القائمة الرئيسية

الصفحات

محمد أركون ونصر حامد أبو زيد حول المجاز في الخطاب القرآني

محمد أركون ونصر حامد أبو زيد  حول المجاز في الخطاب القرآني

محمد أركون ونصر حامد أبو زيد
حول المجاز في الخطاب القرآني

    على غرار التمييز والفصل بين الإنجيل والمسيحية, وبين التوراة واليهودية, يعقد المفكر محمد أركون مقارنة للتمييز بين القرآن والإسلام, أو بين الحدث القرآني والحدث الإسلامي, لغرض بيان العلاقة بينهما, والتأكيد على كونهما لا يتطابقان كما يتوهم المسلم لأول وهلة([1]), ولغرض التأكيد على الدور الذي يلعبه المجاز في تشكيل كلية الخطاب القرآني.


    وبحسب تعبير أركون, يتم التفريق بين محطتين تاريخيتين: "الظاهرة القرآنية" وهي المحطة الأولى التي تشكّل فيها القرآن والنبوة, و"الظاهرة الاسلامية" وهي محطة تشكيل الدولة الإسلامية والشريعة والفقه([2]) .

أولا : المجاز والتاريخية

    يحاول أركون بتفريقه بين القرآن والإسلام تقديم المبرر لقراءته الكلية الشمولية للقرآن الكريم المبنية أساسا على الرمز والمجاز, على الرغم من تبنّيه مبدأ تاريخية القرآن, الذي يتقاطع بشدة مع خصائص المجازات والرموز.

   ويروم أركون بهذه الفصل إعادة قراءة الظاهرة القرآنية وتمييزها عن الظاهرة الإسلامية والجهد البشري.


    لكن هذه القراءة الأركونية جاءت متقاطعة مع فكر نصر حامد أبي زيد ومتبنياته، ولم تحض بالقبول منه, فقد نفى أبو زيد إمكان اجتماع هذا التعاطي الشمولي للقرآن مع إسباغ سمة التاريخية عليه, ووجد الأمر متعارضا, فـ(إن القراءة الكلية التي يسعى أركون لتحقيقها تتعارض تعارضا شبه تام مع محاولة تحقيق إعادة وضع النص في التاريخ, وليس كافيا لتجاوز هذا التعارض تلك الفرقة التي يصطنعها أركون بين الظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية, إن هذه التفرقة في الواقع تفرقة شكلية)([3]), فإذا كانت الظاهرة القرآنية - باعتقاد أركون- ظاهرة لغوية مجازية, فهي إذن تنبثق من الممارسات الاجتماعية التاريخية , لكنها تحجب كل هذه الممارسات وتنحاز للدلالة الرمزية- على حد تعبير أبي زيد - لتصل بها الى التصورات الأكثر دواما([4]).


   هنا يبدو واضحا ان مقصود أبي زيد بالأكثر دواما تلك الدلالات والتصورات المتعلقة بعوالم ميتافيزيقية غيبية غير خاضعة للقوانين التاريخية الدنيوية .


ثانيا: المجاز في لغة العرب

    لا يخفى أن المجاز في لغة العرب (فن أصيل تمتد جذوره الى العصر الجاهلي في الاستعمال تحررا من الضيق اللفظي, والانطلاق بتأثر الوجدان الى الاتساع في المعاني, وتردد الألفاظ في ذلك, وهو ما يعطي اللغة العربية زخما لغويا, وبيانا جديدا, وفيه تصوير فني, وعمق استعمالي, وبلاغة قولية, وتقلب في شؤون الكلام, وتصريف للمعاني على أبلغ وجوهها)([5]) .


    ولكنه بقدر ما يشكل بُعدا معرفيا كبيرا لا يمكن تجاوزه (يشكل أيضا ظاهرة خطيرة يمكن من خلالها تبرير انحرافات وضلالات, وما نجده من سَوق عصا الرمزية في توجيه معظم النصوص الدينية القديمة توراةً وإنجيلا ما هو إلا من هذا القبيل)([6]) ومن هنا لابد من توخي الحذر, لأن التشديد على البُعد الرمزي في النص الديني عموما والنص القرآني خصوصا, ينبغي أن يخضع لضوابط دقيقة ورصينة .



ثالثا: المجاز والخطاب القرآني

    من الواضح ان الأجواء الأركونية طفقت تحيد عن الضوابط الموضوعة للتعامل مع الرمزية, وتتعامل مع المسألة بطريقة مختلفة, إذ تؤكد أهمية المجاز الذي يحتل موقعا مهمّا في الخطاب القرآني, فـ( إن القرآن, كما الأناجيل, ليس إلا مجازات عالية تتكلم عن الوضع البشري)([7])؛ فيرى أن المجاز له دور حاسم في (تشكيل كلية الخطاب القرآني, إنه هو الذي يتيح تغيير أو تحوير الوقائع الوجودية الأكثر يومية وابتذالا وتصعيدها وتساميها من أجل أسطرة وترميز مناخ الوعي الديني الجديد الذي يراد تأسيسه وفرضه)([8])


    وعلى الرغم من إقراره بأنه لم تتبلور لديه نظرية متكاملة عن الرمز والمجاز, إلا أنه يتعامل معها كحقائق مسلّم بتأثيرها في بنية الخطاب القرآني, وينقد الآراء التيولوجية التقليدية التي تعتقد أن عمل المجاز يضفي زينة جمالية شكلية فحسب([9]) .


رابعا: القرآن والتاريخية

    قلنا ان أبا زيد اعترض على المقولة التي أطلقها أركون، وبيّن سبب اعتراضه على إمكان اجتماع التاريخية مع القراءة الشمولية المجازية للقرآن, فقال: (ان الظاهرة القرآنية متولدة أساسا من التاريخ, لكنها تعيد إنتاج دلالات أكثر دواما, وتلك الدلالات هي التي أنبتت عليها الظاهرة الإسلامية, والنظر الى القرآن نظرة كلية هو إسقاط أحدثته الظاهرة الإسلامية على الظاهرة القرآنية)([10]).


    وهنا لا يبعد أبو زيد عن الصواب , إذ تتولد الظاهرة القرآنية من رحم التاريخ, وبتنزّلها المتدرج تقرّ بانتمائها الى الزمان والمكان الأرضيين , وتمتطي براق التاريخ وسيلة مُثلى لتناقلها بين الأجيال, وفي الوقت نفسه تحمل قابلية توالد الدلالات الأكثر دواما حسب تعبير أبي زيد , ولكن أين التعارض؟ إن عملية "فهم" الظاهرة الإسلامية للظاهرة القرآنية هو النسبي وهو المتحول دوما, بفعل عوامل عدة أهمها النضج الفكري والتطور الحضاري .


خامسا: المجاز والمسائل الغيبية في القرآن

    إن استنتاج أركون بأن كلية النص القرآني جوهرية وثابتة, في طبيعته استنتاج لا يصحّ - من وجهة نظر أبي زيد - لأن (اللغة المجازية للقرآن التاريخي والاجتماعي تتسم بالتسامي الى مجال المطلق, ثم تعيد توليد التسامي وتضفيه على التاريخي والاجتماعي في كل مرحلة, من البديهي ان ذلك يحدث بفعل انفتاح دائرة التأويل التي أضفت صفة الكلية على الظاهرة القرآنية التي هي ظاهرة في تاريخيتها مجزأة)([11]) .


    فيربط أبو زيد الرمز والمجاز بالمسائل الغيبية التي تتعالى على التاريخ , وبما ان أركون ينسب لغة القرآن الى المجاز مطلقا, ينبثق التعارض من هذه النقطة بالذات, فلا يجتمع التاريخ مع الرمز والمجاز, وإذا ما تم تفنيد ادعاء أركون بشأن الشمولية المجازية للقرآن الكريم يلغى التعارض تلقائيا, فإن في القرآن أحكام شرعية وحدود وفقه وآيات ظاهرة المعنى لا تحتمل التأويل, والأصل في اللفظ انه يدل على الحقيقة, فيؤخذ بظاهر اللفظ ما لم تظهر قرائن لفظية أو معنوية أو سياقية تثبت رمزيتها وتصرف الذهن عن الظاهر, ومن ثمّ ليس كل القرآن مجازا على الإطلاق .


   هذا المعنى أشار إليه الشهيد الأول في قواعده، إذ قال: (الأصل في اللفظ: الحمل على الحقيقة الواحدة، فالمجاز والمشترك، لدليل من خارج)([12]) , وكذلك (لا يحمل اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه)([13]) .


    فالمجاز له حدّ, وهو (اللفظ الذي أريد به ما لم يوضع لإفادته في لغة ولا عرف ولا شرع, ومن حكم الحقيقة وجوب حملها على ظاهرها, إلا بدليل, والمجاز بالعكس من ذلك, بل يجب حمله على ما اقتضاه الدليل)([14]) .


    إذن يمكن القول بأننا لا يمكن إطلاق القول بالمجاز على جميع سور القرآن الكريم وآياته، وان تنوع المعاني لازمه تنوع المصاديق بحسب الظروف الزمانية والمكانية, والمصاديق ليست مجازات, بل حقائق, فـ (الحقيقة القرآنية التي تؤسسها المضامين القرآنية العالية...هي بمعنى أن المصاديق البارزة للنص القرآني لا تغلق دائرة الانطباق, وأن المصاديق اللاحقة لا تدخل من باب المجاز وإنما هي مصاديق حقيقية فعلية)([15]) تتجسد في كل زمان ومكان ضمن شروط الانطباق القرآني.

 

الدكتورة نهضة الشريفي

 

الهوامش:


([1]) ظ الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون , كحيل مصطفى , دار الأمان – الرباط , ط1 – 1432ه – 2011م  : 174

([2]) ظ الفكر الأصولي واستحالة التأصيل , محمد أركون : 208

([3]) الخطاب والتأويل , نصر حامد أبو زيد , المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب , ط3 – 2008م : 117

([4]) ظ م . ن : 117

([5]) دلالة الألفاظ في القرآن الكريم بين الحداثة والتراث , الدكتور محمد حسين الصغير, أستاذ الدراسات القرآنية بجامعة الكوفة , مركز كربلاء للدراسة والبحوث , ط1 , 1437هـ - 2016م : 230

([6]) قراءة في كتاب الرمزية والمثل في النص القرآني , طلال الحسن , قراءات في المنظومة المعرفية للسيد كمال الحيدري , بمشاركة نخبة من الباحثين , مؤسسة الإمام الجوادC للفكر والثقافة , الكاظمية – العراق , 1439ه – 2018م : 2/90

([7]) تاريخية الفكر العربي الإسلامي , محمد أركون , ترجمة هاشم صالح , المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب , ط2 – 1996م : 299

([8]) ظ الفكر الإسلامي قراءة علمية , محمد اركون : 72

([9]) ظ الفكر الإسلامي قراءة علمية , محمد اركون : 85

([10]) الخطاب والتأويل , نصر حامد أبو زيد : 117

([11]) م . ن : 118

([12])القواعد والفوائد في الفقه والأصول والعربية , أبو عبد الله محمد بن مكي العاملي (ت:786هـ) , تحقيق: عبد الهادي الحكيم , منشورات مكتبة المفيد – قم – إيران : 1/ 152 القاعدة 40

([13]) م . ن : 1/ 156 القاعدة 42

([14]) الذريعة الى أصول الشريعة , الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي , تصحيح: أبو القاسم كرجي , 1376ه : 1/ 10

([15]) اللباب في تفسير الكتاب , السيد كمال الحيدري , مكتبة الكلمة الطيبة , بغداد – العراق , ط4 – 1433ه – 2012م  : 73


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات