القائمة الرئيسية

الصفحات



جدلية الإيمان والعقل

جدلية الإيمان والعقل

    ما هي فلسفة البحث في جدلية الإيمان والعقل ضمن أروقة الخطاب السماوي؟ 

   وما جدوائية إسباغ طابع العقلانية على المسيرة الإيمانية التي مبدأها ومناطها ومرتعها القلب بالضرورة؟  

    مع انبثاق الخطاب الإلهي الذي نزل على قلب الرسول محمد9ابتدأ الإنسان رحلته الإيمانية بالكتاب العزيز، وبكل ما جاء به من تكاليف وتعاليم وهدايات وعلوم.


    وقد حاول علماء الكلام نحت تحليلات عقلانية لهذا الإيمان المنجذب بالخطاب الإلهي , فشددوا غالبا على البعد المعرفي للإيمان وعبّروا عنه بأنه تصديق ما جاء به النبي9 بينما انبرى العرفاء الى التركيز على التجربة الإيمانية السلوكية التي يعيشها الإنسان المؤمن في الإقبال على الله تعالى .


أولا: دور العقل في الإيمان

   ذهب جملة من الباحثين الى انه لو لم يتسن للمؤمن اثبات صدق القضايا الدينية بدليل عقلي يبقى الإيمان بها ممارسة عقلانية بحكم المصلحة , بينما ذهب فريق آخر الى انه على افتراض تعذر اثبات صدق القضايا الدينية فلن يكون الإيمان بها عملا عقلانيا([1]) , وهنا ينشطر هذا الأخير شطرين([2]) :

الأول: 

ان الإيمان يقف على مستوى الضد من التعقل .

والآخر:

ان الإيمان أسمى من التعقل وحالة متعالية عليه غير خاضعة لآلياته  .


    والبون بعيد كل البعد بين الإيمان الذي يلغي دور العقل, والإيمان الذي يعمل فيه العقل أقصى عمله ويبذل منتهى جهده , فيعلم الى أين ينتهي الإيمان ومن أين يبتدئ, فـإن (الإيمان هنا نتيجة لعمل العقل غاية جهده وليس نتيجة لإهماله وإبطال وجوده. والعقل يستطيع ان يصل الى هذه النتيجة , فتلزمه حجة الدعوة الى التصديق بالغيب المجهول . والعقل يستطيع ان يعلم بضرورة الإيمان لأن إنكار هذه الضرورة نقيضة عقلية وليس بنقيضة للدين والعقيدة وحسب)([3]) .


ثانيا: المؤمن العقلاني

    يرى المفكر الإيراني مصطفى ملكيان* أن المؤمن العقلاني يتعذر عليه إيجاد براهين عقلية للمسائل الدينية , فيعيش لونا من اللايقين, يتضح ذلك في قوله: (لا نستطيع إثبات وجود الله مثلا كما نثبت أن مجموع الزوايا الداخلية للمثلث مائة وثمانون درجة... وبالتالي لا يوجد أي دليل على المدعيات والقضايا الدينية, فالقضايا الدينية رغم انها لا تعارض العقل لكنها فرارة من العقل أو مستعصية على العقل)([4]) , بمعنى ان العقل لا يمكنه بمفرده الحكم على الصحة أو الخطأ في المسائل الدينية.


    وإذا قيل ان (الإيمان اعتقاد راسخ لا يقل في قوته عن اليقين ولكن لا يمكن نقله عن طريق البرهان, إذ هو يعتمد أساسا على الثقة وطمأنينة القلب أكثر مما يعتمد على الحجج العقلية)([5])، فلا يمتنع العقل تماما عن تقبّل هذه المقولة , لتضمّن دليلها معها أذ تُقرّ ان البرهان العقلي يلعب دورا في الإيمان وإنْ بمرتبة أدنى من الطمأنينة, ومن هنا فنحن بحاجة الى ممارسة سلوكية تفعّل (عقلانية القيم, ولا يوفر هذه العقلانية إلا الإيمان, فهو الذي يزود الإنسان بالقيم)([6]) . 

     

    إن الإيمان الحقيقي لا يقتصر على مجرد التلفظ بالشهادتين , بل هو (عبارة عن اعتقادات مخصوصة يقينية وعلوم حقة برهانية او كشفية, وقد ثبت ان العلم الحاصل للنفس بالبرهان ليس يمكن الزوال عنها فكل من تحلّت نفسه بالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والرسل والشهداء فلا يمكن زوال إيمانه)([7]) .

    وليس من قبيل المبالغة نسبة كمال الإنسان وترقّيه في سلّم الروحانيات, الى جذوة الإيمان المستقرة في قلبه؛ لأن الإيمان هو (الأصل في الكمالات الإنسانية مطلقا, بل جعل الله تعالى العقل- الذي هو من أعظم مواهبه- دائرا مداره)([8]) .



ثالثا: القرآن يدعو الى الإيمان البرهاني

    على الرغم من تصريح القرآن الكريم (بالقضايا القطعية وغير القابلة للشك, المذكورة بعبارات مثل]لا رَيْبَ فِيه[، يدعو الناس الى الإيمان التحقيقي بالقضايا اليقينية, ولا يرى الإيمان التقليدي بها كافيا... فعلى هذا الأساس يجادل القرآن الكريم, وفي آيات كثيرة, المعاندين والكفار وضمن إقامة البرهان على صحة ما يدعو إليه)([9]).


    ومن الإيمان البرهاني الذي دعا إليه القرآن الكريم، المحاججة البرهانية الفذّة التي نقلها بين إبراهيم(ع) وقومه في:


قوله تعالى: ]فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ[([10]) .


وقوله تعالى: ]وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً[([11]).


    ان الاعتقاد بأنه ثمة ارتباط بين الإيمان والعقل ليس مختصا بالعقيدة الإسلامية بل يتعداها الى الأديان الأخرى, فـ(ان الإسلام والمسيحية يعتقدان بأن الله تعالى هو الذي وهب العقل للإنسان وفطره على الإيمان به والتسليم بوحيه, وأن الإيمان يهدي العقل البشري الى ما فيه خير الإنسان وصلاحه, وإذا تفرد أو اغتر العقل بالاعتماد على نفسه بعيدا عن الإيمان والوحي فإنه يضل السبيل ولا يحصد إلا الشر والشقاء لصاحبه)([12]) , وتشكل هذه المقولة قاعدة عقلية عامة يمكن تطبيقها في أي شريعة سماوية .


رابعا: فلسفة التومائيين

    لقد عرفت البشرية اليوم فلسفة حديثة تدعى " فلسفة التومائيين الجدد " توائم بين الفلسفة والإلهيات, بين العقل والإيمان, وبين العلم والدين, فهذه الثنائيات غير متعارضة بل تؤيد وتكمل بعضها بعضا, وتمكّن من إدراك الحقائق الإيمانية , وتعزو منشأ التعارض بين العقل والإيمان أحيانا الى استعمال العقل بصورة خاطئة, ومن هنا فقد وضعوا مصطلح "الإلهيات الطبيعية" وأرادوا به الإلهيات العقلية, فيمكن بها إثبات كثير من الحقائق الإيمانية عن طريق البراهين العقلية, كإثبات وجود الله تعالى([13]) .


    وعلى هذا نرى أن العقل والمنطق يمكن أن يصل بنا الى ان الإيمان برب السماوات والأرض، ورب الخلائق أجمع، ضرورة اجتماعية, إذ لا سعادة ولا رقيّ للمجتمعات من دونه، وما نراه في عالم اليوم من المآسي والجوع والخوف والضياع التي تلف الإنسانية إن هو إلا نتيجة حتمية لإعراض جلّ شعوب الأرض عن ذكر الله وتيههم في ظلمات الجهل([14]), قال تعالى )وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (([15]) .


   وإحياء الإيمان في القلوب منوط بالقدرة على الاستماع والاصغاء للخطاب الإلهي, لكننا اليوم نمر في ظرف يجعل أصداء الخطاب القرآني ضائع غير مسموع وسط ضجيج المادة وصخبها , وقد كان العرفاء قديما يقولون ان فراغ البال ونسيان البيئة المحيطة يمهد الأرضية المناسبة لنثر بذور الإيمان وتهيئة القلوب له([16]) .


    مهمتنا إذن تهيئة الأرضية المناسبة واللائقة في مساحة القلب، ونثر البذور الإيمانية، من أجل أن يكون القلب مؤهلا لتلقي الفيوضات النورانية السماوية، مع التقصي وتعزيز الإيمان بالبراهين العقلية التي حثّنا إليها الله تعالى في كتابه العزيز.


الدكتورة نهضة الشريفي

 

الهوامش:

([1]) ظ العقلانية والمعنوية مقاربات في فلسفة الدين , مصطفى ملكيان : 71

([2])  ظ م . ن : 71

([3])  الإنسان في القرآن الكريم , عباس محمود العقاد , دار الإسلام – القاهرة : 52

* مصطفى ملكيان ، فيلسوف ومفكر ومترجم ومحرر إيراني بارز. ولد في 1 يناير 1956 ، يعمل على مشروع يسمى العقلانية والروحانية. كتابه الأكثر أهمية ، الذي يدور حول الروحانية والحكمة ، هو الطريق إلى الحرية. كان مالكيان سابقًا أستاذًا للفلسفة في جامعة طهران وجامعة طربيه موداريس. موقعه الرسمي: farzanehinstitute.ir - ويكيبيديا (إنجليزية)

([4]) العقلانية والمعنوية مقاربات في فلسفة الدين , مصطفى ملكيان : 70

([5]) معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية , جلال الدين سعيد: 71

([6]) الحوار افقا للفكر, طه عبد الرحمن : 149

([7]) تفسير القرآن الكريم , الملا صدرا : 3/ 74

([8]) مواهب الرحمن , عبد الأعلى السبزواري : 1/ 87

([9]) نظرية المعرفة في القرآن, جوادي آملي, ترجمة: دار الإسراء للتحقيق والنشر, ط1, 1417ه – 1996م : 228

([10]) سورة الأنعام : 76 - 78

([11]) سورة البقرة : 260

([12]) الإيمان والتكفير والذات والآخر في الإسلام – دراسة في ضوء العقل والشريعة , مهدي فضل الله : 99

([13])إطلالة على مدارس الإلهيات الجديدة , حسن قنبري , سلسلة اللاهوت المعاصر دراسات نقدية, العدد الأول (التعاريف والكليات), المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية ـ العتبة العباسية , رئيس التحرير: محسن الموسوي , الطبعة الأولى 2017 م/ 1439 ه : 270

([14]) ظ ايمان الفطرة ويقين البرهان , جواد الجاسم الطاهري : 170

([15]) سورة طه : 124 ـ 126

([16]) ظ الإيمان والتجارب الدينية , محمد مجتهد شبستري , موسوعة فلسفة الدين ج 2: 356

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات