القائمة الرئيسية

الصفحات

 

جماليات المَثل القرآني


جماليات المَثل القرآني

    من جماليات المثل القرآني أن القرآن الكريم يسبغ على الآية في استعماله كلمة (مثل)، الدقة والقوة والجمال والتذوق الفني، لإيصال المغزى والعبرة من المثل، كتشبيه حالِ قومٍ بحالِ قوم آخرين في الآية الكريمة: ]مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا[، أو تشبيه حال شيء بحال شيء آخر في الآية الكريمة: ]مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ[ وغيرها من الأمثال القرآنية.

    سنتعرّض في هذا البحث الى المثل القرآني وجمالياته، الواردة بشأن الكلمة الطيبة في سورة إبراهيم، ونخضعه للبحث والتحليل، بعد مرور سريع بشأن مفهوم المَثل .

أولا: المَثل في اللغة

    المثل في اللغة له معاني مختلفة، كالنظير والصفة والعبرة وما يُجعل مثالا لغيره يُحذا عليه، وغير ذلك مما ذكره صاحب لسان العرب.

    وقال الفيروز آبادي في قاموسه المحيط: أن المِثْل بالكسر تعني الشبه، والمَثَل بالتحريك هي الحجة والصفة.

    لكن ابن فارس في مقاييسه ساوى بينهما في المعنى في قوله: ان المِثل بالكسر والمَثل بالفتح يدلان على معنى واحد، هو كون الشيء نظيرا للشيء.

ثانيا: المَثل في الاصطلاح

    يعدّ المثل قسم من أقسام الحِكمة، ويرد في واقعة لمناسبة اقتضت وروده فيها، ومن ثَمّ يتداولها الناس في وقائع مماثلة من دون تغيير في النص الأصلي للمثل.

    فالحكمة على نوعين: سائر ومنتشر بين الناس ودارج على ألسنتهم، فهذا يسمى المثل، وإلا فهي الكلمة الحكيمة التي لها قيمتها الخاصة وإن لم تكن سائرة، ويظهر هذا المعنى في كلام أبي هلال العسكري في الجمهرة إذ يقول: جعل كل حكمة سائرة مَثلا، وقد يأتي القائل بما يحسن من الكلام أن يتمثل به، إلا أنه لا يتفق أن يسير، فلا يكون مثلا.

   فهنا وضع أبو هلال الفيصل والبرزخ الدقيق بين الحكمة والمَثل، فإن الشيوع والانتشار للكلام وكثرة دورانه على ألسنة الناس هو الفارق بين الحكمة والمثل، فإن انتشر فهو المثل وإن لم يُتداول فإنما هو الحكمة فحسب.     

ثالثا: نماذج من جماليات المَثل القرآني

    وردت الأمثال في القرآن الكريم بكثرة بالغة، وهي من الأساليب البليغة والناجحة في إيصال المعاني الى ذهن المتلقي, ومنها :

1.   ]إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ[.

2.   ]مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[ .

3.   ]وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ[ .

4.   ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ[ .



رابعا: جماليات مَثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة

    قال تعالى في سورة إبراهيم:

]أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء{24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ{25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ{26} يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ{27}[ .

·       العلاقة بين آيات المثل وآيات سابقة لها:

    هذه الآيات من أجمل الآيات ومن أوضح الأمثال القرآنية، وفيها تمثيل دقيق وبليغ للكلمة الطيبة من ناحية، وللكلمة الخبيثة من ناحية أخرى، وفيها يبين الله تعالى الفوائد والآثار الناتجة عن كل واحدة منها .

    ثمة علاقة واضحة في هذين المثلين وما ورد في الآيات السابقة من نسبة الكلمة الطيبة إلى الله تعالى، والكلمة الخبيثة إلى الشيطان، إذ جاء في الآية السابقة قوله تعالى: ]وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{22} [ .

    فهنا نلحظ قولين في الآية الكريمة ، أحدهما لله تعالى وهو وعده الحق الذي أوفى به، وهو مصداق للكلمة الطيبة، والثاني للشيطان الذي وعد وعدا باطلا ولم يفِ به، وهو مصداق للكلمة الخبيثة .

    وبحسب ما ورد في هذه الآية، فإن اتباع دعوة الشيطان اختيارية لا جبر فيها، فالإنسان بكامل إرادته يتتبع خطى الشيطان، ومن هنا يلوم الشيطان الإنسان يوم القيامة، (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم)

    والعجيب ان الإنسان يعلم بخبث الشيطان ووسوته لأبيه آدم عليه السلام، ]فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ[ ، ألم يسمع الإنسان بتصريح الشيطان وقسَمه بإحاطة الإنسان من بين يديه ومن خلفه لغرض إغوائه وحرفه عن الصراط المستقيم؟ ]قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[ ، إذن لماذا رغم علمه بكل ذلك  يغرّه الشيطان بزيف وعوده الباطلة، فيترك وعد الله الصادق؟!!

·       خصائص الشجرة الطيبة:

(1)       ]طيّبة [أول خصائصها أنها طيبة وطاهرة وذات رائحة عطرة, ومن المعروف أن الأشجار ليست سواء، فبعضها يمكن الاستفادة من جميع أجزائها كالأوراق والأغصان والثمار والجذور وأصماغها، فضلا عن منظرها الجميل وعطرها الطيب، وبعض الأشجار تكون ذات منظر غير مريح، وتبثّ رائحة كريهة وجذورها نتنة وثمارها طعمها مُرّ كالحنظل.

(2)       ] أَصْلُهَا ثَابِتٌ [ ان جذورها ثابتة وراسخة في أعماق الأرض، فمن مظاهر قدرة الله تعالى أنه جعل تناسبا بين أغصان الشجرة وجذورها، فكلما كانت الغصون عظيمة وكثيرة كانت الجذور عظيمة وكثيرة بالنسبة نفسها التي للغصون، وهذه الخاصية تحفظ الشجرة وأغصانها وتحميها من الظروف البيئية ، فلا تزعزها العواصف الهوجاء ولا الأمواج الشديدة العاتية.

(3)       ] وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء [ ان نموها صعودي وعمودي نحو السماء، فمما لاشك فيه أن دور الجذور هو تغذية الأغصان والأوراق، أما الأغصان المرتفعة جدا والمتجهة نحو السماء فلها منافع وآثار متنوعة، منها:

-       الأغصان المرتفعة تتنفس الهواء بصورة أفضل من غيرها، والمعروف ان الأشجار تستنشق ثاني أوكسيد الكاربون وتطرح الأوكسجين، وهذا الإبداع الإلهي يحفظ الأوكسجين من النفاد ويصفي الهواء من الغازات السامة .

-       الأغصان المرتفعة تستفيد من ضياء الشمس بصورة أفضل .

-       الأغصان المرتفعة تكون في مأمن من الغبار والتلوثات التي يصنعها الإنسان على سطح الأرض .

(4)       ] تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [ الخاصية الأخيرة لهذه الشجرة الطيبة هي أنها على رغم من كون ثمارها تنضج في جميع الفصول إلا أن نموها وعطائها يجري بحسب القوانين الطبيعية والسنن الإلهية، ولا تشذ عنها، وهي مطيعة لهذه السنن التي وضعها الله تعالى، وهذا الأمر لا يختص بأمثال هذه الشجرة ، بل ان جميع ما في الطبيعة خاضع وخاشع له ]وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ[ .  

·       خصائص الشجرة الخبيثة:

1.   ] اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ[ وهي على النقيض من الشجرة الطيبة ذات الجذور المحكمة الثابتة في باطن الأرض، فإن جذور الشجرة الخبيثة مقتلعة من الأرض وليست لها القابلية على الحفاظ على الشجرة من السيول والاعصار والفيضانات ، لأنها مجتثة الجذور .

2.    ]مَا لَهَا مِن قَرَارٍ[ أي لا ثبات لها ولا استقرار، تتزلزل لأدنى ريح عاصف، إن شجرة تفتقر الى الثمار والعطر ولا يمكنها إيجاد الظل المناسب لا تنفع إلا للإيقاد .

·       مصاديق الكلمة الطيبة:

    هناك بحث بين المفسرين في دلالات الكلمة الطيبة وتشخيص مصاديقها، نذكر منها:

1)    كلمة التوحيد:

    المراد من الكلمة الطيبة هي كلمة(لا إله إلا الله)، فإن هذه الكلمة كالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، وهي في الحقيقة تعدّ شجرة سعادة الإنسان ومناط استقراره، فالكلم الطيب هو العقيدة الحقة، التي تمثلها حقيقة التوحيد، بها يحيى قلب الإنسان وتكسر كل ما فيه من أصنام المال والرشوة والربا والسرقة والاعتداء، والعمل الصالح يجسد هذه العقيدة على أرض الواقع ]إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ[.

2)   المؤمن:

    تتمثل الكلمة الطيبة بـ(المؤمن)، وقلب المؤمن هو الأرض الطيبة التي تثبت فيها جذور الشجرة الطيبة، وقد أطلق على الموجودات عموما (كلمة الله) في القرآن الكريم، والمؤمن كلام الله كذلك، وأيضا الشمس والقمر والنجوم والسماء والأرض كلها كلمات الله في كتاب الله التكويني.

    وهذا المصطلح أطلق على السيد المسيح(ع) في قوله تعالى ]إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ[ ، فشجرة وجود المؤمن هي بمثابة الشجرة الطيبة التي تثمر وتؤتي أكلها في جميع الفصول، وثمارها السخاء والشجاعة والكرم والحب والرحمة والإحسان والإيمان، وما يماثل ذلك .

3)   الأئمة المعصومون:

   شخّص بعضهم مصداق الكلمة الطيبة بـ(الأئمة المعصومين) عليهم السلام، فإنهم بمثابة الشجرة الطيبة التي ملئت أغصانها بالثمار، وكل من اطّلع على تاريخ حياتهم وسيرتهم العطرة ، فسوف يتبين له مدى قابلية انطباق هذا المصداق عليهم ، فهم (عليهم السلام) بمثابة المصداق الأتم للكلمة الطيبة.

4)    العلماء:

    قيل ان أحد مصاديق الكلمة الطيبة هم (العلماء)؛ وذلك لأن الناس تنهل من ثمار وجودهم، وهم كلمة الله الطيبة، وحياتهم وآثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم تعدّ امتدادا لكلمة الله الطيبة، بل حتى قبورهم حيّة وملهمة ومربية.

5)   الفكر النزيه:

    وقيل انها (الفكر النزيه) فإن الأفكار النزيهة والطاهرة تبثّ طيبها وتنثر عطرها في أرجاء المجتمع المتواجدة فيه، فهي بمثابة الشجرة الطيبة التي ثبتت على مرّ الأزمان والعصور.

6)   الحديث الحسن:

    وقيل أيضا انها (الحديث الحسن)، فإن الحديث الحسن قد يثبت وتمتد آثاره لجميع أفراد المجتمع .

وثمة رواية عن النبي (ص) تؤيد هذا المعنى يقول فيها:

(( ما أهدى المرء المسلم لأخيه المسلم هدية أفضل من كلمة حكمة يزيده الله بها هدى ويردّه عن ردى)) .

 

الدكتورة نهضة الشريفي

 

المصادر:

1.   لسان العرب – ابن منظور

2.   القاموس المحيط – الفيروز آبادي

3.   مقاييس اللغة – ابن فارس

4.   جمهرة أمثال العرب – ابو هلال العسكري

5.   الأمثال في القرآن الكريم -  الشيخ جعفر سبحاني

6.   أمثال القرآن –  الشيخ ناصر مكارم الشيرازي 

 


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع في المحتويات