القائمة الرئيسية

الصفحات



العنصـــر الصـــوري في القرآن الكريم


العنصـــر الصـــوري في القرآن الكريم


المقدمة:

    لابد للباحث عند تعرضه لدراسة البعد البلاغي في القرآن الكريم, أن يدرك أهمية الدراسات الحديثة وما تمتلك من تراكم خبرات السابقين, الى جانب دراسات المتقدمين وعلومهم, (فإنّ نصوص القرآن تتميز بكونها تتضمن وجوها إعجازية وفنية خبرتها القرون الوسطى بحسب ما تمتلكه من مبادئ وقواعد فنية من نحو مستوى التشبيه والاستعارة والكناية مثلا, لكنها في الآن ذاته تتضمن وجوها لم تخبرها تلكم القرون, بل جاء العصر الحديث وخبرها بما يمتلكه من أدوات الثقافة النفسية والاجتماعية والعلمية بنحو عام, فدرسها في ضوء خبراته الجديدة... فلو سمحنا لأنفسنا بالجمود على البلاغة الموروثة لما أمكننا أن نقدم أي جديد من وجوه الإعجاز القرآني)([1]).

ما المقصود بالعنصر الصوري:

    تتكون السورة القرآنية من عناصر متنوعة، كالعنصرالبنائي، والعنصر الإيقاعي، والعنصر الصوري الذي نحن بصدد الوقوف عنده.
     
    والمقصود بالعنصر الصوري: العنصر البياني أو الصورة البيانية للنص, وما يندرج تحتها من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز([2]) .

      والبيان لغة: هو الظهور والوضوح والكشف, حيث جاء في المعجم (بان الشيء وأبان, إذا اتضح وانكشف, وفلان أبين من فلان, أي أوضح كلاما منه)([3]), أما مدلوله الاصطلاحي فهو في تطور وتغير, ولم يستقر على حال معين, ولم نكد نقف على تعريف ثابت له عبر عهود حياة هذه الكلمة.
 
      إن أقدم النصوص التي ظهر فيها هذا اللفظ هو القرآن الكريم, فقد ورد في مواضع عدة, منها قوله تعالى: ]هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ[([4])وقوله تعالى: ]الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ[([5]).

      وأقدم من استعمل لفظ "البيان" من الباحثين عبر التاريخ هو الجاحظ(255ه) , عندما سمّى مؤلَّفه "البيان والتبيين" وثبّت فيه النقول الكثيرة في حدّ البيان واستشهد بنصوص عدة , وعنده (أن البيان هو الكشف والإيضاح, والفهم والإفهام, وهو يحتاج الى تمييز وسياسة, وتمام الآلة, وإحكام الصنعة, وسهولة المخرج, وجهارة المنطق, وتكميل الحروف, وإقامة الوزن)([6]) . 

      وأول من صرح بالدلالة الاصطلاحية للبيان متحدثا فيه ببيانه الساحر ومنطقه الجزل هو عبد القاهر الجرجاني (471ه) فأطلق عليه مسمى "علم البيان" في قوله : (...ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا وأبسق فرعا وأحلى جنىً وأعذب وردا وأكرم نتاجا وأنور سراجا من علم البيان, الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي ويصوغ الحلي ويلفظ الدرر وينفث السحر...)([7]).

      وأول من وضع للبلاغة قواعدها المنطقية وقسمها على المعاني والبيان والمحسنات, ووضع لكل قسم تعريفا جامعا مانعا, هو السكاكي(626ه) فقد عرّف البيان بقوله: (هو معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه وبالنقصان ليحترز بالوقوف على ذلك الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه)([8]).

      ويعرّف البيان اليوم ــــ في اصطلاح البلغاء ــــ بأنه (أصول وقواعد يُعرف بها إيراد المعنى الواحد بطرق يختلف بعضها عن بعض في وضوح الدلالة على نفس ذلك المعنى, ولابد من اعتبار المطابقة لمقتضى الحال دائما)([9]) .

أنماط الصورة البيانية:

      تنشطر الصورة البيانية من حيث مستويات تركيبها الى نمطين رئيسين:

الأول:  الصورة المفردة التي لا تتداخل فيها صور أخرى.
     ويأتي هذا النمط عادةً عند المقارنة بين صورة وصورة, أو حالة وحالة, من دون سبغ صفات مركبة تتحد بمجموعها لتمثل حالة واحدة, ومن ذلك قوله تعالى]أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ[([10]) فقد نفت الآية الكريمة التماثل بين حالتين مفردتين هما المؤمن والفاسق([11]) بلحاظ نوع الجزاء الإلهي المترتب على كلّ منهما, فلا تستوي الجنة بدرجاتها التي هي جزاء المؤمن, مع النار بدركاتها التي هي مصير الفاسق .

الآخر:  الصورة المركبة التي تتألف من صور متعددة تمثل بمجموعها صورة كلية. 
    ومثاله ما جاء في قوله تعالى:  ]إنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَِّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأنْعَامُ حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنُّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أتَاهَا أمْرُنَا لَيْلاً أوْ نهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْس[([12])، فهنا مجموعة من الصور المفردة تتظافر فيما بينها لتؤلف صورة موحدة كبيرة.

     وقد تناولها الجرجاني وفصّل الكلام فيها بقوله:
 (ألا ترَى كيف كثُرت الجُمل فيه؟ حتى إنك تَرَى في هذه الآية عَشْرَ جمل إذا فُصلت وهي وإن كان قد دخل بعضُها في بَعْض حتى كأنها جملةٌ واحدة فإن ذلك لا يمنعُ من أن تكون صُور الجمل معنا حاصلةً تشير إليها واحدةً واحدةً ثم إنّ الشَبَه مُنْتَزع من مجموعها من غير أن يمكن فَصْلُ بعضها عن بعض، وإفرادُ شطر من شطر حتى إنك لو حذفت منها جملةٌ واحدةٌ من أيّ موضع كان، أخلَّ ذلك بالمغزى من التشبيه ولا ينبغي أن تعدَّ الجُمل في هذا النحو بعَدِّ التشبيهات التي يُضَمّ بعضها إلى بعض والأغْراض الكثيرة التي كل واحدٍ منها منفردٌ بنفسه, بل بعدّ جُمَلٍ تُنسَق ثانيةٌ منها على أوَّلةٍ، وثالثةٌ على ثانية، وهكذا)([13]).

أنواع الصورة المركبة:

      إن هذا النمط من الصور المركبة يأخذ أنواعا متنوعة من التركيب تتحدد على وفق السياق الفني ، ومن هذه الأنواع  :

(1)          الصورة المفردة المفصلة :  

      ويأتي التفصيل إما بالوصف أو بالإضافة أو ما أشبه ذلك ، ويشترط فيه أن يكون له تأثير في وجه الشبه سواء كان ملفوظا أو مقدّرا في نظم الكلم([14]), ومثاله قوله تعالى{يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ}([15]) فقد تضمنت هذه الصورة المفردة سمتين هما: الجراد أولا، وكون ذلك منتشرا ثانيا، وقوله تعالى] وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ[([16]) حيث ورد التفصيل بنعت العرجون بالقِدَم,  وقد يكون التفصيل بأكثر من سمة كما في الآية المباركة ] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون[([17]).

       فقد جاءت الشجرة في هذا التشبيه موسومة بسمات متعددة شبّه الكلمة الطيبة بها، وهي: كونها طيبة، أصلها ثابت، فرعها في السماء، ودائمة الثمر، وانضوت تحت علاقة قائمة على الرسوخ والشموخ والدوام والعطاء([18]).

(2)          الصورة المكثفة : 

       وهي الصورة المركبة من مجموعة صور جزئية تتكثف فيما بينها فتشكل صورة موحدة لتعرض لنا ظاهرة معينة ، كقوله تعالى في صفة المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يضمرون:]مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ[([19]).

       نلاحظ أن المشبه في هذه الآية الكريمة هو (حال المنافقين المتمثلة في تركيب صفاتهم من كذب ورياء ومداهنة وخسران ما يصيب غيرهم في بيئتهم المسلمة من خير)([20]), أما المشبه به فهو متمثل بـ( هيئة رجل تتجسد أوضاعه في أنه أوقد نارا في ليلة مظلمة بمفازة, فاستضاء بها ما حوله, فاتقى ما يخاف وأمن, فبينا هو كذلك إذ انطفأت ناره فبقي خائفا متحيرا)([21]). من الواضح أن المقصود ليس صورة المنافق وهو يستوقد النار فحسب, بل الهيئة المركبة من مجموع الصور, فلا تكتمل الفكرة ما لم تتحد وترتبط خيوط الصور المعروضة بالكامل .



(3)          الصورة البيانية : 

       وتأتي على وجوه, منها :

(الوجه الأول) : 
    لبيان إمكان المشبه, ويتمثل في الآية الكريمة]وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ[([22]) حيث نلاحظ هنا أن القرآن الكريم قد (بيّن ما لا تجريه العادة, بما جرت العادة به؛ لأن المشبه: حال الجبل في ارتفاعه عليهم, والمشبه به: حال المظلة في ارتفاعها)([23]) .
(الوجه الثاني) : 
    لبيان حال المشبه, كما في قوله تعالى حين أراد أن يبين لنا ضعف إيمان المنافق, وعدم الثبات فيه, واضمحلاله عن القلوب بأدنى شيء, وأنه على أعتاب الانقلاب الى الكفر:  ]َمثلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[([24])حيث شبهه ببيت العنكبوت ونسجه الواهي, وانه من أضعف الأشياء قواما وأرقّها حالة فأية ريح تحركه تغيره, وبذا فضح المنافقين وبين حالهم وكشف نواياهم التي لا تخفى على علاّم الغيوب([25]).

(الوجه الثالث) : 
    لبيان مقدار حال المشبه, جاء ذلك في وصف قساوة قلوب المنافقين في الآية الكريمة{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }([26]) فالصور الجزئية المتمثلة في تفجر الأنهار, وتشقق الماء, والخشية من الله تعالى, تقوم بمهمة تبيين وتوضيح حجم القساوة, فقد وصف سبحانه قلوب بني اسرائيل بالغلظة والقسوة, ثم وصف مقدار تلك القسوة, التي لا تعرف الرحمة أو الخشوع, بأنها أشد قسوة من الحجارة, فبعض الحجارة يتفجر منه الأنهار, وبعضها تنبع منه العيون ولكن قلوبهم لا تلين ولا ترقّ([27]), وبذا يبدو أن هذا التشبيه قد تمحض عن صورة عقلية, و(كذا مثّل به في البرهان, وكأنه ظن أن التشبيه واقع في القسوة ، وهو غير ظاهر، بل هو واقع بين القلوب والحجارة، فهو من الأول)([28]) ومعنى ذلك ان هناك من يعدّه تشبيها محسوسا لا عقليا, لأن القلب والحجارة كلاهما حسيان .

(4)          الصورة التفريعية : 

       نمثل لذلك بما جاء في سورة النور{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }([29]),  ففي هذه الآية الكريمة نلحظ مجموعة من الصور المفردة تتفرع إحداها عن الأخرى وتتظافر فيما بينها لتؤلف صورة موحدة كبيرة, حيث شبه الله تعالى( نوره الذي يلقيه في قلب المؤمن بمصباح اجتمعت فيه أسباب الإضاءة...بوضعه في مشكاة وهي الطاقة التي لا تنفذ، وكونها لا تنفذ لتكون أجمع للبصر وقد جعل فيها مصباح في داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها, ودهن المصباح من أصفى الأدهان وأقواها وقودا لأنه من زيت شجر في أوسط الزجاج لا شرقية ولا غربية...)([30]) فالتشبيه الأول ]كمشكاة[ تفرع الى جملة صور، ثم ترتب على التفريع تشبيه آخر]كأنها كوكب دري.  

      فلنتأمل هذه الآية الكريمة:
    {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}([31]) فهذه الصورة الكلية أيضا تتضمن صورة جزئية رئيسة, وهي الحبة، ثم تتفرع عن السنابل السبع صورة (مائة حبة) في كل سنبلة .

(5)          الصورة المتداخلة : 

       وتتمثل في قوله تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}([32]) 

       إن القرآن الكريم حينما يريد تشبيه الصدقات التي لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا ولا تستنزل رحمة؛ لأنها امتزجت بما يفسدها من الرياء تارة, واختلطت بما يعكرها من المن والأذى تارة أخرى, يجد في "الصفوان" الذي يغطيه غشاء شفاف من التراب فيصيبه المطر فيتصلب ويتجمد عليه فيعود متحجرا صلدا, صورة شاخصة لبلوغ التشبيه ذروته في التجسيد, وتعبير عن القلب الذي تكسوه غشاوة مما داخَله من الرياء, أو بما نفث من المن والأذى, فبدلا من أن يساعد المطر على إزالة التراب والقذى المتراكم, وإذا به يزيد الحجر قساوة وتصلبا([33]).

      والصورة الأولى المتمثلة في تشبيه المنان بالمرائي ]كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ..[ تتداخل معها صورة أخرى وهي تشبيه المرائي بالحجر]فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ..[على وجه يستحيل معه انفكاك إحداهما عن الأخرى, وبهذه الازدواجية في التركيب تتم الصورة الكلية ويكتمل المعنى المقصود.               

(6)          الصورة التمثيلية : 

      وهي الصورة المركبة ذات الطابع القصصي, وهذا النمط يزخر به القرآن الكريم بكثرة بالغة, ومن ذلك قوله تعالى { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ[([34]).

       حيث استهلت الأقصوصة بالاستفهام, وهو هنا بمعنى النفي, أي لا يحب أحدكم أن تكون له جنة تحمل ثمارا متنوعة من نخيل وأعناب, وتجري من تحتها الأنهار, وقد ضعف من الكبر عن الكسب, وله أولاد صغار لا يقدرون على شيء, فأصابتها ريح شديدة فيها نار, فاحترقت, وبقي هو وأولاده عجزة متحيرين لا حيلة لهم .

      نلحظ أن هذه الصورة التمثيلية تجسد حالة المرائي والمنان في ذهاب نفقته وعدم نفعها, في الوقت الذي هو أحوج ما يكون إليها في الآخرة، وعن ابن عباس: هو الرجل عمل بالطاعات ثم بعث له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله([35]), ونلحظ أيضا التعبير القرآني في ذيل الآية الذي يدعونا الى التفكر بمضمون هذه الصورة والاعتبار بها ]كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ[ .


الدكتورة نهضة الشريفي


الهوامش: 



([1]) الإسلام والفن , د . محمود البستاني : 82
([2]) ظ م . ن : 83
([3]) معجم مقاييس اللغة , ابن فارس : مادة (بين)
([4]) سورة آل عمران : 138
([5]) سورة الرحمن : 1ـ 4
([6]) البيان والتبيين , الجاحظ : 76
([7]) دلائل الإعجاز ، عبد القاهر الجرجاني : 4
([8]) مفتاح العلوم ، السكاكي : 77
([9]) جواهر البلاغة ، أحمد الهاشمي : 155
([10]) سورة السجدة : 18
([11]) ظ أصول البيان العربي , د . محمد حسين علي الصغير : 106
([12]) سورة يونس : 42
([13]) أسرار البلاغة , عبد القاهر الجرجاني : 42
([14]) ظ أساليب البيان في القرآن ، جعفر الحسيني : 293
([15]) سورة القمر  : 7
([16]) سورة يس : 39
([17]) سورة إبراهيم : 24 ـ 25
([18]) ظ  أساليب البيان : 293
([19]) سورة البقرة : 17
([20]) البلاغة والتطبيق ، د . أحمد مطلوب : 287
([21]) م . ن : 287
([22]) سورة الأعراف : 171
([23]) أساليب البيان في القرآن : 347
([24]) سورة العنكبوت : 41
([25]) ظ أساليب البيان في القرآن : 349
([26]) سورة البقرة  :  74
([27]) ظ أساليب البيان في القرآن : 352
([28]) الإتقان في علوم القرآن , جلال الدين السيوطي : 2 / 84
([29]) سورة النور  : 35
([30]) الإتقان في علوم القرآن : 1/ 84
([31]) سورة البقرة  : 261
([32]) سورة البقرة  : 264
([33]) ظ أصول البيان العربي : 129
([34]) سورة البقرة  : 266
([35]) ظ تفسير الجلالين , جلال الدين محمد بن أحمد المحلي وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي: 266
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات