانمحى أشخاصهم, وخوت بيوتهم, كأن لم يغنوا بالأمس, ولسوف يكون إيابهم ومعادهم في مكان آخر وعالم آخر يسمى الآخرة, يوم تبدل الأرض غير الأرض, ويكبّون على وجوههم في جهنم وبئس المصير.

    فلنتأمل هذا المعنى العظيم في الآيات الكريمات التي أوردناها قبل قليل ]وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ألْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ[ [[7]] .

      وهكذا نفهم أن الاعتبار والاتعاظ لا ينبغي تحديده, بل يستحيل تحجيمه بمكان محدد سواء أكان في هذه الأرض على سعتها, أم في الدار الآخرة المترامية الأطراف الشاسعة الأبعاد التي لا يعرف مبدؤها ومنتهاها إلا علاّم الغيوب, وإنما وصف المصير الأخروي للظالمين والكافرين الينا نحن البشر في هذه الدنيا لنعتبر .

      وهكذا نرى أن في كل موضع وموطن درس وعبرة .

ثالثا : العلاقة مع الأجناس الأخرى

      عندما يقول تعالى]إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً[[[8]] فهل نفهم منه اقتصار التبليغ على بني آدم ؟ ألا يحتمل أن يكون المؤمنون المعنيون في الآية الكريمة من غير جنس البشرــــ فضلا عن البشرــــ فتجري عليهم نفحات الهداية ويخضعون لناموس العظات والعبر؟

      ما أكثر العوالم الخافية على بني آدم ؟!! والمشهود منها مرسوم في القرآن بين طيات آياته المباركة, فعالم الجن مثلا, انضوى كثير منهم تحت لواء لا إله إلا الله, وأقر بنبوة محمد(ص), يشهد بذلك قوله تعالى]قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً[[[9]] .

      وعالم الملائكة, عالم ملكوتي دؤوبٌ يعجّ دويّه في السماء, وفي الأرض, خشوعا بين تهليل وتسبيح, سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح, ]وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[[[10]], هذه الصورة تحفز البشر لتتطاول أعناقهم للوصول الى المرتبة الملائكية, بل أسمى منها؛ لأن الله تعالى أودع فيه القابلية للسمو فوق مستوى الملائكة .

    وهناك أيضا عالم الحيوان, وعالم النبات, وعالم الجماد, وعوالم أخرى لا يعلمها إلا خالقها]وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ[[[11]] , وبعد, فإن أقصى ما نعلمه نحن البشرــــ كما علّمنا القرآن ـــ أن الجبال والطير والطبيعة كانت تسبّح مع تسبيح نبي الله داود (ع) وإنها أمم أمثالنا, وهي تخشى الله وتسبّحه, بينما نرى المنحرفون من البشر لا يخافون ولا يرتدعون !! ألا يدعو هذا الى التأمل وأخذ العبرة ؟ ]قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ[[[12]].

رابعا : العلاقة مع النوع  

      تنطبع في ذهن الأعم الأغلب منا فكرة قديمة , وهي ان العبرة والعظة تلازم الحكاية والأقصوصة والمثل, وتقتصر عليها, أو تقترن بها على وجه لا ينفك أحدها عن الآخر, بيد أن الأمر يتعدى ذلك, فالعبرة قد تؤخذ أيضا من أمور متعددة لا تندرج تحت مسمى القصة, ولربما تصدر كلمة عابرة من صبي أو إنسان غير معتدّ به, تؤثر في الوجدان وتغيّر نمط حياة المرء, بل قد تفعل نظرة ما, فعل السحر فتهزّ الأعماق وتتحول الى سلوك هو بمثابة رد فعل إزاء تلك النظرة, وقد يحنق أحدنا على آخر حسدا فتنقلب حياته وتضيق لتضحى عيشة ضنكا, وقد يترتب على ذلك سلوك منحرف . 
    
      ولطالما لفت القرآن الكريم نظرنا إلى جميل خلق الله وبديع سماواته وأرضينه, لنعتبر بها, ونؤوب الى فطرتنا ولنستدل بها على وجوده ووحدانيته ]أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ[[[13]] .

      هكذا نستطيع تلمّس شمولية البعد الاعتباري للقرآن الكريم في العلاقات جميعا, ونصل الى ان مسألة الاعتبار والاتعاظ لا يسوّرها سور ولا يحدها حدّ, بل هي مطلقة شاملة تستمد حياتها من النور الإلهي الذي يشع على كل الأجناس, في كل العوالم, وفي كل الأزمان .

الدكتورة نهضة الشريفي 
       
الهوامش :

(1)   الحدود والفروق , سعد بن هبة الله البغدادي : 30 , الحد رقم 25
(2)    سورة المائدة : 33 ـ 35
(3)    سورة فاطر : 37
(4)    سورة ق : 20 ـ 26
(5)    سورة إبراهيم : 21ـ 22
(6)    الحدود والفروق : 31 , الحد رقم  26
(7)    سورة ق : 20 ـ 26
(8)    سورة الإسراء : 9
(9)    سورة الجن : 1ـ 6
(10)                        سورة الزمر : 75
(11)                        سورة الرعد : 13
(12)                        سورة عبس : 17
(13)                        سورة الروم : 8

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات