القائمة الرئيسية

الصفحات



وقفة تأمّل في حياة السيدة مريم(ع)



وقفة تأمّل في حياة السيدة مريم(ع)


من ألقابها الطاهرة, والعابدة, والعذراء, وغيرها, لما اشتهر عنها من العفة والعبادة والانقطاع الى الله بالتبتل والمناجاة

      ورد ذكر اسم السيدة مريم(ع) صريحا في القرآن الكريم في أحد عشر موضعا, وتشرفت سورة قرآنية بأن سميت باسمها الشريف .
      أطلقت عليها أمها اسم (مريم) وتعني العابدة أو خادمة الرب, وجعلتها وقفا لخدمة المعبد, وهي ابنة عمران أحد زعماء بني إسرائيل, وقيل انه كان نبيا يوحى إليه, وهو غير عمران والد موسى(ع) إذ بينهما (1800) سنة من الزمان([1]) .

      كانت تلقب بالطاهرة, والعابدة, والعذراء, وغيرها, لما اشتهر عنها من العفة والعبادة والانقطاع الى الله بالتبتل والمناجاة, وجاء وصف عفتها وطهارتها في القرآن الكريم في آيات متعددة منها قوله تعالى: ]وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ[([2]) ووردت آيات كريمات تبرئ ساحتها وتدافع عنها, وتتهم بني إسرائيل بالكفر] وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً[([3]) وقد طهرها ربها واصطفاها على نساء العالمين ]وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ[([4]).  
    وقد ذكر سبحانه قصتها في كثير من آياته المباركة بالإجمال أو التفصيل, منها :
   ]إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ[([5]) .

     ]وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ[([6]) .

العذراء مريم والزهراء فاطمة :

      من أجل إكبار السيدة العذراء مريم(ع) وإعظامها, وإظهار مقامها, وإعلاء شأنها, وتشريفها, قرنها الله تعالى ببعض السمات مع سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء(ع) , منها :

 أولا: سيدة نساء العالمين

     وصف القرآن الكريم مريم(ع) بأنها سيدة نساء العالمين, فما نقول في مولاتنا فاطمة الزهراء وهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين الى يوم يبعثون؟

      جاء في رواية طويلة أن أبا جعفر(ع) سُئل عن مريم(ع) واصطفائها مرتين فقال مما قال: ((يعني اصطفاها أولا من ذرية الأنبياء المصطفين المرسلين، وطهرها من أن يكون في ولادتها من آبائها وأمهاتها سفاح، واصطفاها بهذا في القرآن ]يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ[ شكرا لله...قال: ]وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ[؟ قال: نساء عالميها، قال: وكانت فاطمة عليها السلام سيدة نساء العالمين))([7]).  وقال الطبرسي رحمه الله في قوله تعالى: ]يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ[ (طهرك عن الأخلاق الذميمة والطبائع الرديئة, واصطفاك على نساء العالمين, أي على نساء عالمي زمانك، لأن فاطمة عليها السلام سيدة نساء العالمين)([8]).
      وجاء في بحار الأنوار(...وكانت [فاطمة(ع)] ترى الملائكة فتحدثهم ويحدثونها، فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها، وإن الله عز وجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين)([9]). 

      وعن رسول الله(ص) قال: ((حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد, وفاطمة بنت محمد))([10]), وفي رواية أخرى  عنه(ص): ((أفضل نساء الجنة أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون))([11]) .

  ثانيا: يرزق من يشاء بغير حساب

    وردت في بحار الأنوار رواية طويلة تبيّن كيف ان الله تعالى كان يرزق فاطمة(ع) من طعام الجنة كما كان يرزق مريم(ع), نقتطع منها هذا المقطع: عن أبي جعفر(ع) قال: ((...فأقبل [علي(ع)] فوجد رسول الله(ص) جالسا وفاطمة تصلي وبينهما شئ مغطى، فلما فرغت أحضرت ذلك الشئ، فإذا جفنة من خبز ولحم قال: يا فاطمة أنى لك هذا ؟

 قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فقال رسول الله(ص) : ألا أحدثك بمثلك ومثلها؟ قال: بلى، قال: مثل زكريا إذا دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقا قال: يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب))([12]).

  ثالثا: ألقابها(ع)

      أسبغ الله تعالى على مريم(ع) ألقابا ونعوتا جلّلها بها, يمكن أن نستشفّها من خلال الآيات الكريمات, وهي تمثل سمات شخصيتها, وتظهر لنا مكنونات روحها النقية :

منها: المصطفاة والطاهرة ]يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ[ .
ومنها: الصدّيقة ]مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ[([13])
ومنها: القانتة] وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ[ .
ومنها: الساجدة والراكعة] وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ[ .
ومنها: العذراء, إذ لم يمسسها بشر ولم تقترن برجل] قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً[([14]).
ومنها: العابدة, إذ كانت تتبتّل في محرابها وتبتهل, وتناجي ربها وتنقطع اليه, (وكانت تصلي فتضئ المحراب لنورها)([15])وقد أعاذتها أمها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم حين ولدتها, وسمّتها مريم, وتعني في لغتهم (العابدة)] وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ[ .

ومنها: البتول, فقد ورد في البحار بأن الله تعالى أطلق عليها اسم البتول, من خلال وعظه نبيّه عيسى(ع) , عن الصادق(ع) قال: ((كان فيما وعظ الله تبارك وتعالى به عيسى بن مريم(ع) أن قال له: يا عيسى أنا ربك ورب آبائك...ثم إني أوصيك يا ابن مريم البكر البتول بسيد المرسلين وحبيبي منهم أحمد صاحب الجمل الأحمر، والوجه الأقمر...))([16]). 
    
    قال الفيروز آبادي: (البتول, المنقطعة عن الرجال، ومريم العذراء، وفاطمة بنت سيد المرسلين عليهما الصلاة والسلام لانقطاعها عن نساء زمانها ونساء الأمة فضلا ودينا وحسبا، والمنقطعة عن الدنيا إلى الله)([17]).
ومنها: المحدَّثة؛ لأن الملائكة كانت تحدثها] وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ[ ] إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ[ .

       أما مولاتنا السيدة فاطمة الزهراء(ع) :
فقد اصطفاها ربها لتكون امتدادا للرسالة والرسول(ع), ولتنجب الأئمة البررة الأصفياء ليكملوا المسير, ولتكون القدوة والأسوة لبني البشر.

وهي الطاهرة, طهّرها ربها من كل دنس ورجس, إذ شملتها آية التطهير ]إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً[([18]).

وهي الصدّيقة, إذ روي عن الإمام الصادق(ع) في حديث له عن السيدة فاطمةI أنه قال: ((وهي الصدّيقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى))([19])

سأل أحدهم أبا عبد الله(ع) عمّن غسّل فاطمة(ع) ؟ قال: ((ذاك أمير المؤمنين عليه السلام، كأنما استفظعتُ ذلك من قوله، فقال لي: كأنك ضقت مما أخبرتك ؟ فقلت: قد كان جُعلت فداك، فقال: لا تضيقن فإنها صدّيقة لم يكن يغسّلها إلا صِدّيق، أما علمت أن مريم عليها السلام لم يغسّلها إلا عيسى عليه السلام))([20]).

وهي البتول لتفوقها على نساء العالمين فضلا ودينا وحسبا، والمنقطعة عن الدنيا إلى الله .
وكانت(ع) العابدة الزاهدة, إذ تقضي جلّ وقتها بالعبادة والركوع والسجود, وترتعد فرقا وهيبة وخشوعا حتى تتورم قدماها .

وهي المحدَّثة, وقد دلّت الروايات على انها تحدث الملائكة ويحدثونها, فعن أبي عبد الله(ع) قال: ((إنما سميت فاطمة محدَّثة لان الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها))([21]).

    وللزهراء(ع) ألقابا أخرى كثيرة كشفت عن أفضليتها على مريم العذراء, بل على نساء العالمين جميعا, فقد ورد عن الإمام الصادق(ع) (( لفاطمة تسعة أسماء عند الله: فاطمة, الصديقة, المباركة, الطاهرة, الزكية, الراضية, المرضية, المحدَّثة,  والزهراء))([22]) .



عبر ودروس من قصة مريم(ع) :

(1)               حسن الخلقة نعمة وابتلاء: 

        من سنن الله تعالى أنه يبتلي بعض البشر بحسن الخلقة, وجمال المنظر, لينظر كيف يتعامل مع هذ العطية الربانية, إن هذا الأمر قد يشكل عبئا ثقيلا على حياة المرء؛ لأنه ربما يجعل صاحبه عرضة للافتتان ويجره الى الانحراف, لاسيما في هذا العصر المتخم بالمغريات, ونحن نرى مريم المقدسة قد حباها خالقها حسنا وجمالا في أبهى صوره وجميع أبعاده, حسب ما نقلت الروايات, فقد (كانت أجمل النساء, وكانت تصلي فتضئ المحراب لنورها)([23]) .
      وعلى الرغم من ذلك لم تفتتن بل صانت نفسها وشكرت ربها, فجسدت العفة والطهارة . ورد عن أبي عبد الله(ع) : ((يؤتى بالمرأة الحسناء يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها، فتقول: يا رب حسنت خلقي حتى لقيت ما لقيت، فيجاء بمريم عليها السلام فيقال: أنت أحسن أم هذه ؟ قد حسنّاها فلم تفتتن))([24]).

      إذن, بذلك المستوى من الخلق الرفيع تلقّن مريم الطاهرة بنات جنسها درسا أخلاقيا ذا قيمة عظمى في كيفية التعامل مع نعمة الجمال, وكيفية شكر النعمة والحفاظ على النفس من اتباع الهوى .  

(2)               الشجاعة الفائقة: 

        إن مريم(ع) استطاعت أن تجسد أقصى درجات الشجاعة والجرأة حين أتت بوليدها تحمله الى قومها, وقد ازدحمت في مخيلتها ما لا يحصى من الهواجس والأفكار إزاء رد فعل قومها, وهي تعلم علم اليقين أن قومها لا يكادون يفقهون قولا, وليس فيهم رجل رشيد تلجأ إليه خلا زوج خالتها زكريا(ع) الذي هو الآخر كان في موقف الاتهام .  
      
      لقد كانت في مكان قصيّ عن قومها, فلماذا عادت ؟ وكيف استطاعت قدماها أن تحملانها الى حيث الإعصار المخيف الذي ينتظرها ؟ أما كان بإمكانها أن تذهب بعيدا وتتخلص من المواجهة الرهيبة ؟ ما الذي حملها على العودة ؟ 
      
      إنه نكران الذات, والإحساس بالمسؤولية, وتحمّلها والإخلاص لها, فقد آثرت مصلحة قومها على سلامتها وراحتها, فكانت مأمورة بهداية قومها وحمل البشارة لهم بأن المسيح الذي ينتظرونه قد ولد. إن هذه المواجهة الجريئة وتحمل المسؤولية وعدم التنصل عنها لهو درس بليغ لنا نحن البشر رجالا ونساءً, لنتعلم الثبات في المواقف الحرجة والصعبة ما دمنا على الحق, ولنؤثر على أنفسنا سعيا وراء المصلحة العامة .     

(3)               قوة الشكيمة عند المرأة: 

        إن كون مريم(ع) أنثى رقيقة وضعيفة لم يثنها عن عزمها على مواجهة الموقف الصعب, وهذا منتهى الشجاعة وقوة الشكيمة ورباطة الجأش, وهو دليل واضح على ان الشجاعة وتحمّل المسؤولية غير منحصر في جنس دون جنس, بل يشمل بني البشر على السواء كلٌ حسب نوع المواجهة والظرف الذي يحيط به.

       فالشجاعة لا تنتمي الى العضلات المفتولة والجسم الضخم, والتاريخ يشهد على حوادث أثبتت فيها المرأة قدرتها بل تفوقها على الرجل يضيق بنا المقام عن ذكرها, وحسبنا أن نستشهد بموقف سيدة النساء, فقد واجهت سيدتنا فاطمة الزهراءI قومها بكل جرأة, بعد وفاة أبيها رسول الله(ع), وتحمّلت أعباء المسؤولية ودخلت المسجد وألقت خطبتها التي هزّت أركان المسجد بمن فيه, فعلت ذلك بمنتهى الحزم والشجاعة والثبات والإقدام, لأنها تعلم أن تكليفها الشرعي هو مواجهة هذا الموقف الصعب وتبيان الحقائق, فلم يثنها حجابها ولا أنوثتها عن أداء مسؤوليتها الملقاة على عاتقها .     

(4)               السعي أولا ثم التوكل على الله: 

        إن الله تعالى هو المالك لأزمّة الأمور, إلا ان ذلك لا يعني أن يجنح الإنسان الى التوكل الذي يقوده الى التقاعس عن العمل, فمن أراد بلوغ هدف ما, لا بد أن يسعى إليه, ثم يتوكل على الله , وهكذا نرى في قصة مريم(ع) أن الله تعالى قد أحاطها برعايته ورحمته في حملها وولادتها, ومع ذلك أمرها أن تهز جذع النخلة ليسقط عليها رطبا جنيا على الرغم من أنه سبحانه قادر على أن يرزقها الرطب من دون حاجة الى القيام بهذا العمل([25]) .

(5)               التربية المثالية: 

        على الرغم من الظروف العسيرة التي اكتنفت حياة مريم(ع) بعد ولادتها, والأجواء المكفهرة من التشكيك والتضييق, إلا انها بذلت كل ما في وسعها لتربية وليدها تربية مثالية, وحرصت على تنشئته نشأة صالحة على أكمل وجه وأتم صورة, فأرضعته من علمها وتقواها, ومن سجاياها الحميدة التي كانت تزدان بها.
   
      وبذلك فقد ضربت أعظم مثل وأحسن قدوة للعلاقة الحميمة بين الوالدة وطفلها, فلنتعلم كيف نتعامل مع أبنائنا, ونهتم بهم في جميع الظروف, ولا ندع مشاغلنا تحجب عنا مسؤولياتنا اتجاههم. ولنتأمل حياة مولاتنا الزهراءI وهي خير أسوة وأعظم قدوة للبشرية, كيف استطاعت تربية أولادها على الإيمان والتقوى وتحمل المسؤولية, وإعدادهم ليكونوا امتدادا للخط الرسالي.

(6)              إن بعض الظن إثم: 

        على المرء أن لا يبادر الى إساءة الظن بالآخرين واتهامهم وتقريعهم,  بمجرد رؤيته أمورا منهم ظاهرها منكرا, بل عليه أن يتثبت ويتبين ويتحرى الحقيقة ويتفهم طبيعتها, فإن بعض الظن إثم, وفي قصتنا هذه, نجد لؤماء القوم ومرضى القلوب يسارعون الى الطعن في مريم القديسة الطاهرة, واتهامها في شرفها وعفتها, من دون أن تسمح لهم طباعهم الخبيثة بأن يتحققوا الأمر([26]) .

(7)               الزهد في الدنيا:

        آثرت مريم(ع) الحياة البسيطة الزاهدة ونبذت زينتها وتوجهت الى الله وانقطعت بعبادتها عن الدنيا, إلا أن تعين محتاجا؛ لأنها كانت تدرك أن الباقيات الصالحات خير عند ربها ثوابا وخير مردّا, ولأنها عرفت الطريق الذي يوصلها الى الجنة, فما قيمة المال والراحة والدعة, فإن جنتها رضا الله تعالى . 

(8)               الله لن يتخلى عن عباده المؤمنين: 

        لابد أن نكون على يقين بأن الله تعالى لا يخذل عبده بل يعينه ويمده بلطفه وعنايته لاسيما عند اشتداد الأمور وتكالب الخطوب, ما دام العبد دائبا على طاعته, عاملا بمرضاته, ممتثلا لأمره ونهيه. 

      ونحن نرى أن الصديقة مريم(ع) لما اشتد بها الخوف من كلام قومها وبهتانهم وافترائهم عليها, تملكتها الحيرة في كيفية مواجهة القوم وهي تحمل إليهم وليدا مجهولا لديهم, وفي هذا الظرف العسير وهذا الموقف الحرج امتدت إليها يد الرحمة لتنقذها من هذه المصيبة العظمى, وجاء المدد الإلهي بأوضح صوره, فانبلجت المعجزة التي أنقذتها من براثن القوم, إذ أنطق سبحانه رضيعها ليكون برهانا ساطعا على طهارة أمه وبراءتها مما رميت به([27]) . 

الدكتورة نهضة الشريفي

الهوامش :



([1]) ظ الأمثل : 2/ 323
([2]) سورة التحريم : 12
([3]) سورة النساء : 156
([4]) سورة آل عمران : 42
([5]) سورة آل عمران : 35 ـ 37
([6]) سورة آل عمران : 42 ـ 47
([7]) بحار الأنوار : 14/ 193 , الباب 16 ( باب قصص مريم وولادتها) , الحديث الثاني
([8]) مجمع البيان : 3/ 440
([9]) بحار الأنوار: 14/ 206
([10]) م . ن : 14/ 195
([11]) م . ن : 14/ 201
([12]) م . ن : 14/ 198
([13]) سورة المائدة : 75
([14]) سورة مريم : 20
([15]) بحار الأنوار: 14/ 204
([16]) م . ن : 14/ 299
([17]) م . ن : 14/ 300
([18]) سورة الأحزاب : 33
([19]) بحار الأنوار : 43/ 105
([20]) بحار الأنوار: 14/ 197
([21]) م . ن: 14/ 206
([22]) م . ن : 43/ 10
([23]) م . ن : 14/ 204
([24]) م . ن : 14/ 192
([25]) ظ القصص القرآنية , جعفر سبحاني : 2/ 477
([26]) ظ م . ن : 2/ 477
([27]) ظ القصص القرآنية , جعفر سبحاني : 2/ 478


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات