القائمة الرئيسية

الصفحات



التاريخية مفهوماً وفلسفةً


التاريخية مفهوماً وفلسفةً

    عند دراسة التاريخية والبحث في مفهومها وماهيتها وفلسفتها تنكشف للباحث أبعادا متعددة, تارة بلحاظ الفرد وأخرى بلحاظ المجتمع, فإذا ما تناولناها (بالقياس الى الفرد كان دراسة نفسية, إذ يكون دراسة للإنسان بوصفه عاملا نفسيا زمنيا في بناء حضارة, ولكن هذه الحضارة تعد مظهرا من مظاهر الحياة والفكر الجماعي, ومن هذا الجانب يعد التاريخ دراسة اجتماعية, إذ يكون دراسة شرائط نمو مجتمع معين يخضع لخصائصه الأخلاقية والجمالية والصناعية)([1]) المنغرسة في عمق تلك الحضارة .

    إن تاريخية أي مجتمع هي تاريخ شبكة من العلاقات والنظم للأفعال التي تصدر من  الفرد , ومن هنا و(لكي يمكن بناء نظام تربوي اجتماعي ينبغي ان تكون لدينا أفكار جد واضحة, عن العلاقات والانعكاسات التي تنظم استخدام الطاقة الحيوية, في مستوى الفرد, وفي مستوى المجتمع)([2]) .

التاريخ في اللغة:

    مفهوم التاريخ في المعجم اللغوي هو (تعريف الوقت, والتوريخ مثله, أرّخ الكتاب ليوم كذا: وقّته, والواو فيه لغة)([3]) , وقيل ان الواو جاءت بدلا عن الهمزة في لفظ أرّخ: (ورّخ الكتاب بيوم كذا: لغة في أرّخه)([4]) .

التاريخ في المعاجم الفلسفية:

    أما في المعاجم الفلسفية, فنجد ان التاريخ في فكر أرسطو كان يشير الى (مجموع الأحداث المدونة في وثائق دون تعليل ولا تنظيم)([5]) .

    بيد ان طبيعة العقل في كل المجالات - لا سيما في المجال التاريخي - طبيعة نقدية تُخضع كل التقاليد الاجتماعية والدينية للفحص والتمحيص الدقيق , ويعزى تفعيل هذا العقل النقدي الى فلسفة التنوير , فإن الطبيعة التاريخية للعقل تفترض أحكاما احتمالية في المجال التاريخي([6]).

    ومعنى الاحتمالية التاريخية للأحداث , هي الاستناد الى (قدرة الناقد التاريخي على الكشف عن المماثلة بين أحداث الحاضر وأحداث الماضي , لأن المماثلة تسمح للمؤرخ بتفسير ما هو مجهول في الماضي بما هو معروف في الحاضر, وبذلك يتلاشى ما هو غير مماثل...بحيث ترتبط الأحداث بعضها ببعض , ومن ثم تكون لدينا هوية بين التاريخي والنسبي شريطة عدم تجاهل الجدة والدينامية والحرية التي يتسم بها المسار التاريخي)([7]) .

المنهجية الانتقائية للأحداث التاريخية:

    إن الظواهر التاريخية أو الوثائق التاريخية لا تقدم حوادثها بأعيانها ومضامينها الواقعية ( فإن المحققين في علم التاريخ يؤكدون على أن التاريخ أو علم التاريخ لا يضع بأيدينا عين ما وقع في طياته, بل على شكل نظريات وأفكار مبتنية على سلسلة من الظواهر والقضايا الرمزية لا أكثر, فالقضايا التاريخية عبارة عن رموز لما وقع في التاريخ لا أنها تعكس ذات الواقعة التاريخية)([8]) .
  
    وثمة قول جرى عليه اتفاق كثير من المؤرخين قديما مفاده (ان التاريخ المذكور هو مجموع العوارض والطوارق التي كانت تستحق ان تحفظ , وما لم يُذكر فلسبب عدم أهميته أو...لأنه لم تكن له نتائج ظاهرة)([9]) , وهذا يعني أن الحوادث التفصيلية لم تسجّل بغثّها وسمينها, وإنما كان يكتنفها الانتقاء , فالتاريخ (لا يشغل نفسه مثلا بتسجيل جميع حقائق الحياة البشرية, إذ يدع جانبا حقائق الحياة الاجتماعية في المجتمعات البدائية, وهي الحقائق التي يستخلص منها علم الأنثروبولوجي قوانينه , ويعهد الى علم السيرة بتسجيل وقائع حياة الأفراد)([10]) .
   
    إلا ان هذه المنهجية الانتقائية للأحداث التاريخية لم تدم ولم تصمد بعد النقد الذي وجّه سهامه صوب الثورة الفرنسية (1789- 1799م) , والانتفاضة التي أشعل فتيلها بوجه عقلانية "روسو"* المغالية , وفلسفة "فولتير"** المتطرفة , في انصباب اهتمامهما فقط بالتركيز على الأحداث التي تمثل إنسانية البشر وعقلانيتهم , وإهمال كل ما يمثل حماقاتهم وجهالاتهم , وعندئذ قامت على انقاض ذلك الثورة التاريخانية التي تمحورت حول التنكر لهذا المنظور الانتقائي للتاريخ, فلا يصح أن تُلغى من سجل الماضي أحداثا بزعم انها سخيفة أو همجية([11]) .

كلمة "تاريخ" عربية:

    توصل العروي الى أن تأليف التاريخ الإسلامي هو من إبداع العرب خاصة, وقد فشلت كل المحاولات للعثور على مؤثرات أجنبية يونانية أو فارسية, على غرار ما كُشف من مؤثرات خارجية في علم الكلام والفلسفة, فـ(ليس التاريخ الإسلامي نقلا أو اقتباسا أو استعارة من الغير, إن كلمة "تاريخ" كلمة عربية, والكلمة الأجنبية "أسطوريا"...استعملت فعلا لكن في معنى آخر للتعبير عن القصص الخيالية الميثولوجية التي لا تخضع لقوانين المراقبة والفحص والتحقيق كحوادث التاريخ القريبة أو البعيدة)([12]).

   لذا يحق للعرب أن يفخروا بكونهم وحدهم شعب تاريخ فامتازوا بذلك عن الشعوب الأخرى التي تمتلك فقط حكايات لم يجد اليقين لها سبيلا .

    ويمكن الإشارة الى معنى من معاني التاريخ يترقى بالإنسان عمّن سواه من الوجودات , بلحاظ الفكر والقوة العاقلة, وذلك في عبارة شمولية ذكرها العروي, هي : (ان التاريخ هو سيرورة الإنسان كإنسان, ككائن عاقل حر خلاّق)([13]) .
  
    ولغرض فهم الإنسان الحادثة وإدراك علّتها وتفسيرها وربطها بما قبلها وما بعدها من الحوادث (ينبغي ان يكون لديه الاستعداد لإدراك مقومات النفس البشرية جميعها: روحية وفكرية وحيوية , ومقومات الحياة البشرية جميعها: معنوية ومادية , وأن يفتح روحه وفكره وحسه للحادثة ويستجيب لوقوعها في مداركه ولا يرفض شيئا من استجاباته لها الا بعد تحرج وتمحيص ونقد)([14]) . 


      

التاريخ في الرؤية الإسلامية:

    إن الذي يمثل وجهة النظر الإسلامية في قضية التاريخ هو تعريف ابن خلدون, وشرحه وتعليقه في تفصيلات تبين الفرق بين متبنيات الإسلام ومتبنيات الغرب حول التاريخ, فالتاريخ الإسلامي مبني على البحث عن الصدق في الخبر بإخضاعه الى الآليات المعروفة كالنظر والتمحيص والجرح والتعديل, فالكذب يتطرق للخبر بطبيعته لعوامل كثيرة منها: الميل الى رأي أو مذهب, الثقة بالناقلين للخبر, توهم الصدق, الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع, والجهل بطبائع الأحوال في العمران, وما أشبه ذلك([15]).

     فالتاريخ عند ابن خلدون هو عبارة عن (خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم, وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات...وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض, وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها, وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم)([16]) .

    وللتاريخ الإسلامي دافع آخر مهم متعلق بالشأن الفقهي, فضلا عن تسجيل الوقائع وحفظها, فمن مميزاته ان السرد التاريخي فيه لا يهدف (الى معرفة الماضي فقط, بل يهدف أساسا الى تحديد حكم شرعي لصالح فرد أو جماعة, لهذا السبب كثر بين المؤلفين في التاريخ أول الأمر عدد الفقهاء)([17]) .

المنهجية القرآنية في التعامل مع التاريخ:

    أما طريقة التعامل القرآني مع التاريخ, فعند نزول الآيات القرآنية على مدى عشرين عاما ونيف رافقتها جميع الممارسات السياسية والاجتماعية والثقافية للنبي محمد(ص).

    فأسبغ القرآن الكريم على ممارسة النبي(ص) لمشروعه الكبير وأهداف عمله سمة التعالي والتسامي إذ يربطها بالمطلق الأعلى وإرادته الغيبية , لذا نلحظ خلوّ الآيات القرآنية والأحداث القصصية من التواريخ وأسماء الأعلام وأسماء الأماكن لنزع صفة التاريخية عنها([18]).

    وهكذا يعمل القرآن على توظيف الأحداث التاريخية توظيفا كليا أو جزئيا ليبعث فيها أفكارا جديدة المعنى يلائم بينها وبين روح التقدم في الزمن, وهي (طريقة في غاية الأهمية...فليس هدف القرآن من سرد هذه القصص مجرد العرض التاريخي وإنما يهدف دوما الى تحميلها مغزى أخلاقيا أو فلسفيا)([19]), وهذا الهدف يتحقق بتجريدها عن كثير من التفاصيل التي تشدها نحو التاريخية .

    والقرآن هو المصدر التاريخي الصحيح والمعتمد, لكونه (يرمز الى ماهية الوحي والظروف التي حفت ببدئه وتواصله ولا يدخل في التفاصيل الدنيوية الفارغة, وكثيرا ما اتخذ القرآن اسلوب المحاجة والإقناع)([20]).

    واهتم ببيان مصداقيته ومصداقية العلاقة بين الله تعالى ونبيه الأكرم(ص) التي تتخذ (صيغة التبليغ من الله الى الرسول وصيغة الأمر والنهي والتعليم, وهذه العلاقة مقدسة لأن الله في أساسها)([21]) , فالقرآن الكريم هو كتاب مقدس بالمعنى الدقيق والحرفي للكلمة سواء آمن بقدسيته وألوهيته الإنسان أم لم يؤمن ؛ لاتصاله المباشر بالله تعالى .

    أما التاريخية ضمن الرؤية الغربية فسوف نقف عندها في البحث اللاحق، بإذن الله تعالى، فإن أحببت تتبع الموضوع اضغط هنا



الدكتورة نهضة الشريفي   

الهوامش:


([1]) وجهة العالم الإسلامي , مالك بن نبي : 25
([2]) ميلاد مجتمع , مالك بن نبي : 78
([3]) لسان العرب , ابن منظور : 3/ 4 , ظ القاموس المحيط , الفيروز آبادي : 248
([4]) م . ن : 3/ 66
([5]) معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية , جلال الدين سعيد : 83
([6]) ظ المعجم الفلسفي , مراد وهبة , دار قباء الحديثة – القاهرة , 2007م : 155
([7]) م . ن : 155
([8]) قراءة بشرية للدين , محمد مجتهد شبستري , ترجمة: أحمد القبانجي , دار الفكر الجديد – النجف – 2007م : 78
([9]) مفهوم التاريخ, عبد الله العروي , المركز الثقافي العربي , الدار البيضاء – المغرب , ط4 – 2005م : 35
([10]) مختصر دراسة للتاريخ , ارنولد توينبي , ترجمة: فؤاد محمد شبل , مراجعة: محمد شفيق غربال , المركز القومي للترجمة – القاهرة – 2011م: 1/ 72
* جان جاك روسو (1712 – 1778م) كاتب وأديب وفيلسوف وعالم نبات جنيفي، يعد من أهم كتّاب عصر التنوير، وهي فترة من التاريخ الأوروبي، امتدت من أواخر القرن السابع عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر الميلاديين. ساعدت فلسفة روسو في تشكيل الأحداث السياسية، التي أدت إلى قيام الثورة الفرنسية . ينظر: معجم الفلاسفة , جورج طرابيشي : 328
** فرانسوا ماري آروويه , وشهرته فولتير (1694– 1778م) فيلسوف فرنسي كان واحداً من العديد من الشخصيات البارزة في عصر التنوير ومدافعاً صريحاً عن الإصلاح الاجتماعي على الرغم من وجود قوانين الرقابة الصارمة والعقوبات القاسية , عُرف بنقده الساخر، وذاع صيته بسبب سخريته الفلسفية الطريفة ودفاعه عن الحريات المدنية خاصة حرية العقيدة والمساواة وكرامة الإنسان , كتب العديد من المسرحيات والشعر والروايات والمقالات والأعمال التاريخية والعلمية . ينظر: معجم الفلاسفة , جورج طرابيشي : 471
([11]) ظ  مفهوم التاريخ , العروي : 352
([12]) العرب والفكر التاريخي , عبد الله العروي , المركز الثقافي العربي , الدار البيضاء – المغرب , ط5 – 2006م : 79
([13]) مفهوم التاريخ , عبد الله العروي : 363
([14]) العدالة الاجتماعية في الاسلام , سيد قطب : 209
([15]) ظ مقدمة ابن خلدون : 125ـ 126
([16]) مقدمة ابن خلدون , ولي الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون , تحقيق: عبد الله محمد الدرويش , ط:1 , 1425ه ـ 2004م : 1/ 125
([17])العرب والفكر التاريخي , عبد الله العروي : 80
([18]) ظ الفكر الإسلامي قراءة علمية : 72
([19]) تجديد الفكر الديني في الاسلام , محمد إقبال اللاهوري , ترجمة: محمد يوسف عدس , دار الكتاب المصري – القاهرة – 2011م : 138
([20]) الوحي والقرآن والنبوة , هشام جعيط , دار الطليعة – بيروت , ط2 – 2000م : 18
([21]) م . ن : 18

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات