القائمة الرئيسية

الصفحات

جماليات العنصــــر الإيقاعــــي في الآيات القرآنية - الجزء الأول


جماليات العنصــــر الإيقاعــــي في الآيات القرآنية -  الجزء الأول




جماليات العنصــــر الإيقاعــــي في الآيات القرآنية 

 تتميز جماليات العنصر الإيقاعي في الآيات القرآنية بالروح الموسيقية التي تجعل المتلقي في حالة انشداد وتجاوب وجداني وتواصل مع النص القرآني


   تحمل السورة القرآنية المباركة عناصر متعددة، كالعنصر البنائي، والعنصر الصوري، والعنصر الإيقاعي الذي سوف نتعرض لبيانه في هذا البحث.      
   العنصــــر الإيقاعــــي من العناصر التي تتناول البعد الخارجي للنص بلحاظ التواشج والتمازج بين الحروف والكلمات والعبارات سواء كان في عبارة أم فقرة من النص أم في فقراته جميعا . 

خصوصية العنصر الإيقاعي :

      يمثل العنصر الإيقاعي بانضمامه إلى العنصر الصوري مفهوم الجمال في النص الأدبي, بيد ان للعنصر الإيقاعي خصوصية بالغة الأهمية حيث انه يتميز بالروح الموسيقية التي تجعل المتلقي في حالة انشداد وتجاوب وجداني وتواصل مع النص, وهذه الموسيقى إنما هي توظيف للصوت من أجل هدف مقصود ، وتعبير عن إيقاع ذاتي للإنسان ( فإن العامل الذي ميز الإنسان من سواه في استخدام صوت غيره لمعرفة حالته الفسلجية هو العقل ، فهل الصوت مدركة عقلية ؟

    نعم .. وإذا صار الصوت مدركة عقلية فهل الإيقاع الصوتي مدركة عقلية ؟ نعم ان الإيقاع مدركة عقلية؛ لأن العقل يتعامل مع الصوت المستلم على نحو غير منفصل عن الوجدان)([1]).

      لذا أولى النص القرآني اهتماما بالغا في موسيقاه النثرية ، فنحن ( نلمس بوضوح هذا الإيقاع الذاتي في جميع الآيات والسور وإن تباين هذا الإيقاع تبعا لفعل المقصد والوسط المخاطب عند نزول القرآن ، لكنه يلتقي في أعماق الأحاسيس النفسية والذهنية والذوقية حتى يتوافق مع أحد مفاتيح الشخصية فيردها إلى الإيمان الفطري) ([2]).

      إن مسألة التوافق هذه لها مغزى واضح وهو بلوغ الإنسان الى حالة من التأثر والاعتبار والخضوع للأحاسيس العميقة التي ترده الى الفطرة السليمة, من خلال البعد الفني الإيقاعي . 

      يمثل الإيقاع بانضمامه الى العنصر البنائي ثنائيا يسهم في خلق صورة متناسقة مؤثرة في النفس بشكل كبير، فإن( للإيقاع والتلاؤم مع الموضوع ملمح جمالي ...فالتلاؤم يرتبط بالإيقاع ارتباطا وثيقا ...فالإيقاع الهادئ له موضعه الملائم له, والإيقاع الهادر الصاخب له موضعه, والإيقاع الساكن الرقيق له موضعه أيضا )([3]).

     ففي آيات "الضحى" مثلا نلمح هذا الهدوء وتلك السكينة البادية في نغمات الرحمة الواسعة والمنبعثة من التلاؤم والتآلف وإيقاع الفواصل :

] وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ[  هنا تكشف فواصل الآيات عن تمهل واستقرار ويغلب عليها التساوي في الوزن ، والتوازن في الإيقاع .

     أما ما يتصل بالإيقاع القوي فيتم التناسق فيه بشكل ملفت( متلائما مع الموضوع من حيث القوة والجرس الصوتي المدوي المنبثق من الألفاظ بحروفها والجمل بتراكيبها والخواتم بشدة جرسها وقرع الأسماع بها, ويصبح الإيقاع هادرا صاخبا قويا له رنينه الحاد, وتساعد الفاصلة على نقل ذلك كله الى الوجدان)([4]) .

    وهذا ما نلحظه في سورة"القارعة" حيث تتناسب قوة الإيقاع وشدّته بمشاهد القيامة وأهوالها] الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [ .

      ان القرآن ليعنى بالانسجام اللفظي عناية بالغة لما لذلك من تأثير كبير على السمع, ووقع مؤثر في النفس ، فقد يجئ اللفظ متقدما أو متأخرا انسجاما مع فواصل الآيات كما في قوله تعالى ] قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [([5]) حيث قدم لفظ "موسى" على "هارون" انسجاما مع الفواصل السابقة واللاحقة في السورة ، إلا انه في آية أخرى جعل "موسى"  نهاية الفاصلة لأن الألف فيها هي التي تناسب فواصل الآي في سورة طه ] قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [([6]) ([7]) .

      وقبل الاستغراق في فروع الإيقاع وتشعباته لابد لنا من التذكير والتأكيد على الحقيقة الثابتة التي لا يرقى اليها الشك، وهي: (إن القرآن الكريم راعى في كل ذلك أيضا ما يقتضيه التعبير والمعنى ولم يفعل ذلك للانسجام الموسيقي وحده, فإنه لو لم يكن الجانب الموسيقي مراعىً في ذلك لاقتضاه الكلام من جهة أخرى، فهو لم يختم آية الشعراء بكلمة "هارون" وآية طه بكلمة "موسى" مراعاةً للانسجام الموسيقي وحده, بل اقتضاه الكلام من جهة أخرى)([8]) .
 
     يتحقق العنصر الإيقاعي ضمن صنفين رئيسين تحتشد فيهما عبارات القرآن الكريم بأسلوب مدهش يبعث على الإثارة والإمتاع, والهيبة والخشوع ، وهما : الإيقاع الداخلي, والإيقاع الخارجي، وتتفرع عن الأخير مستويات عدة, وهذان الصنفان هما:

الإيقـــاع الداخـلـي: 

    المقصود بالإيقاع الداخلي ( التوافق بين الدلالة والإيقاع ، أو التجانس بين معنى العبارة وحروفها )([9]) وهو سمة جوهرية يتسم بها القرآن ، وعنصر أساسي من عناصر اكتماله، ويمكن القول ان النصوص القرآنية جميعا تعتمد على صياغة إيقاعية خاصة سواء أكانت عبارة واحدة مفردة كقوله تعالى]مُدْهَامَّتَانِ[ ([10]) أو مركبة من مجموعة عبارات, مثل سورة التكاثر]أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ,  حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ,  كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ  ,  ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ  ,  كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ  ,  لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ  ,  ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ,  ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ[.



الإيقـــاع الخـارجـي:

    ينشطر الإيقـــاع الخـارجـي الى أنماط ثلاثة هي : التوازن ، التجنيس ، والفاصلة([11]) .

أولا : التوازن  

    ويسمى أيضا "الموازنة", والمقصود به (أن تكون ألفاظ الفواصل من الكلام المنثور متساوية في الوزن... وإذا كانت مقاطع الكلام معتدلة وقعت من النفس موقع الاستحسان وهذا لا مراء فيه لوضوحه)([12]).

    وقيل أيضا : (ينبغي أن تكون الفواصل على زنة واحدة، وإن لم يمكن أن تكون على حرف واحد، فيقع التعادل والتوازن، كقول بعضهم: اصبر على حرّ اللقاء، ومضض النزال، وشدة المصاع، ومداومة المراس. فلو قال: على حرّ الحرب، ومضض المنازلة، لبطل رونق التوازن، وذهب حسن التعادل)([13]).

     ويمكننا تأمل مئات الآيات في القرآن الكريم, مزدانة خواتيمها بالإيقاع المتوازن, ومن أمثلة ذلك قوله تعالى ]وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ , وَمَاء مَّسْكُوبٍ }([14]) حيث نلاحظ اتفاق الوزن دون التقفية في لفظي "ممدود" و "مسكوب" , ونستطيع أن نتحسس جمالية إيقاعهما وتأثيره في النفس, وقوله تعالى]وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ , وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[([15]) فالمستبين والمستقيم على وزن واحد .     
       إن هذا النوع من الكلام الموزون هو( أخو السجع في المعادلة دون المماثلة؛ لأن في السجع اعتدالا وزيادة على الاعتدال, وهي تماثل أجزاء الفواصل لورودها على حرف واحد, وأما الموازنة ففيها الاعتدال الموجود في السجع ولا تماثل في فواصلها, فيقال إن كل سجع موازنة, وليس كل موازنة سجعا, وعلى هذا فالسجع أخص من الموازنة)([16]).

     وفي استهلال سورة النازعات نلحظ العبارات المتناسقة التي تحقق التوازن, إلا أن فواصلها غير متحدة التقفية: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} ]وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} ]وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً} ]فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً}.

ثانيا : التجنيس    

    التجنيس هو: ( أن يورد المتكلم كلمتين تجانس كلّ واحدة منهما صاحبتها في تأليف حروفها... فمنه ما تكون الكلمة تجانس الأخرى لفظا واشتقاق معنى)([17]) ومن التجنيس قوله تعالى: ]وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ [([18])]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ[([19]) ]تتقلَّبُ فيه القلوبُ والأبصار[([20]) ]والتفّت السّاق بالسّاق إلى ربّك يومئذٍ المساقُ[([21]) .

       ويسمى أيضا الجناس والتجانس والمجانسة, وقيل ان (حد التجنيس هو اتفاق اللفظ واختلاف المعنى...وإنما سمي هذا النوع من الكلام مجانسا لأن حروف ألفاظه يكون تركيبها من جنس واحد, وحقيقته أن يكون اللفظ واحد والمعنى مختلفا)([22]), وهذا ما لا تكاد أية سورة قرآنية تخلو منه .
      ولابد من ملاحظة التواشج والتمازج بين الألفاظ أو الفقرات المتجانسة وبين مداليلها ومعانيها, فلا ينبغي ان يكون التجنيس عيالا على المعنى, وهذا الأمر أخذ اهتماما واسعا من قِبل عبد القاهر الجرجاني، حيث أكد أهمية التناسب بينهما بقوله:

  )  أما التجنيس فإنك لا تستحسن تجانُس اللفظتين إلا إذا كان وقع معنييهما من العقل موقعاً حميداً، ولم يكن مَرْمَى الجامع بينهما مَرْمًى بعيداً...فإن ما يُعطي التجنيس من الفضيلة، أمرٌ لم يتمَّ إلا بنُصْرةِ المعنى، إذ لو كان باللفظ وَحْدَهُ لما كان فيه مستحسنٌ...ولذلك ذُمَّ الاستكثار منه والوَلُوعُ به، وذلك أن المعاني لا تَدِين في كل موضع لما يَجْذبها التجنيس إليه، إذ الألفاظ خَدَمُ المعاني والمُصرَّفةُ في حكمها، وكانت المعاني هي المالكة سياستهَا، المستحقَّةَ طاعتها...)([23]) .

      ينشطر التجنيس الى نمطين رئيسين, تتشعب من أحدهما فروع عدّة :
الأول : التجنيس التام, وهو(أن تتساوى حروف ألفاظه في تركيبها ووزنها)([24]), أي اتفاق اللفظين, بلحاظ حروفهما, في أمور أربعة: أنواع الحروف ــــ أعدادهاــــ هيئاتهاــــ وترتيبها([25])، ومن ذلك قوله تعالى] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ[([26]), فإن لفظة الساعة الأولى في هذه الآية الكريمة تعني يوم ال[1]قيامة, أما الساعة الأخرى في الآية نفسها فتدل على وحدة قياس الزمن, واللفظتان متفقتان في الأمور الأربعة بتمامها .

الآخر: التجنيس غير التام, وهو( أن يكون التشابه في غالب حروف اللفظين)([27]) ويتحقق الاختلاف في أمر واحد من الأمور التي بنَت الجناس التام, كقوله تعالى] وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً[([28]) فجاء التجنيس في لفظي "يحسبون"  و "يحسنون" .

     ويقسم التجنيس غير التام على أنواع عدة , سنذكرها ونفصّل القول فيها لاحقا في الجزء الثاني من هذا البحث .


الدكتورة نهضة الشريفي   


الهوامش :







([1]) فن السيناريو في قصص القرآن ، د.جمال شاكر البدري : 23
([2]) م . ن : 24
([3]) من جماليات التصوير في القرآن الكريم , محمد قطب عبد العال : 240
([4]) م . ن : 244
([5]) سورة الشعراء : 47 ـ 48
([6]) سورة طه : 70
([7]) ظ  التعبير القرآني ، د.فاضل صالح السامرائي : 217
([8]) التعبير القرآني : 218
([9]) أساليب البيان : 169
([10]) سورة الرحمن : 64
([11]) ظ أساليب البيان : 170
([12]) المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ، ابن الأثير  : 272   
([13]) كتاب الصناعتين : 80
([14]) سورة الواقعة  : 30ـــ31
([15]) سورة الصافات : 117 ـ 118
([16]) المثل السائر : 273
([17]) كتاب الصناعتين : 97
([18]) سورة النمل : 44
([19]) سورة الروم 43
([20]) سورة النور : 37
([21]) سورة القيامة : 30
([22]) المثل السائر : 247
([23]) أسرار البلاغة : 3
([24]) المثل السائر : 241
([25]) ظ البلاغة والتطبيق : 433
([26]) سورة الروم : 55
([27]) موجز البلاغة : 42
([28]) سورة الكهف : 104

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

3 تعليقات
إرسال تعليق
  1. لطفا كتاب اساليب البيان وكتاب التعبير القرآني لمن

    ردحذف
    الردود
    1. أزال المؤلف هذا التعليق.

      حذف
    2. نعم أخي كتاب أساليب البيان مؤلفه جعفر الحسيني أما التعبير القرآني فمؤلفه فاضل السامرائي

      حذف

إرسال تعليق

التنقل السريع في المحتويات