القائمة الرئيسية

الصفحات

أنواع البناء القصصي في القرآن الكريم - الجزء الثاني



أنواع البناء القصصي في القرآن الكريم - الجزء الثاني



أنواع البناء القصصي في القرآن الكريم 

الجزء الثاني


    ذكرنا في الجزء الأول من البحث نوعين مهمين من أنواع البناء القصصي في القرآن الكريم، الأول منهما هو: التنوع في ترتيب الأحداث، أما الآخر فهو: الاختزال والإيجاز وانتقاء الأحداث، وفي هذا الجزء سوف نقف عند نوعين آخرين لا يقلّان أهمية عن الأوليين، وهما:

أولا : عناصر التشويق  

    المقصود بالتشويق هو شدّ القارئ إلى متابعة أحداث القصة, والتلهّف لمعرفة ماذا سيحدث, ومن عناصر التشويق: المباغتة, وهي مواجهة القارئ بموقف أو حدث مفاجئ .  ومن المواقف التي تتجلى فيها المباغتة بشكل واضح قصة إبراهيم(ع) وما ترتب على تحطيمه الأصنام :

      روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال(( خالف إبراهيم(ع) قومه وعادى آلهتهم حتى أدخل على نمرود فخاصمه...وكان في عيد لهم دخل على آلهتهم, قالوا ما اجترأ عليها إلا الفتى الذي يعيبها ويبرأ منها فلم يجدوا له مُثلةً أعظم من النار, فأخبروا نمرود, فجمع له الحطب وأوقد عليه, ثم وضعه في المنجنيق ليرمى به في النار))([1]) .

      لقد بلغت شجاعة إبراهيم(ع) الذروة, وأدهش الجميع ــــ بما فيهم القارئ ــــ حين باغتهم بوقوفه لوحده قبالة الآلاف من قومه الكافرين في واقعة تحطيمه للأصنام، وإبقاء كبيرها, بغية كشف السذاجة والغفلة التي تطبع عقولهم]فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ[([2])، فكان نوع العقاب غير المتوقع الذي ناله من جرّاء ذلك ـــ وهو الإحراق ـــ مبالغا فيه, حيث انهم كانوا يتخيلون أن إحراق إبراهيم(ع) في النار يضع حدا لأي تصرف حيال أوثانهم]قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ[([3]) .

      أما المباغتة الكبرى التي لم يُحسب لها حساب البتة, ولم تخطر على خاطر أحد, حتى في ذهن الطاغية نمرود نفسه, فهي النهاية القصصية والحادثة المذهلة التي ختم النص بها قصة إبراهيم(ع) ]قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ[([4]) فقد روي عن أبي عبد الله(ع) عن النبي(ص):

    ((ان جبرائيل(ع) قال: لما أخذ نمرود إبراهيم(ع) ليلقيه في النار, قلت: يا رب, عبدك وخليلك ليس في أرضك أحد يعبدك غيره, قال تعالى: هو عبدي آخذه إذا شئت, ولما ألقي إبراهيم(ع) في النار, تلقاه جبرائيل(ع) في الهواء وهو يهوي إلى النار, فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا, وقال: يا الله يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد, نجني من النار برحمتك, فأوحى الله الى النار :]كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ[ ))([5]) وقيل أنه قال: ((علمه بحالي يغنيه عن سؤالي)) .

      ومن عناصر التشويق أيضا: المماطلـــة في الأحداث القصصية, بمعنى الاحتفاظ بسر لا يكشف إلا بعد حين, أو لا يكشف أصلا، ومن نماذجه الغموض الذي اكتنف عدد أصحاب الكهف، وظل محجوبا ولم يكشف لنا لحكمة يعلمها وحده تعالى]سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً[([6]).

    على إن المماطلة تنتهي في الغالب بكشف الغوامض ورفع الحجب عن المستور، كقصة موسى(ع) مع العبد الصالح في قضية خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، حيث كشف السر في ختام القصة]قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً  [([7]) .




ثانيا: البنية الزمنية في السرد القصصي

     يعدّ الزمن بُعداً دلالياً له أهمية كبيرة في بلورة جمالية القصة وإظهار دلالاتها ، وتكتنفه دوما حالة خضوع لتغيرات دائبة غير منقطعة تتميز بأبعاد لا يمكن وصفها إلا من خلال تعريف مفهوم الزمن بأنه:( البعد الدال على تغير الوقت )([8]) .

      وقد ذهب المفكرون من المتقدمين مذاهب متعددة في تصورهم للزمان, منها([9]) :

·       من ينكر وجود الزمان ويعدّه وهميا أو من عملِ الذهن فقط, وذهب بعض هؤلاء إلى انه عرَض للحركة وللمتحركات, ولكنه من صنعِ النفس, ولا وجود له من دون الأجسام والحركات من جهة, ولا وجود له من دون النفس التي تتوهمه من جهة أخرى.
 
·       من يعترف بوجود الزمان الموضوعي, وهؤلاء منقسمون على فئات ثلاث:

أـــ  فئة تقول إن الزمان جوهر, سواء أفُهم أنه: واجب الوجود بذاته, أم: بمعنى القديم مع قدماء آخرين, أو: بمعنى انه المدة المطلقة لما هو ليس زمانيا, أو فُهم  بمعنى أنه: مدة وجود الشئ .

ب ـــ وفئة تقول أيضا إن الزمان جوهر, ولكن اعتقادها ينصبّ في إنه يمثل حياة النفس الكلية .

ج ـــ أما الفئة الأخيرة فتتبنى فكرة أن الزمان عَرَض, وهو مقدار الحركة بحسب المتقدم والمتأخر .

      ويمكن ربط المفهوم الحديث بالمفهوم الإسلامي لفكرة الزمن, بأنه: (تلك المداولة الإلهية للساعات والثواني والدقائق واللحظات التي تتحكم بحركة الإنسان على الأرض من خلال تقرير إلهي لليل والنهار المرتبطين بالشمس والقمر في دورانهما حيث دارا)([10]) .

      ونستطيع أن نطلق الزمان على( تلك الحركة المأخوذة بسرعة وبُطئ معينين وقد اتخذت مقياساً لسائر الحركات. فالزمان إذن لا يمكن أن يكون بدون حركة، والحركة لا يمكن أن تتحقق بدون مادة...)([11]).

     أما الزمن السردي فيعني( العلاقات القائمة بين زمن المدلول وزمن الدال, بين زمن القصة التي وقعت بالفعل, وزمن السرد الذي يعيد صياغتها, لا كما وقعت وإنما كما يريد السارد, تركيزا على أحداث, وتركا لأحداث...فإن زمن السرد لا يخضع للتتابع المنطقي للأحداث وفقا لتسلسلها الزمني)([12]).

    ويتّحد الزمن القصصي بالزمن السردي ويلتحم معه في المشهد الحواري بالخصوص؛ لأنه يهيمن في الغالب على السرد القصصي القرآني, (فيصير حاضر السرد هو حاضر الأحداث, فيتحول المتلقي الى مشاهد يعاين الوقائع بنفسه, ينفعل بها, ويتفاعل معها كأنه واحد من شخصيات المشهد)([13]) .
   
     أما طريقة طيّ الزمان في القصة, فالمقصود بها اختصار أحداث جرت في عدة أيام, أو شهور, أو سنوات, وسردها في بضع كلمات أو فقرات، وهي متحققة في قصص متعددة في القرآن الكريم.

   ومن أصدق مصاديقها قصة أصحاب الكهف, حيث افتقدوا الإحساس بالزمن تماما مما يدعو الى الدهشة والتعجب]وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ..[([14])وقد أعلمنا الله تعالى في قرآنه أنهم أطالوا اللبث في الكهف]وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً [([15]) لنعتبر ولنزداد يقينا بقدرته تعالى على إحياءنا من جديد وبعثنا كرّة أخرى. 

      ومن النماذج الملفتة للنظر والمثيرة للعجب, المجسدة لطيّ الزمان, قضية عرش بلقيس في قصة سليمان(ع) حيث تم طيّه بقدرة الله تعالى وجيء بعرشها قبل ارتداد الطرف] قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ[([16])  .
 
     ولابد من التأكيد على( ان معيار ترتيب أحداث القصص القرآني ليس التوالي الزمنيّ للأحداث في الواقع, بل السياق والغرض العام من البيان هو الذي يقضي بتقديم الإنباء بحدث مقدما على الإنباء بحدث قد سبقه في الوقوع )([17]), فالسياق الخاص بكل قصّة وبكل جانب ومشهد من جوانبها, مهمته تحديد مواقع المشاهد والأحداث, وأن تكون هذه القصة هنا, وأن يكون هذا الجانب منها ، وأن يكون نظمها على هذا النحو .


الدكتورة نهضة الشريفي


الهوامش:


([1]) قصص الأنبياء ، القطب الراوندي : 1/ 294
([2]) سورة الأنبياء : 58
([3]) سورة الأنبياء : 68
([4]) سورة الأنبياء : 69
([5]) قصص الأنبياء , القطب الراوندي : 1/ 295
([6]) سورة الكهف : 22
([7]) سورة الكهف : 78
([8]) موجز تاريخ الزمن ، هربرت ريج :  47
([9]) ظ  الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم , د. حسام الآلوسي : 65 ـ 66
([10]) الزمن في الفكر الحديث ، ديفيد راي : 120 
([11]) أسس الفلسفة ، مرتضى مطهري : 1/ 117
([12]) بلاغة السرد القصصي في القرآن الكريم , محمد مشرف خضر : 91
([13]) م . ن : 137
([14]) سورة الكهف : 19
([15]) سورة الكهف : 25
([16]) سورة النمل : 40
([17]) الإمام البقاعي ومنهاجه في تأويل بلاغة القرآن , محمود توفيق محمد سعد : 258

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات