أنواع البناء القصصي في القرآن الكريم
الجزء الأول
للبناء القصصي في القرآن الكريم أنواع متعددة
يمكننا ملاحظتها من خلال زوايا متنوعة، منها:
أولا : التنوع في ترتيب الأحداث
قد يأتي بناء القصة القرآنية على وفق النمط
المتعارف لترتيب الأحداث، أي من بدايتها وحتى نهايتها, وقد تبدأ من نهاية الأحداث,
وقد تستهل باستهلال وسطي, ويأتي هذا التنوع بما ينسجم وسياق السورة ككل.
ومن ذلك
قصة طالوت التي وردت في سورة البقرة, فقد تحدثت عن جماعة من بني إسرائيل تقدموا
ذات يوم بطلب إلى أحد أنبيائهم بأن يعيّن لهم شخصية عسكرية ينضوون تحت لوائها
لتخليصهم من الذل الذي لحقهم من تشريد وسبي, حيث بدأت القصة من وسط الأحداث لا من
بدايتها التي يقتضيها التسلسل الموضوعي :
] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي
إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا
مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ[ فلم
يتبين أول الأمر الدافع الذي جعلهم يطالبون بالقتال, ثم ارتدت القصة الى أول
الحادثة ]قَالَ هَلْ
عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا
لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا
وَأَبْنَآئِنَا [ .
إذن فقد اتضح من خلال هذا الحوار القصير,
السبب الذي دفع بني إسرائيل الى مثل هكذا طلب, بعد ذلك جاءت النهاية القصصية بهذا
التعبير]فلَمَّا
كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ
عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ[([1]), لتبين خبثهم ونقضهم العهود .
إن قولهم لنبيهم بأن يبعث لهم قائدا
يقاتلون تحت إمرته (يدل على أن المَلك المسمى بجالوت كان قد تملّكهم، وسار فيهم
بما افتقدوا به جميع شؤون حياتهم المستقلة من الديار والأولاد بعد ما كان الله
أنجاهم من آل فرعون يسومونهم سوء العذاب, ببعثة موسى(ع)... وبلغ من اشتداد الأمر عليهم ما انتبه به
الخامد من قواهم الباطنة، وعاد إلى أنفسهم العصبية الزائلة المضعفة فعند ذلك سأل
الملأ منهم نبيهم أن يبعث لهم ملكا ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم وتجتمع به
قواهم المتفرقة الساقطة عن التأثير، ويقاتلوا تحت أمره في سبيل الله)([2])
.
فأجابهم نبيهم: ( لعلكم إن فُرض عليكم القتال... أن لا تفوا
بما تقولون وتجبنوا فلا تقاتلوا, وإنما سألهم عن ذلك ليعرف ما عندهم من الحرص على
القتال وهذا كأخذ العهد, عليهم فعله... قال الملأ: وأي شيء لنا في ترك القتال وقد
أُخرجنا من أوطاننا وأهالينا بالسبي والقهر على نواحينا)([3]) ولكنهم ما إن
كُتب عليهم القتال حتى تولوا وتمردوا وضيعوا أمر الله, إلا قليلا منهم, وهم الصفوة
الذين عبروا النهر مع طالوت , وهم الفئة القليلة التي غلبت الفئة الكثيرة بإذن
الله .
وأول ما نلحظه في تصرف بني إسرائيل هو: ان
طلبهم القتال لم يكن خالصا لوجه الله تعالى بل من أجل أنفسهم وإخراجهم من أرضهم(
فخلطوا بذلك ما لله بما لغيره وهو أغنى الشركاء لا يقبل إلا خالصاً, فأنبأ سبحانه
وتعالى أنهم أسندوا ذلك إلى غضب الأنفس على الإخراج وإنما يقاتل في سبيل الله من
قاتل لتكون كلمة الله هي العليا)([4]).
وإن صيغة طلبهم لا تنم عن تأدّب واعتراف
بنعم الله فلم يقولوا: اسأل الله أن يبعث لنا ملكا, لذا( قال لهم نبيهم إن الله قد
بعث لكم طالوت ملكا, حيث نسب بعث المُلك إلى الله تنبيه بما فات منهم إذ قالوا
لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل, ولم يقولوا: اسأل الله أن يبعث لنا ملكا ويكتب لنا
القتال)([5]).
ثم إنهم بتقهقرهم عن ميدان الحرب قد كشفوا
عن مدى جبنهم وحرصهم على الحياة (فعصوا الله الذي أوجبه عليهم، فجمعوا بين عار
الإخلاف وفضيحة العصيان وخزي النكوص عن الأقران وقباحة الخذلان للإخوان)([6]), ولعل عرض مواقف الإسرائيليين في هذه
السورة هو الذي جعل بناء القصة بهذا النمط الوسطي؛ وذلك للفت النظر إلى نقضهم عهود
الله على مر التاريخ .
ثانيا : الاختزال والإيجاز وانتقاء الأحداث
إن قصة بني إسرائيل التي ذكرناها لم تحدد لنا
زمان واقعة طالوت, وإنما اكتفت بإشارة موجزة إلى أنها حدثت في زمان من بعد موسى(ع)
] أَلَمْ تَرَ
إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى..[؛ لأنها
أساسا تستهدف تسليط الضوء على دلالة معينة وهي:
ان الشخصية الإسرائيلية تظل في كل زمان ومكان
ـ مريضة ، كاذبة ، جبانة ، مترددة, ولطالما أفصح القرآن عن هويتهم في آيات عديدة,
فهم( هلعون, شاكّون في نصر الله لهم, مترددون في إيمانهم, يعبدون الله تارة,
ويطلبون غيره أخرى, قلة عقلهم ظاهرة, وجهلهم بيّن, وإضلالهم من أسهل الأشياء)([7]).
نلحظ في قصة طالوت اختزال للعبارات وإيجاز
وحذف وانتقاء يمكن استنتاجه من خلال العبارة الخبرية التي فرضت القتال, حيث قال
المفسرون (أما قوله: ]فلَمَّا
كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ ..[ فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره : فسأل
الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا)([8]),
فقد نقلتنا الحوادث مباشرة إلى ساحة الحرب ، وجعلتنا نتحسس أجواء المعركة
وضجيج الجنود, وذلك بانتقاء فنّي للمواقف والأحداث,
وباختزال أضاف جمالا على القصة , وتركيزا على الهدف منها .
وللإيجاز أهمية بالغة في بلورة المعنى
وإظهار الجمال الفني للنص, وهو يعطي معنى(القصر والحذف...فالقصر تقليل الألفاظ،
وتكثير المعاني، وقال أصحاب الإيجاز: الإيجاز قصور البلاغة على الحقيقة، وما تجاوز
مقدار الحاجة فهو فضلٌ داخل في باب الهذر والخطل، وهما من أعظم أدواء الكلام،
وفيهما دلالة على بلادة صاحب الصناعة, قيل: وما الإيجاز؟ قال: حذف الفضول، وتقريب
البعيد)([9]).
ونمثل للإيجاز وجمال الألفاظ وتناسقها من
خلال بعض المواقف القصصية في القرآن الكريم (حيث قوله تعالى: ] فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً[([10])وقد تحيّر في
فصاحته جميع البلغاء، ولا يجوز أن يوجد مثله في كلام البشر. وقوله تعالى: ]وَلَقَدْ
رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ[([11]) وقوله
تعالى: ]وَقِيلَ يَا
أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي[([12]) وهذه الآية
تتضمّن مع الإيجاز والفصاحة دلائل القدرة)([13]).
ونمثل لذلك أيضا بعرض قصصي لأحد مشاهد آدم(ع), حيث يبدأ بمشهد
استباق إعلاني لما سيكون من خلق آدم من طين, ومن ثم طلب الله الى الملائكة أن
يسجدوا له]إِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ[([14])،
يلي ذلك حذف زمني لمدة إنجاز الخلق يؤدي دورا مهما في إضاءة جانب من جوانب صفات
الملائكة وهي الطاعة والتسليم دون إبطاء, ويلي ذلك إيجاز لأحداث سجود الملائكة
واستكبار إبليس ]فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ[([15]) ([16])
.
وهكذا يتضح أن هذان النوعان هما من مختصات
القصص القرآني، وإن كان القصص البشري لا يخلو من ذلك، لاسيما في القصص الحديثة، إلا
أن الطابع العام مختلف عما هو في القصص القرآني .
وثمة نوعين آخرين من أنواع البناء القصصي في القرآن
الكريم سنقف عندهما في الجزء الثاني من البحث.
الدكتورة
نهضة الشريفي
الهوامش
تعليقات
إرسال تعليق