القصة القرآنية بين أقلام المفسرين
نظر بعض المفسرين إلى دلالة القصة ضمن معنيين : معنى لغوي ، ومعنى ديني،
كون هذه اللفظة قد استعملت بكلا الدلالتين في القرآن الكريم، فقد وردت لغوياً
بمعنى تتبع الأثر في مثل قوله تعالى ]فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا[([1]) ، وأما المعنى الاصطلاحي الذي هو
الحكاية والإخبار فقد ورد في قوله تعالى ]تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ
مِنْ أَنبَآئِهَا[([2]) ]نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم
بِالْحَقِّ[([3])] ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء
الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ[([4]) .
القصة القرآنية في منظور المتقدمين :
الرازي:
جاء في التفسير الكبير للرازي:
(والقصص هو مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب
النجاة )([5]) ، وهو قول يشرح معنى القصة شرحاً
دينياً. وجاء عنه أيضا: (القصص إتباع بعضه، وأصله في اللغة المتابعة، قال تعالى ] وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ
قُصِّيهِ [ أي اتبعي أثره... وإنما سميت الحكاية قصة
لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئاً فشيئاً)([6]), وهذا القول يدل على أن الرازي كان
يحاول التقريب بين المعنى اللغوي والاصطلاح الأدبي، وذلك عند ربطه بين الاثنين
باستعماله لفظ (الحكاية) وإطلاق لفظ (قصة) عليها، فنخلص من ذلك الى أن هناك علاقة
وثيقة بين معنى القصة اللغوي، والمعنى المجازي الاصطلاحي .
الطبرسي:
وفي مجمع البيان للطبرسي عند تفسيره للوصف
(أحسن القصص) قال: (نبين لك أحسن البيان...وهذا كقولهم صمت أحسن الصيام وقمت أحسن
القيام، فالمعنى نبين لك أحسن تبيين وأحسن إيضاح...وقيل إنما سمي القرآن أحسن
القصص لأن فيه أخبار الأمم الماضية وأخبار الكائنات الآتية، وجميع ما يحتاج إليه
العباد إلى يوم القيامة بأعذب لفظ وتهذيب في أحسن نظم وترتيب)([7]).
الزمخشري:
وفي قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ
وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}([8])، قال الزمخشري في الكشاف عند تفسيره هذه
الآية:
(هذا مَثل، كأن الغضب كان يغريه على ما
فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجر برأس أخيك إليك)([9]) .
القصة القرآنية في المنظور الحديث :
الطباطبائي:
قال الطباطبائي في الميزان: ( وربما قيل إنه مصدر بمعنى الاقتصاص، فإن كان
اسم مصدر فقصة يوسفCأحسن قصة لأنها تصف إخلاص التوحيد في
العبودية وتمثل ولاية الله سبحانه لعبده وأنه يربيه بسلوكه في صراط الحب، ورفعه من
حضيض الذلة إلى أوج العزة...وإن كان مصدراً فالاقتصاص عن قصته بالطريق الذي اقتصه
سبحانه به أحسن الاقتصاص لأنه اقتصاص لقصة الحب بأعف ما يكون وأستر ما يمكن)([10]).
هذا التفسير يكشف عن اعتقاد العلامة
الطباطبائي بأن (أحسن القصص) وصف مختصّ بقصة يوسف حصراً ، لكن هناك من المفسرين من
يميل إلى الاعتقاد بأن (أحسن القصص) وصف للقرآن كله لا لسورة منه، فقد قال صاحب
تفسير الصافي بأن(أحسن القصص) تعني:
(أحسن الاقتصاص لأنه اقتصهن على أبدع الأساليب
أو أحسن ما يقص لاشتماله على العجائب والحكم والعبر)([11])، والهاء في (لأنه) عائدة على القرآن،
وهو بهذا يتفق مع العلامة الطبرسي في كون هذا الوصف مشتملاً على جميع كلام الله
تعالى، وأيده في ذلك صاحب "الأمثل" حيث نوّه إلى اعتقاد بعض المفسرين
(أن "احسن القصص" إشارة إلى مجموع القرآن وأن جملة]بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ[([12]) قرينة على ذلك، وأن الله تعالى عبّر
بـ " أحسن القصص" عن مجموع هذا القرآن الذي جاء في أجمل البيان والشرح,
وأفصح الألفاظ وأبلغها مقرونة بأسمى المعاني وأدقها )([13]). وذكر أيضاً أن القصة هنا ليست بمعنى
سرد الحكاية بل ( المراد معناها الجذري في اللغة وهو البحث عن آثار الشيء وبما أن
أي موضوع حين يشرح ويفصّل يبيّن بكلمات متتابعة فلذلك يطلق عليه قصة أيضاً )([14]) .
ثم ربط المعنى اللغوي بتاريخ الغابرين من الأقوام في قوله: (إن القصص تعنى
بتاريخ القدامى والبحث في سير حياتهم, وهي في الأصل من (القصّ) بمعنى تعقب
الأثر... وقولهم لثأر الدم (القصاص) لأنه تتبع لحقوق أصحاب الدم)([15]) .
الربيعي:
وعرّف الدكتور فالح الربيعي القصة
بمفهومها الحديث بأنها عبارة عن (تسجيل لفترة معينة من فترات الحياة تضم حادثة
واحدة أو عدة حوادث أثارت انطباعاً أو انفعالاً في نفس الكاتب دفعه إلى أن يسجل
حادثة أو حوادث تلك الفترة الزمنية التي قد تكون طويلة, أو متوسطة الطول, أو تكون
قصيرة خاطفة)([16]).
والقصة عنده تعني أيضا سرد الأخبار
على وفق معانيها وألفاظها الصحيحة الواقعية على وجه الدقة. وهي (نوع من المتابعة
سواء بالنسبة إلى القاص نفسه أم المستمع إلى القارئ، فالقاص تتبع في سرده لأحداث
القصة تسلسلاً معيناً حتى وصل إلى نهايتها، والقارئ هو الآخر تابع المعاني التي
ألقاها القاص في ذهنه حتى وصل إلى نتيجتها)([17]) .
خلف الله:
عرّف محمد أحمد خلف الله
القصة بأنها (ذلك العمل الأدبي الذي يكون نتيجة تخيل القاص لحوادث وقعت من بطل لا
وجود له, أو لبطل له وجود ولكن الأحداث التي دارت حوله في القصة لم تقع, أو وقعت
ولكنها نظمت في القصة على أساس فني بلاغي فقدم بعضها وأخّر آخر وذكر بعضها وحذف
آخر)([18]).
محمد يوسف نجم:
عرّف الدكتور محمد يوسف نجم القصة بأنها (مجموعة من الأحداث يرويها الكاتب،
وهي تتناول حادثة واحدة أو حوادث عدة تتعلق بشخصيات إنسانية مختلطة تتباين أساليب
عيشها وتصرفها في الحياة على غرار ما تتباين حياة الناس على وجه الأرض)([19]) .
البستاني:
عُرّفت القصة في أشمل معانيها وأوسع دلالاتها الاصطلاحية من قِبل الدكتور
محمود البستاني بأنها (عمل قائم على بناء هندسي خاص يمنح كاتبها واحداً أو جملة من
الأحداث والمواقف والأبطال والبيئات عبر لغة تعتمد السرد أو الحوار أو كليهما،
وتتضمن هدفاً فكرياً محدداً يقوم القاص بإخضاع عناصره إلى ما هو ممكن ومحتمل من
السلوك وفق عملية اصطفاء خاصة للعناصر المذكورة)([20]).
هذه النظرة الشاملة الجامعة التي
تمثلت في التعريف الأخير تناولت جميع عناصر القصة ، ويمكن الاطمئنان إلى أن
التعريفات الحديثة تلتقي جميعاً عند أهم عناصر القصة التي تمثل المقومات الأساس
لها ، وهي :
(البيئة الزمانية والمكانية) ، (الحوادث) ، (والشخصيات) .
الدكتورة نهضة الشريفي
الهوامش:
تعليقات
إرسال تعليق