القائمة الرئيسية

الصفحات

 

جدلية الإيمان والعلم

جدلية الإيمان والعلم

    ما طبيعة العلاقة بين الإيمان والعلم؟ هل هي العموم والخصوص من وجه، ام العموم الخصوص المطلق؟ هل العالم يكون مؤمنا بالضرورة ؟ وإن عكسنا السؤال يكون كالتالي: هل المؤمن يكون عالما بالضرورة ؟ 

    تطرقنا في بحث سابق الى جدلية الإيمان والعقل، بينّا فيه طبيعة العلاقة بينهما، أما طبيعة العلاقة بين الإيمان والعلم، فهذا ما سنركز عليه ونتبينه في طيات بحثنا اليوم، مع الوقوف عند التساؤلات التي طرحناها في المقدمة.

أولا: حقيقة الإيمان

    قيل إن العلم هو مجموعة المعارف المكتسبة عن طريق البحث والتجربة  والمشاهدة، ولكن الإيمان يحتاج الى (حاسة في الإنسان غير العلم بالشيء الذي هو موضوع الإيمان, وقد تتساوى نفسان في العلم بحقائق الكون كله , ولا تتساويان بعد ذلك في طبيعة الإيمان لأن الإنسان لا يؤمن على قدر علمه وإنما يؤمن على قدر شعوره بما يعتقد ومجاوبته النفسية لموضوع الاعتقاد)([1]) .


    لابد إذن من التفريق بين الإيمان والعلم, فإن حقيقة الإيمان مختلفة عن العلم من دون شك , يقول السيد كمال الحيدري (العلم عبارة عن عقد بين الموضوع والمحمول, وثبوت الثاني للأول جزما, ويستحيل أن لا يكون كذلك, أما الإيمان فهو يحمل في حقيقته عقدا آخرا طرفاه, القلب, ومحتوى هذه القضية المركبة من الموضوع والمحمول, أو قل: عقد بين القلب والالتزام بتلك القضية خارجا)([2]) .


    ويرى الطباطبائي عدم كفاية العلم لاكتساب الإيمان (فمجرد العلم بالشيء والجزم بكونه حقا لا يكفي في حصول الإيمان واتصاف من حصل له به, بل لابد من الالتزام بمقتضاه وعقد القلب على مؤداه بحيث يترتب عليه آثاره العملية)([3]) , ويفرق بين العالم والمؤمن بالنظر الى الالتزام بمقتضيات علمه , (فالذي حصل له العلم بأن الله تعالى إله لا إله غيره فالتزم بمقتضاه وهو عبوديته وعبادته وحده كان مؤمنا, ولو علم به ولم يلتزم فلم يأت بشيء من الأعمال المظهرة للعبودية كان عالما وليس بمؤمن)([4]) , وقد يجتمع العلم مع الكفر أو النفاق إذ ان المنافق يعلم, لكنه يعمل من دون إيمان, قال تعالى ]وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً[([5]) .


    هنا نجد الطباطبائي يفرّق بين العلم والإيمان من حيث الأثر, وكأن المنشأ واحد, ولكن الإيمان يستتبع العمل, أما العلم فقد لا يستتبع العمل .

ثانيا: الإيمان العملي

    لابد للإيمان من ترجمة حقيقية على أرض الواقع , وإلا فما جدوى إعلان الإيمان ساعة الاحتضار والموت المحتم ما لم يترجمه في الدنيا بصورة أعمال صالحة , وهل نفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق في نيل مصر )قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(([6]) .


    ومن الممكن أن يحصل العلم بشيء بأدلة قاطعة ولكن القلب لا يسلّم بها , فيكون العلم من غير فائدة ولا يفضي الى حالة الإيمان , وقد ساق السيد الخميني مثالا محسوسا يوضح الفرق بين العلم والإيمان , إذ قال : (أنتم أدركتم بعقولكم أن الميت لا يستطيع أن يضر أحدا, وأن جميع الأموات في العالم ليس لهم حس ولا حركة بقدر ذبابة, وأن جميع القوى الجسمانية والنفسانية قد فارقته, ولكن حيث أن القلب لم يتقبل هذا الأمر ولم يسلم أمره للعقل, فإنكم لا تقدرون على مبيت ليلة مظلمة واحدة مع ميت)([7]) .

ثالثا: علم الشيطان

    من النماذج الحية الواضحة في القرآن الكريم لخلوّ القلب من الإيمان مع وجود العلم والمعرفة , قصة الشيطان , فهو يعرف الله تعالى ويقرّ بأنه هو الذي خلقه )خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ(([8]) , ويعترف بالبعث واليوم الآخر)قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(([9]) , ويعرف الرسل ويعلم منزلتهم )قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(([10]) ([11]) .


    وعلى الرغم من كون الشيطان عالما بكل المقدمات المعرفية التي تؤهله للإيمان الا ان هذا العلم لم ينفعه إذ لم يمس شغاف القلب ويحقق التسليم فيه , فإن (إدراكه قد استسلم للحقيقة أما إحساساته فتمردت عليها, ووقف قلبه أمام عقله ورفض قبول الحقيقة واستكبر عليها, إنه كان محروما من تسليم القلب)([12]) , لذا نعته الله في قرآنه بالكبر وبالكفر )أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ(([13]) .



رابعا: هل يمكن فصل العلم عن الإيمان

    ليس ممكنا تحقّق الإيمان من دون العلم والمعرفة؛ لأنّ مفهوم الإيمان في الأصل هو من المفاهيم الإضافيّة التي تتّصل دائماً بشيء, ومتعلق الإيمان الرفيع مترافق على الدوام مع نوع معرفة، فإن (كلّ إنسان مؤمن له في وجدانه نوع معرفةٍ بمتعلَّق إيمانه وهو عالمٌ أيضاً بهذه المعرفة, وحيث لا يُشترط هذا القدر من المعرفة في الإيمان، يتدنّى الإيمان ويقتصر على العواطف والمشاعر الصرفة ويخلو من رصيد ومحتوى معرفيّ وتكون عقلانيته محلّ إنكار وتشكيك)([14]) .


    ولذلك يكون فصل العلم عن الإيمان غير مُجدٍ, فمن دونه قد يتعرض العلم الى ممارسات سلبية في البعد التطبيقي له, ومن هنا نجد الشاطبي يحذر من فصل العلم عن الإيمان (خوفا من أن يصبح العلم أداةً للشر فينقلب من نعمة الى نقمة, وهو ما وقعت فيه أوربا حين فصلت العلم عن الدين فصلا تاما, حتى ما كان من الدين دعوة الى الخير, وذلك بسبب الموقف المتطرف للكنيسة من العلم والعلماء, فقابل الغربيون التطرف بمثله, وأصبح العلم عندهم أداة للطغيان)([15]) , ولكن ليس ذلك بالضرورة فالعلم بذاته لخدمة الإنسان, إلا أن يقع تحت تصرف الطغاة ويتم توظيفه في الشر .


خامسا: الإيمان يكشف العقيدة

    يفصح الإيمان عن عقيدة الإنسان, فالإيمان في النهاية يعني الاعتقاد, والسرّ في ذلك هو (ان المؤمن يخلّص عقيدته من الريب والاضطراب والشك التي هي آفات العقيدة, ويصونها ويؤمّن عليها. من هذا الباب يقال لرسوخ واستقرار العقيدة في القلب "إيمان" لكن العلم وحده غير كاف لبلوغ هذا الإيمان فقد يكون الإنسان عالما بشيء إلا انه ليس بمؤمن به)([16]) , قال تعالى ]وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ[([17]).


    ولذلك لابد للاعتقاد العلمي من (أن يخالط روح الإنسان المعتقد العالِم وقلبه, ويتجلى في أوصافه النفسانية, وأعماله الجسمانية, كي يكون إطلاق الإيمان عليه صائبا, وعلى هذا الأساس لا يصح إطلاق كلمة المؤمن على من لا تتعدى عقيدة الحق لديه لقلقة اللسان...فالعقد العلمي الذي هو قضية ذهنية ومعقولة, ما لم يتبعه عقد آخر يربطه مع روح العالِم فهو ليس بإيمان)([18]) , ]أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[([19]) .

سادسا: استقراء الأدلة القرآنية

    من خلال ما ذكرنا نخلص الى ان الإيمان ليس هو مجرد المعرفة والعلم , وباستقراء الأدلة القرآنية نجد هذا المعنى واضحا جليا , ومنها :

أ- أهل الكتاب يعرفون نبوة النبي محمد9

إن أهل الكتاب كانوا يعرفون نبوة نبينا محمد9 كما يعرفون أبناءهم )الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(([20]) .

ب- الكفار يعرفون الحق وينكرونه

    لقد كان من الكفار من يعرف الحق وينكره عنادا واستكبارا )وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً(([21]) , فيجحدون بالحق حرصا على مصالحهم على الرغم من علمهم به .

ج- الارتداد بعد العلم بالهدى

    الارتداد والكفر والضلال بعد العلم بهدى الله تعالى, وذلك في الآيات الكريمات:  )إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى(([22]) , )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى(([23]) , )وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ(([24]) .


    إذن يتضح مما ذكرنا أن الإيمان عمل قلبي وجداني, والعلم إعمالٌ للعقل ويأتي عن طريق الأدلة العقلية من دون تسليم القلب, والإيمان يتحقق بعد العلم, ولا معنى لأن يؤمن الإنسان بما لا يعلم, أو باللاشيء, أو بالعدم, فان بينهما عموم وخصوص مطلق, إذ ليس كل علم يؤدي الى الإيمان, لكن كل إيمان لابد من أن يكون بعد العلم, والمشروط عدم عند عدم شرطه .

 

الدكتورة نهضة الشريفي

الهوامش:


([1])  الله ـ كتاب في نشأة العقيدة الإسلامية , عباس محمود العقاد , منشورات المكتبة العصرية : 49

([2]) الإيمان حقيقته درجاته آثاره , كمال الحيدري : 163

([3]) الميزان : 26/ 264

([4]) الميزان : 26/ 264

([5]) سورة النمل : 14

([6]) سورة يونس : 90- 91

([7]) الأربعون حديثا , السيد الخميني : 62

([8]) سورة الأعراف : 12

([9]) سورة الأعراف : 14

([10]) سورة ص : 82 ـ 83

([11]) ظ العدل الإلهي , مرتضى مطهري , ترجمة: عبد المنعم الخاقاني :333

([12]) م . ن : 334

([13]) سورة البقرة : 34

([14]) الإيمان والمعرفة الفلسفيّة جدليّة العلاقة المتبادلة , نعمة الله بدخشان ـ محمّد مزيدي ـ سعيد رحيميان , مجلة المنهاج , العدد 67 , السنة السابعة عشر , 1433هـ - 2012 م  : 255

([15]) الشاطبي ومقاصد الشريعة , حمادي العبيدي , دار قتيبة – بيروت , ط1 , 1412ه – 1992م : 253

([16]) تسنيم في تفسير القرآن , جوادي آملي : 180

([17]) سورة النمل : 14

([18]) تسنيم في تفسير القرآن , عبد الله الجوادي الطبري الآملي , تعريب: عبد المطلب رضا , تحقيق: محمد عبد المنعم الخاقاني , دار الإسراء – لبنان - بيروت , ط2 – 1432ه – 2011م : 180

([19]) سورة العنكبوت : 2

([20])  سورة البقرة : 146

([21])  سورة النمل : 14

([22]) سورة محمد : 25

([23]) سورة محمد : 32

([24]) سورة الجاثية : 23


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات