القائمة الرئيسية

الصفحات

جماليات العنصــــر الإيقاعــــي في الآيات القرآنية - الجزء الثاني



جماليات العنصــــر الإيقاعــــي في الآيات القرآنية - تتميز جماليات العنصر الإيقاعي في الآيات القرآنية بالروح الموسيقية التي تجعل المتلقي في حالة انشداد وتجاوب وجداني وتواصل مع النص القرآني  الجزء الثاني



جماليات العنصــــر الإيقاعــــي في الآيات القرآنية 

الجزء الثاني 

 تتميز جماليات العنصر الإيقاعي في الآيات القرآنية بالروح الموسيقية التي تجعل المتلقي في حالة انشداد وتجاوب وجداني وتواصل مع النص القرآني

 

    يتحقق العنصر الإيقاعي ضمن صنفين رئيسين تحتشد فيهما عبارات القرآن الكريم بأسلوب مدهش يبعث على الإثارة والإمتاع, والهيبة والخشوع .
    وهذان الصنفان هما: الإيقاع الداخلي ، والإيقاع الخارجي ، وينشطر الأخير الى أنماط ثلاثة هي : التوازن ، التجنيس ، الفاصلة .

    بينّا في الجزء الأول:
أولا: التوازن 
ثانيا: التجنيس
وسنبين في هذا الجزء النمط الأخير وهو: الفاصلة 

    ذكرنا أيضا أن التجنيس ينشطر الى نمطين رئيسين, التجنيس التام ، والتجنيس غير التام .

أنواع التجنيس غير التام :

    يقسم التجنيس غير التام على أنواع عدة , منها :

النوع الأول: 

    اختلاف اللفظين في أنواع الحروف, أي(أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير وإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس)([1]) فيكون الاختلاف:

إما :  في الحرف الأول مثل قوله تعالى]وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ[([2]) فاللفظان المتجانسان(سبأ) و(نبأ) قد اختلف حرف الابتداء في أحدهما عمّا في الآخر, وهما السين والنون . 

وإما:  أن يكون الاختلاف في وسط اللفظين, كقوله تعالى ]وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنأَوْنَ عَنْهُ[([3]), وقوله تعالى] وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً[([4]) .

وإما:  أن يكون الاختلاف في الحرف الأخير من اللفظ, كما في قول رسول الله(( الخيل معقود بنواصيها الخير الى يوم القيامة))([5]).

النوع الثاني : 

    اختلاف اللفظين في أعداد الحروف, بمعنى (أن تكون الألفاظ مختلفة في الوزن والتركيب بحرف واحد)([6]) كما في قوله تعالى]وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ , إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [([7]) حيث نلاحظ تجانس لفظي(الساق) و(المساق), وجاء الاختلاف في عدد الحروف, فالأول مؤلف من ثلاثة حروف, والآخر من أربعة حروف بزيادة الميم في أوله([8]).

النوع الثالث : 

    اختلاف اللفظين في هيئة الحروف, أي أن تكون الحروف متساوية في تركيبها مختلفة في وزنها, نحو قوله تعالى]وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ , فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ[([9]) فقد تجانس في هاتين الآيتين الكريمتين اللفظان (منذرين) و(المنذرين), وتشخص الاختلاف بينهما في حركة حرف الذال, فكُسر في الأول لأنه اسم فاعل, وفُتح في الثاني لأنه اسم مفعول([10]) .

النوع الرابع : 

    اختلاف اللفظين في ترتيب الألفاظ أو الحروف, ( ويسمى المعكوس, وذلك ضربان, أحدهما: عكس الألفاظ, والآخر: عكس الحروف, فالأول قول بعضهم: عادات السادات سادات العادات, وقول الآخر: شيم الأحرار أحرار الشيم)([11]), وقوله تعالى] يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ[([12]), وأما الضرب الثاني من هذا النوع ـــ وهو عكس الحروف ـــ  مثل قوله تعالى]وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ[([13]) .

النوع الخامس:

    وهو (ما يساوي وزنه تركيبه غير أن حروفه تتقدم وتتأخر وذلك كقول أبي تمام :  بيضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُودُ الصَّحَائِفِ فِي ... مُتُونِهِنَّ جِلاَءُ الشَّكِّ وَالرِّيَبِ   فالصفائح والصحائف مما تقدمت حروفه وتأخرت)([14]) .
     
     وهناك نوع من التجنيس لا يمكن ملاحظته إلاّ بشيء من التأمل وإعمال النظر, فلو وقفنا عند بعض الآيات القرآنية للحظنا التجانس الصوتي في حروفها, ومن أمثلة ذلك ما قاله إخوة يوسف(ع) لأبيهم{ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ }([15]) حيث نلحظ ان حرفي التاء والكاف هما العنصران المهيمنان على نسيج الآية لتبدو بهذا الشكل المتجانس، وفي سورة البقرة قوله تعالى ] كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ.. [([16]) فقد جاء تكرار التاء والباء بشكل ملفت أكسب الآية لغة جمالية رائعة .

     وقد تنبه علماء البلاغة منذ القدم الى أن السورة التي تستهل بالحروف المقطعة المفردة تبنى على ذلك الحرف, فالكلمات القافية مثلا ترددت في سورة (ق) كثيرا, كما نرى في الآيات التالية:] ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ[([17]) ]قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ[([18]) والكلمات الصادية ترددت في سورة ص كثيرا, على النسق ذاته.. وهكذا([19]) , مما يضفي على السورة إيقاعا خاصا منظّما ومؤثرا يحرك الوجدان ويهزّ المشاعر .

     وفي استهلال سورة(القمر){ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ}([20]) نلحظ حرف السين يتجانس مع دلالة السورة بنحو عام، ويكثر في كلماتها، فلنتأمل قوله تعالى{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}([21]) فلنتمعن في الآيات الأخرى للسورة بنظرة فاحصة ــــ بالرجوع الى القرآن ــــ كي نرى كيف تدخّل حرف السين بهذا الشكل المتجانس بين عبارات النص القرآني .

     ومن الجدير بالذكر ان سورة القمر تزخر بالأقاصيص ذات الجرس القوي الذي يقرع القلوب بإيقاعه ودويه، فقد جاءت أقاصيص قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون تصف ما لحقهم من عقاب الدنيا من إبادة بشتى صنوف العذاب, فضلا عن العقاب يوم القيامة، ولا شك ان لإيقاعها الشديد تأثير كبير في النفس يوصل العبرة ويحقق الفائدة ويؤدي الى الاعتبار.




     ومن ذلك أقصوصة قوم عاد{ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }([22]) حيث جاء وصف عذاب الأقوام المكذبة في الدنيا, ثم ذكر عذاب الآخرة بأنه أدهى وأمرّ{ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ  يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}([23]).

ثالثــــا: الفاصلــة    

    لا شك في أن التناسق في النص القرآني قد بلغ الدرجة القصوى في إظهار الجمال الفني, وأحد ملامح هذا التناسق هو الإيقاع الموسيقي, وهو ناتج عن ملائمة اللفظ مع النسق الخاص الذي ورد فيه, ويتنوع بتنوع الفواصل, القصير منها والطويل, المتماثل منها والمختلف .

    والفاصلة القرآنية (عنصر أساسي من عناصر اللغة الإيقاعية, والقرآن الكريم يمتاز بحسن الإيقاع، فتأتي الفاصلة في ختام الآيات حاملة تمام المعنى, وتمام التوافق الصوتي في آن واحد)([24]), والمقصود بالفاصلة في القرآن: ما تنتهي به الآية الكريمة, وهي جزء من الآية وعنصر تعبيري متميز( وتنطوي على دلالتين هامتين, الأولى: دلالة صوتية تتمثل في الإيقاع والرنين الصوتي المحكوم بنسق الآية والسياق العام, والأخرى: دلالة معنوية تحمل تمام الفكرة في الآية)([25]) .

       والفاصلة ليست قيدا صوتيا أو معنويا أو عيالا على المعنى, بخلاف ما نلمح ذلك غالبا في الشعر والنثر, حيث يكون التكلف واضحا على حساب المعنى وجمال التركيب, ولاسيما لدى الكتّاب الذين يغرمون بالمحسنات اللفظية التي تصرفهم عن جمال المعنى وتبعدهم عن التناسق في التركيب.
 

أنماط الفاصلة :

      من أنماط الفاصلة في القرآن الكريم([26]):
(1)             ما اختلفت فاصلتاه في الوزن واتفقتا في الحرف الأخير, مثل قوله تعالى: ]مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً , وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً[([27]), ويسمى هذا النمط "المطرّف" .

(2)             ما اتفقت فاصلتاه في الوزن والتقفية معا, كقوله تعالى ]فِي سِدْر مَّخْضُودٍ ,  وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ,  وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ[([28]), وهذا النمط يسمى "المرصع" .

(3)             ما كان الاتفاق فيه في الكلمتين الأخيرتين فقط, ويسمى "المتوازي" ، نحو قوله تعالى] فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ , وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ[([29]) لاختلاف "سرر" و "أكواب" وزنا وتقفية, واتفاق "مرفوعة" و "موضوعة" وزنا وتقفية .

    وغالبا ما تتوحد الفواصل في السور القصار, مثل سورة (الكوثر) وسورة (الفيل) وسورة (الشمس)، إلا ان هذا الأمر لا ينحصر تحققه في قصار السور ، فإن سورة (القمر) البالغ عدد آياتها خمسا وخمسين، جميعها منتهية بفاصلة متحدة التقفية في حرف الراء, وفي المقابل نجد بعض السور القصار متنوعة الفواصل, منها سورة (قريش) وسورة (الانشراح) وسورة (النصر) .

 للرجوع الى الجزء الأول... اضغط هنا

الدكتورة نهضة الشريفي  
 
الهوامش :




([1]) المثل السائر : 247
([2]) سورة النمل : 22
([3]) سورة الأنعام : 26
([4]) سورة الكهف : 104
([5]) ظ جواهر البلاغة : 247
([6]) المثل السائر : 250
([7]) سورة القيامة : 29ـ 30
([8]) ظ البلاغة والتطبيق : 435
([9]) سورة الصافات : 72ـ 73
([10]) ظ البلاغة والتطبيق : 434
([11]) المثل السائر :254
([12]) سورة الروم : 19
([13]) سورة المدثر : 3
([14]) المثل السائر : 257
([15]) سورة  يوسف  : 85
([16]) سورة البقرة : 261
([17]) سورة ق : 1ـ 2
([18]) سورة ق : 4ـ 7
([19]) ظ البرهان في علوم القرآن ، الزركشي : 1/ 169
([20]) سورة القمر : 1
([21]) سورة القمر : 47ـ 48
([22]) سورة القمر : 18ـ 22
([23]) سورة القمر : 46ـ 48
([24]) من جماليات التصوير في القرآن الكريم ،  محمد قطب عبد العال : 233
([25]) م . ن : 234
([26]) ظ جواهر البلاغة : 250ـ 251
([27]) سورة نوح : 13ـ 14
([28]) سورة الواقعة : 28ـ 30
([29]) سورة الغاشية : 13ـ 14

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات