العنصــــر البنـــائي في القصص القرآني
تتحدد هيكلية
السورة القرآنية الكريمة بعناصر عدة، منها ما يتعلق ببنيتها ومنها ما يتعلق بالعنصر الصوري والبياني, ومنها ما يترتب على العنصر الإيقاعي والصوتي, وغيرها ذلك من
العناصر .
ويتدخل كل عنصر من هذه العناصر جزئياً أو
كلياً بهيكل القصة ضمن أساليب مختلفة وأنماط متنوعة فتتوالد من جراء ذلك صور
جمالية أخّاذة، وسوف نتعرض هنا لعنصر مهم من عناصر القصص القرآني وهو العنصــــر البنـــائي
.
وظيفة العنصر البنائي في القصص القرآني:
من أجل
الوقوف على قدر من أسرار القصة القرآنية ودراستها بالمسار الصحيح, لابد بداية من
تحديد العناصر المحيطة بها، والتعامل مع كل عنصر بالبحث والدرس والتحليل، ولابد ــــ
أيضاَ ــــ من الإشارة إلى موقع القصة من السورة القرآنية الكريمة، فإن العنصر
القصصي جاء بوظيفة الإنارة لمضمونات النص القرآني وليس مجرد نوع فني مستقل بذاته، لأن القصة لا ترد في القرآن الكريم إلا إذا تطلّبها المقام
واقتضت الضرورة ذكرها، ويذكر الجزء الذي له علاقة بموضوع السورة، ولا تذكر القصة
كاملة .
والغالب
في الأسلوب القرآني (مزج الموضوعات والمفاهيم المتعددة بعضها ببعض في مقطع
واحد...فهو يمزج الحقائق الكونية بالمعارف العقائدية, وبالأحكام الشرعية السلوكية,
وبالموعظة والإرشاد والتبشير والتحذير)([1]).
والغالب فيه أيضا اجتزاء القصة وجعلها ضمن المنظومة الدلالية في السورة ؛ ولذلك
تتميز القصة في القرآن الكريم بأنها تمتزج
بموضوعات السورة التي ترد فيها امتزاجاً
عضوياً لا مجال فيه للفصل بينها وبين غيرها من موضوعات السورة، بحيث لو حذفنا
القصة من موقعها الوارد في السورة لاختل المعنى، لأن القصة تسهم في بيان مضمون
النص .
مستويات البناء القصصي:
يعدّ البناء الهندسي للنص من أهم العناصر
في العمل الأدبي عامة, وفي النص القرآني خاصة، ذلك ان النص الكريم تحتشد فيه
العناصر الإيقاعية والصورية والقصصية ، وتتجانس فيما بينها وبين المحاور الفكرية .
ولا ريب في أن كل سورة قرآنية تتضمن مجموعة
من الأهداف ، وتتضمن موضوعات معبرة عن هذه الأهداف لتوصيلها إلى القارئ، وان كلاً
من الأهداف والموضوعات تخضع لبناء خاص بحيث ترتبط أجزاؤه بعضها مع بعضها الآخر .
وهذا يعني ان هناك وحدة عامة تطبع السورة
القرآنية وتميزها عن السور الأخرى , وهذه الوحدة تخضع لمستويات متنوعة من البناء :
اولا : الأهداف والموضوعات
حيث نجد ان هناك عدة صور من الوحدة([2]):
أ ــــ وحدة
الموضوع ووحدة الهدف، كسورة (الكافرون ) حيث انها تتضمن هدفا واحدا هو : لكل شخص
حريته في العقيدة ، وتتضمن موضوعا واحدا يتمثل في علاقة المؤمنين بالكفار.
ب ــــ وحدة
الموضوع وتعدد الهدف ، ونجد ذلك في سورة (يوسف) التي تناولت قصة حياته بأكملها بيد
أنها عرضت أهدافا متعددة في هذه القصة الواحدة، مثل: العفة، الصبر، الحسد .
ج ــــ تعدد
الموضوع ووحدة الهدف، مثل ما جاء في سورة (الكهف) من موضوعات متعددة، إذ عرضت حياة
أهل الكهف وصاحب الجنتين وذي القرنين وموسى(ع) وغيرها, إلا أن الهدف واحد هو: نبذ زينة
الحياة الدنيا .
د ــــ تعدد
الموضوعات وتعدد الأهداف ، كما في سورة ( الماعون ) فقد تضمنت موضوعين، الأول:
المكذب بالدين ، والثاني: الساهي عن الصلاة ، وعلى هذا فهي تحمل أكثر من هدف،
فالمكذب بالدين كافر ، اما الساهي عن الصلاة فهو فاسق .
ثانيا: العلاقات
تحمل السورة المباركة أحد ثلاث علاقات([3]) :
1. السببية : أي إن الموضوعات في السورة يترتب أحدها على
الآخر حيث يكون الموضوع سببا للاحقه ومسببا عن سابقه .
2. التجانس : المقصود به مجانسة كل عنصر من عناصر النص مع
الآخر، بمعنى مجانسة الموضوعات مع الأفكار بلحاظ الأدوات الفنية المستعملة, كعنصر
القصة والصورة والإيقاع .. وما يماثلها .
3. النمو : ويعني أن الموضوع ينتقل أو يتحول أو يتطور من
مرحلة الى أخرى، مثلما يتنامى النبات ويقطع مراحل متعددة حتى يصل الى نهاية نموه وتطوره.
ثالثا: الأشكال البنائية
لا
تخلو السورة القرآنية المباركة من أحد الأشكال التالية([4])
:
أ ــــ
البناء الأفقي: تبدأ السورة بموضوع معين وتختم بالموضوع نفسه عبر سلسلة من
الموضوعات المختلفة، مثل سورة الواقعة، حيث بدأت بتمهيد عن الواقعة الأخروية عبر
تقسيمها للبشرية الى ثلاث فئات هم: أصحاب الميمنة، أصحاب المشأمة، والسابقون.
ثم تكلمت
بالتفصيل عن الفئات الثلاث، حتى ختمت النص بالعودة الى البداية وعرض خلاصة عن هذه الفئات
.
ب ــــ
البناء الطولي : تبدأ السورة القرآنية بموضوع معين تتدرج في عرضه ، حتى تنتهي الى
خاتمته على وفق رحلة متسلسلة حيث ينتهي الموضوع مع نهاية السورة ، نجد ذلك متمثلا
في سورة نوح, إذ بدأت بالآية الكريمة]إِنَّا
أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن
يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ وفعلا بدأ
نوح (ع) بإنذار قومه] قَالَ يَا
قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [
إلا ان قومه لم يرعووا، فترتب على ذلك ]مِمَّا
خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا..[ وهكذا نلاحظ
أن السورة بدأت بالإرسال ثم الإنذار وانتهت بالإغراق.
ج ـ البناء
المقطعي : ينتقل النص القرآني بين مجموعة محطات بادئا كل واحدة منها بموضوع لينتهي
بالمحطة نفسها ، أي ان السورة تعرض جملة من الموضوعات وتقف عند كل موضوع بفقرة
متكررة تصير بمثابة محطة او رابطة بين الموضوعات ، مثل سورة المرسلات حيث ينتهي كل موضوع بمحطة {وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ، وكذلك سورة الرحمن التي تنتهى موضوعاتها بفقرة ] فَبِأَيِّ
آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [
.
هكذا تتجلى
مكانة العنصر البنائي في القصص القرآني، ويظهر مدى إسهامه في تكامل النص القرآني فضلا عن إضفاء اللمسات
الجمالية والإبداعية للنص.
الدكتورة نهضة الشريفي
الهوامش:
تعليقات
إرسال تعليق