التاريخية بعيون غربية
هذه إطلالة سريعة على التاريخية بعيون
غربية ، نتبين من خلالها ما يقوله علماء
التاريخ في الغرب ونبحث في متبنياتهم ونظرياتهم.
التاريخية والمنهج الاستردادي:
يتعامل الغرب
مع التاريخية بطريقة مغايرة للنظرة الإسلامية, فهي – من وجهة نظرهم - علم لا يعول
فيه على صحة الخبر أو سنده بصورة رئيسة, وإنما على مضمون الخبر وما فيه من
معلومات, (وتلعب المقارنة والتحليل والاسترداد دورا أساسيا في قبول الخبر أو رفضه
دون تعويل على صحة الخبر من الناحية الوثائقية, ولذلك يسمى هذا المنهج بالمنهج الاستردادي*...وتكون مواهب الباحث وإمكانياته وعمق ملاحظته وسعة
خياله...ذات أثر أساسي في تمحيص المعلومات التاريخية)([1]) .
وهذا ملاحَظ
من كلام بعض علماء التاريخ في الغرب, إذ يكشف عن انعدام الثقة بمجريات التاريخ,
وتسطيح الأحداث المسجلة من قبل المؤرخين, وتشتيتها, والنظر اليها نظرة دونية,
فقيل: (ليس أسوأ من تلك الظروف التي يعاني منها علم التاريخ, فملاحظاته ليست أبدا
مباشرة بل هو يبحث في أحداث ماضية, وليست هذه الأحداث أبدا كاملة, وإنما هي دائما
جزئية ومشتتة ومخزونة عرضا واتفاقا, بل هي من فضلات الماضي)([2])
.
وربما يتعذر
تدوين سطرين متواليين من السرد التاريخي للمؤرخ من دون إسباغ شخصيات وهمية خيالية
على الأشياء, وإضفاء (عنصر الدراما على الشخصيات التاريخية بتأليف خطب ومحاورات
مختلفة على لسانهم)([3]),
وكل حضارة تكتب تاريخها بما يوافق عاداتها ونمط معيشتها , فـ (التاريخ طريق يرصفها
الشيطان بالقيم المنتهكة , اننا نعدّ التاريخ مثلما نعد اللحم في الطبخ, فكل أمة
تعده بطريقتها الخاصة)([4]) .
إن التاريخ
في نظرهم أكذوبة كبرى , إذ يستنجد بالمصنفات الخيالية, فتختلط مع تسجيله الحقائق,
وهو كالدراما ناشئ عن الأسطورة, لا يتميز فيها الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال
والخرافة , وما اصطفاء الحقائق وتصنيفها وعرضها إلا عملية فنية تدخل ضمن دائرة
الخيال([5])
.
التاريخ والميتافيزيقيا:
ان علّة هذه
النظرة المبعثرة القاتمة لمسألة تدوين التاريخ, والتي لوّنت دراسات الغرب وبحوثهم
حول العالم الإسلامي- من مستشرقين وغيرهم- ناشئة عن افتقادهم العنصر الميتافيزيقي
, لاسيما بعد إغراقهم في الماديات والمحسوسات؛ لذا أضحت إدراكاتهم لروح التاريخ
ناقصة, وهي (أول ظاهرة تتسم بها البحوث الغربية عن الموضوعات الاسلامية, ذلك ان
هناك عنصرا ينقص الطبيعة الغربية...لإدراك الحياة الشرقية بصفة عامة والحياة
الإسلامية على وجه الخصوص, عنصر الروحية الغيبية، وبخاصة في العصور الحديثة بعد
غلبة النظريات المادية)([6],
فحركة التاريخ وآليته إنما تعود في حقيقتها الى (مجموع من العوامل النفسية الذي
يعد ناتجا عن بعض القوى الروحية, وهذه القوى الروحية هي التي تجعل من النفس المحرك
الجوهري للتاريخ الإنساني)([7])
.
بيد ان الأمر
لا يخلو من اهتمام بعض علماء التاريخ في الغرب بهذه القوة الغيبية والبعد الروحي,
إذ نلمس ذلك في فكر المؤرخ "ارنولد توينبي", الذي يرى ان (للأحداث
التاريخية جانبين: مادي وروحاني, وهنا يفترق عن غيره من المؤرخين الذين إما
يقتصرون على سرد الأحداث التاريخية دون استقصاء دوافعها, وإما يفسرونها تفسيرا
ماديا مثلما يفعل فلاسفة الاشتراكية الذين ابتكروا فلسفة التفسير المادي للتاريخ)([8])
.
فلاسفة ومؤرخون غربيون:
نستعرض بصورة
موجزة جملة من المؤرخين والفلاسفة الغربيين؛ لنقف على فلسفتهم ونظريتهم في هذا
البعد الموغل في القِدم "التاريخ":
فولتير:
إن فلسفة
التاريخ عند فولتير** - الذي يعدّ أشد خصوم التصور اللاهوتي - لم تكن إلا محاولة لتأويل علمي
للتاريخ , إذ لم يكن يشغل نفسه إلا بالعلل التاريخية , لكن وجهة النظر الفولتيرية
هذه كانت في الوقت نفسه مثالية , بمعنى ان فولتير , كسائر فلاسفة القرن الثامن
عشر, الماديين في تصورهم للتاريخ , كان يفسر السيرورة التاريخية ويقايسها بمقياس
تطور الأفكار([9])
.
بيكون:
أما
"بيكون"*** فيعتقد ان
التاريخ هو (العلم بالأمور الجزئية لا بالأمور العامة, والقوة النفسية اللازمة له
هي الذاكرة, وهو ضد الشعر؛ لأن موضوع الشعر وهمي وموضوع التاريخ واقعي, وضد
الفلسفة؛ لأن موضوع الفلسفة كلّي وموضوع التاريخ جزئي)([10]) .
غادامير:
التاريخ حسب
رؤية غادامير**** (ليس وجودا مستقلا في الماضي عن وعينا الراهن وأفق
تجربتنا الحاضرة, ومن جانب آخر فإن حاضرنا الراهن ليس معزولا عن تأثير التقاليد
التي انتقلت إلينا عبر التاريخ...ولا يستطيع الإنسان تجاوز أفقه الراهن في فهم
الظاهرة التاريخية...إن الإنسان يعيش في إطار التاريخية, وهذه التاريخية هي المحيط
غير الظاهر الذي يعيش فيه)([11])
.
بوبر:
بعد مضي أكثر
من قرنين من الزمن عاد التيار الانتقائي للأحداث التاريخية من جديد, متمثلا في فكر
بوبر***** , إذ كان يرى ان العلوم التاريخية لا تعول كثيرا على
القوانين الكلية التي كانت تمارسها العلوم الطبيعية بدقة وجدية , ومن هنا لابد ان
يكون للتاريخ وجهة نظر انتقائية في اختيار وقائعه وإلا خنقه سيل الوقائع التي لا
ترابط بينها, (ولا جدوى من محاولة تعقب العلل في الماضي البعيد؛ لأن وراء كل معلول
عيني واحد نبدأ منه, عددا هائلا من العلل الجزئية المختلفة...ولا مخرج من هذه
الصعوبة, في رأيي, إلا بأن نقصد في كتابتنا التاريخ الى اتخاذ وجهة نظر انتقائية)([12])
.
توينبي:
التاريخ على
هذا يكون معنيا ببعض الحقائق للحياة الإنسانية, وهو فن ممتزج الى حد كبير بالخيال
بحسب وجهة نظر توينبي****** - الذي تبنى هو الآخر فكرة الانتقائية التاريخية - وساق
لنا مثالا لتأكيد فكرته عن الخيال, (فلقد قيل عن الإلياذة مثلا, ان أي إنسان يشرع
في قراءتها كتاريخ يجدها بنفس المقدار حافلة بالخيال, فإذا شرع في قراءتها كقصة
خيالية يجدها بنفس المقدار حافلة بالتاريخ, وتشبه التواريخ الإلياذة من هذا
القبيل, بمعنى أنها لا تستطيع الاستغناء عن عنصر الخيال استغناءً تاما)([13])
.
الدكتورة نهضة الشريفي
الهوامش:
* المنهج الاستردادي أو المنهج التاريخي وهو الذي نقوم فيه
باسترداد الماضي تبعا لما تركه من آثار, أيا كان نوع هذه الآثار, وهو المنهج
المستخدم في العلوم التاريخية والأخلاقية . المصدر: مناهج البحث العلمي , عبد
الرحمن بدوي , ط3 – 1977م – الكويت : 19
** فرانسوا ماري آروويه , وشهرته فولتير (1694– 1778م)
فيلسوف فرنسي كان واحداً من العديد من الشخصيات البارزة في عصر التنوير ومدافعاً
صريحاً عن الإصلاح الاجتماعي على الرغم من وجود قوانين الرقابة الصارمة والعقوبات
القاسية , عُرف بنقده الساخر، وذاع صيته بسبب سخريته الفلسفية الطريفة ودفاعه عن
الحريات المدنية خاصة حرية العقيدة والمساواة وكرامة الإنسان , كتب العديد من
المسرحيات والشعر والروايات والمقالات والأعمال التاريخية والعلمية . ينظر: معجم
الفلاسفة , جورج طرابيشي : 471
*** فرانسيس بيكون (1561- 1626م) فيلسوف إنكليزي قاد الثورة
العلمية عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على الملاحظة والتجريب, وهو مؤسس
التجريبية الحديثة والعلوم, ويعد من أوائل الذين دعوا إلى تحرير الفكر والتحلي
بالروح العلمية , فكان يسعى الى محو الأوهام وحذفها لصالح تفهم عقلاني للواقع .
المصدر: ظ معجم الفلاسفة , جورج طرابيشي: 228
**** هانز جورج غادامير فيلسوف ألماني(1900– 2002) عاش
الحربين العالميتين, تخصص في الفلسفة، حصل على شهادة الدكتوراه سنة 1922 في موضوع
جوهر المتعة في حوارات أفلاطون، وبعدها التحق بدروس هيدجر الذي أسهم في تشكُّل
فكره الفلسفي بشكل كبير ، اشتهر بعمله المميز الحقيقة والمنهج، وأيضاً بتجديده
النظرية التأويلية (الهيرمونيطيقيا) . ينظر: التلمذة الفلسفية سيرة ذاتية
لغادامير, ترجمة حسن ناظم، علي حاكم صالح, مؤسسة دار الكتاب الجديد, ط1- 2013 : 7
***** كارل ريموند كارل بوبر(1902- 1994م), فيلسوف نمساوي
متخصص في فلسفة العلوم, كتب بشكل موسع في الفلسفة الاجتماعية والسياسية, من أشهر
كتبه "بؤس التاريخانية" أو "بؤس الأيديولوجيا" الذي كرسه لنقض
فكرة الحتمية التاريخية التي نادى بها هيكل وماركس, مبرهنا على ان مستقبل الإنسان
بين يديه . المصدر : ظ معجم الفلاسفة , جورج طرابيشي : 194
****** ارنولد توينبي مؤرخ وفيلسوف تاريخي بريطاني (1889ـ 1975)
من أشهر مؤلفاته "دراسة في التاريخ" في اثني عشر جزءا بنى فيها فلسفته
في التاريخ انطلاقا من دراسته إحدى وعشرين حضارة, قال بدورية الحضارات وبتوالدها
بعضها من بعض, ولكنه لم يقل بحتمية انحطاطها, معارضا بذلك فلسفة التاريخ الماركسية.
المصدر: ظ معجم الفلاسفة , جورج طرابيشي : 246
تعليقات
إرسال تعليق