القائمة الرئيسية

الصفحات

محمد أركون ومصطلح الظاهرة القرآنية



محمد أركون ومصطلح الظاهرة القرآنية



محمد أركون ومصطلح الظاهرة القرآنية



   لا يخفى على الباحث المتأمل أن اللغة المعاصرة انبعثت في قواميسها مصطلحات جديدة صاغها مفكرون منظّرون, وابتكروها تناغما مع الانقلاب الفكري الحداثوي العالمي, وجملة من هذه الاصطلاحات مستعارة من المجتمع الآخر غير المنتمي لنا, والذي له خصوصياته وأفكاره ومعتقداته واسلوبه في الطرح والتحليل والنقد, فتمازجت الأفكار أو تنافرت, وتلاقحت أو تخاصمت.

مصطلحات أركون:

    حين تقرأ مثلا فكر أركون, تجد ان لفيفا من المصطلحات الغربية والعربية , المستعارة والمبتكرة, تصطكّ في متون أبحاثه ومؤلفاته, وحين تقف عند (توظيفه لترسانة من المصطلحات والمفاهيم النابتة في تربة مختلفة عن تربة الفضاء الثقافي الإسلامي)([1]), وتحاول تفكيكها وفهمها تحتاج الى معجم للمصطلحات المعاصرة لتتسنى لك عملية الفهم .

     والمفارقة اللافتة انه يرى عشوائية المصطلحات التراثية, مثل: سنّة, خبر, أثر, سماع, رواية, حديث, وفي الوقت نفسه يتمترس هو خلف مصطلحاته التي يمكن نعتها بالنعت نفسه الذي أطلقه على مصطلحات التراث , يقول: (ان الصراعات والمناقشات والكتابات الخاصة بالقرن الهجري الأول والثاني والتي هدفت الى فرض التراث النبوي ضد الأعراف المحلية السائدة...نلاحظ أنها قد أشاعت مفردات تقنية اصطلاحية مشوشة عن طريق الاستعمال الكيفي أو العشوائي)([2]) .
    
     ومن نماذج المصطلحات التي أطلقها: مصطلح الأرثوذكسية والزندقة, والأدلجة, والأسطرة, والدوغمائية, واللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه, والأشكلة, والأركيولوجيا, والتيولوجيا([3]), وما اشبه ذلك؛ ولذلك صُوّبت نحو متعاطي هذه المصطلحات وأشباهها تهمة التستر وراءها لتغطية التشوش الذهني الذي يعانيه , نجد هذا المعنى واضحا في كلام عبد المجيد الشرفي, إذ يرى أنه لابد من (توطين المفاهيم الحديثة وعدم الوقوع في العلموية الزائفة التي يكون العلم فيها مرادفا للتعمية, ويكون استعمال المصطلحات الرنانة تغطية على عدم وضوح التفكير)([4]) .

كيف تعامل أركون مع الظاهرة القرآنية؟

    ان المنظور الذي انطلق منه محمد أركون في تعامله مع الظاهرة القرآنية منظور إبستمولوجي* يتجاوز منظور الاستشراق الكلاسيكي بعد ان يهضم أبرز ما فيه , ويتجاوز حالة القرآن وتفرعاته اللاهوتية ليشمل جميع الأديان والتعامل معها سواءً بسواء .

    وهو في محاولاته التوحيد بين الأديان يحذو حذو الجابري, فإن التضحية بخصوصيات الكتب السماوية اصبح ديدن جملة من المفكرين المعاصرين, ونحى بعضهم منحىً متطرفا, واركون يصرح بكل وضوح (أقول ان القرآن ليس الا نصا من جملة نصوص أخرى تحتوي على نفس مستوى التعقيد والمعاني الفوارة الغزيرة كالتوراة والأناجيل والنصوص المؤسسة البوذية أو الهندوسية)([5]).
    بل يزيد في إعمامه فيقول (ما الذي يميز النصوص الدينية التي ذكرتها عن النصوص الأرسطوطاليسية والأفلاطونية الواسعة)([6])!!

    بأية آليات استطاع ان يدرج الديانات الوضعية والنصوص البشرية مع الديانات السماوية على حد سواء؟ هذا إعمام لا مسوغ له ولا يتواءم مع موضوعية الباحث العلمي .

    ومصطلح الظاهرة القرآنية على أية حال ليس من مخترعات أركون الخاصة, فقد تناوله قبله وبعده مفكرون آخرون, وكثير منهم جعله عنوانا لمؤلَّفه, ومنهم المفكر الجزائري "مالك بن نبي" في كتابه "الظاهرة القرآنية" , (الا أن تناولهما للمصطلح يقع على طرفي نقيض فالأول ينزل بالظاهرة الى المستوى المادي المحض ليدرس القرآن كما تدرس الظواهر الطبيعية مثل الزلازل, أو الظواهر الاجتماعية كالفقر, بينما يتسامى بها الثاني الى مستوى يجعلها حدثا معجزا بكل المقاييس)([7]) .

     وأركون نفسه يصرح بذلك في قوله : (كان مالك بن نبي قد استخدم قبلي مصطلح الظاهرة القرآنية ضمن منظور تبجيلي أو تقديسي...ولكن استخدامي لهذا المصطلح يتخذ معنى آخر مختلفا بالطبع)([8]) .

   وأحيانا يسميه "الحدث القرآني" إذ يقول: (عندما أستخدم مصطلح الحدث القرآني فإني أغرس القرآن في التاريخية , وعندما أقول "القرآن" فإني أنزع عنه كل تاريخية كما يفعل المسلمون)([9]) , ويلح على القراءة التاريخية للقرآن الكريم بدافع التحجيم (من تأثير القراءة الإيمانية أو التقليدية التي لا تعبأ إطلاقا بمعطيات التاريخ والجغرافيا والواقع)([10]) .

    وقد يكون مصطلح "الحدث القرآني" تعبيرا مرادفا لمصطلح "الظاهرة القرآنية" من ابتداع المترجم هاشم صالحلاسيما إذا تأملنا كلام المترجم: (قلت "الظاهرة القرآنية" وكان يمكن أن أقول "الحدث القرآني" , أي القرآن كحدث تاريخي حصل في لحظة معينة من لحظات التاريخ...)(10).



أركون والبحث العلمي:

     يهدف أركون من استعماله مصطلح "الظاهرة القرآنية" الى وضع جميع التركيبات العقائدية الإسلامية وجميع التحديدات اللاهوتية والتشريعية والأدبية والبلاغية والتفسيرية وغيرها، على مسافة نقدية كافية منه كباحث علمي([11]) لتطبيق منهجيته الجديدة على المحتوى القرآني, والغاية من ذلك (التركيز في آن معا على البعد اللغوي, والسيميائي, والسوسيولوجي, والنفسي, والانتروبولوجي لهذا الخطاب)([12]).

    وإذا كان اركون يتحدث عن نفسه كباحث علمي , فعليه إذن القيام بتحييد كل الأحكام المسبقة قبل الشروع في موضوع بحثه , فهذه هي مواصفات الباحث العلمي النزيه.

    بيد ان هذه الأحكام اللاهوتية المسبقة التي تحدّث عنها تسيطر على وعي كل باحث منذ مراحل الطفولة ولا يستطيع تحييدها والتخلص منها بسهولة ويسر,  حتى ان بعضهم رأى استحالة تطبيق الموضوعية في البحث, فإن (الوصول الى الدراسة الموضوعية للنص وهمٌ ليس إلا, إن خلفيات القارئ حاضرة دائما سواءً كان دينيا أو حداثيا أو علمانيا)([13]), انها مترسخة في الأذهان, منقلبة - بعوامل التكرار, فالاعتياد, فالاعتقاد - الى بدهية تتعالى على كل تساؤل أو نقد, (فالإنسان الذي ولد في بيئة لاهوتية معينة يتشرب مصطلحاتها وعقائدها مع حليب الطفولة, ويصعب عليه جدا عندما يكبر أن يأخذ مسافة عنها أو أن ينظر إليها نظرة موضوعية, ناهيك عن أن يتخلص منها)([14]) .

    ومن الطبيعي ان تكون دائرة استكشاف الإنسان للنص القرآني ومحاولة فهمه (ضمن مستوى معارفه وأدواته المعرفية ومشاكله الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وإشكالياته المعرفية, فيجد فيه أشياء لم يجدها غيره, ويفهم منها أشياء لم يفهمها غيره, وهذا يثبت أن التنزيل يحمل صفة الحياة)([15]) .

    فكيف يتسنى لأركون أن يتخذ مسافة نقدية من هذه التحديدات اللاهوتية ويرتدي مسوح الباحث العلمي؟ وهل من العلمية ان ينعت فكر غيره بالسطحية؟ إذ يقول عن مالك بن نبي انه (قد فرض نفسه في النصف الأول من القرن العشرين بصفته مفكرا مسلما كبيرا عن طريق إصدار كتاب سطحي جدا يدعى: الظاهرة القرآنية, وهو كتاب لا يزال يقرأ بشكل واسع ويعلّق عليه حتى الآن)([16]), فلو كان الكتاب سطحيا - حسب مدّعاه - كيف يبقى صداه الى اليوم ويلقى اهتماما واسعا في الأوساط العلمية ؟

    ويقول عن محمد شحرور بأنه (كالكثير من المؤلفين الآخرين يستخدم بعض المقاطع المتبعثرة من المعرفة العلمية المعاصرة مازجا بين العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية أو الاجتماعية)([17]) !! أين العلمية والموضوعية في هذه الأقوال ؟


الدكتورة نهضة الشريفي

الهوامش: 


([1]) القرآن الكريم والقراءة الحداثية , الحسن العباقي : 16
([2]) الفكر الإسلامي قراءة علمية , محمد أركون , ترجمة: هاشم صالح , ط2 – 1996م: 21-22
([3]) ظ قضايا في نقد العقل الديني كيف نفهم الإسلام اليوم , محمد اركون , ترجمة وتعليق: هاشم صالح , دار الطليعة – بيروت , ط5 – 2018م : 185
([4]) الاسلام بين الرسالة والتاريخ , عبد المجيد الشرفي , دار الطليعة – بيروت – لبنان , ط2 – 2008م : 10
* إبستمولوجيا : هو نظام الفكر, أي معظم المسلّمات الضمنية التي تتحكم بمجمل ما ينتجه الفكر خلال فترة زمنية محددة, أو هو النظام المعرفي في ثقافة ما . ظ التراث والمنهج بين أركون والجابري , نايلة أبي نادر: 560
([5]) الفكر الأصولي واستحالة التأصيل - نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي , محمد اركون , ترجمة: هاشم صالح , دار الساقي , بيروت – لبنان , ط1 – 1999م : 36
([6]) م . ن : 36
([7]) القرآن الكريم والقراءة الحداثية , الحسن العباقي : 77
([8])  قضايا في نقد العقل الديني كيف نفهم الإسلام اليوم , محمد أركون : 186
([9]) الإسلام، أوربا، الغرب – رهانات المعنى وإرادات الهيمنة , محمّد أركون , ترجمة: هاشم صالح , دار الساقي – بيروت – لبنان , ط2 – 2001م : 45 
([10]) الفكر الأصولي واستحالة التأصيل : 205 الهامش
((10)) الفكر الأصولي واستحالة التأصيل : 199 
([11]) ظ م . ن : 200
([12]) قضايا في نقد العقل الديني كيف نفهم الإسلام اليوم : 187
([13]) الدرس القرآني وتجاذبات المناهج – قراءة في علوم القرآن عند د. نصر حامد أبو زيد , حيدر حب الله , سلسلة كتاب نصوص معاصرة - الوحي والظاهرة القرآنية , إعداد وتقديم: حيدر حب الله , مركز البحوث المعاصرة – بيروت – لبنان , ط1 – 2012م : 17
([14]) الفكر الأصولي واستحالة التأصيل , محمد أركون : 75 في الهامش من المترجم هاشم صالح
([15]) تجفيف منابع الارهاب , محمد شحرور : 35
([16]) القرآن من التفسير الموروث الى تحليل الخطاب الديني , محمد اركون : 14 - 15
([17]) القرآن من التفسير الموروث الى تحليل الخطاب الديني : 15

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات