المصدر العقلي لتفسير القرآن الكريم
اتجاهات المصدر العقلي:
وقع الخلاف بين المسلمين في مدى صلاحية العقل
للاستقلال بالحكم، أو باعتباره طريقا موصلا إلى الحكم، أو بإلغاء هاتين الصلاحيتين
له، وحجبهما عنه ، فعلى هذا تكون النظرة إلى العقل بثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: المعتزلة
نسب إلى المعتزلة بأنهم يرون العقل هو
الحاكم، وهم بهذا يقدمون حكم العقل على حكم الشرع. إلا أن التحقيق بخلاف هذا، فلم
يرد عنهم استقلال العقل بالحكم دون الشرع بل الأولى عندهم - كما نسب لهم - أن
العقل طريق إلى العلم ، وذلك باعتبار التكليف منوطا بالعقل .
الاتجاه الثاني: الإمامية
اعتبر الإمامية العقل طريقا موصلا إلى العلم
القطعي، فلذلك لا يصح عندهم أن يكون شاملا للظنون، وقد عد الشيخ المفيد
(ت: 413ه) العقل هو السبيل إلى معرفة حجية القرآن، ودلائل الأخبار.
ويشارك الامامية في هذا الاتجاه المعتزلة كما
أسلفنا القول في أثبت النقول عنهم، فيكون العقل مدركا إلى الحكم، وطريقا له، وهو
الأولى بالمقام، إذ ليس من الإنصاف التجني على المعتزلة أو الإمامية، والقول عنهما
بأنهما يذهبان إلى تحكيم العقل مطلقا .
الاتجاه الثالث: الأشاعرة
ذهب الأشاعرة بأن التكليف مهما كان فمنشؤه
حكم الشارع لا العقل، والعقل لا يعتمد عليه في إدراكاته لحكم الشارع .
ووافقهم جمع من الأخباريين من الإمامية؛
وذهبوا إلى القول بعدم جواز الاعتماد على شيء من الإدراكات العقلية .
العدلية والمصدر العقلي:
استعرضنا الاتجاهات العامة في مسالة العقل
بشكل مبسط بعيد عن المذهب الكلامي في الاحتجاج لهذا الاتجاه أو ذاك . ويمكن إجمال
القول في الخلوص إلى رأي في المقام بما يأتي:
إن أهل العدل من المعتزلة والامامية لم
يجمدوا على المصدر النقلي، واحتاجوا بهذا التحرر إلى التجوز والتخطي، فتجاوزوا
القول بالمأثور والمنصوص في اللغة ؛ إلى استغلال مرونة اللغة العربية، وقاموا
بتفجير لطاقتها، فتذرعوا باللغة لتأييد الحكم فيما لا دلالة عليه حقيقة، وكان سبيل
ذلك: أن عمدوا إلى ما في اللغة من إشارات ورموز قد تكون دلالتها الأولى قد ذهبت مع
الزمن، ولا سبيل لكشف كثير من هذه الرموز إلا بالتجوز، والتجوز عادة يكون مداره
العقل ومداركه في التمييز والتمحيص، كما يكون مداره القرائن اللفظية.
فلو ورد شيء من القرآن لا مجال لفهمه أو
العلم به عن طريق النص المأثور، لاحتيج إلى الكشف عنه والدلالة إليه، وما سبيل ذلك
إلا العقل باعتباره مناط التكليف، وحيث لا يمكن أن يكون الشرع مخالفا للعقل
السليم، فقد عاد العقل بمنزلة الشرع عند المعتزلة من هذا الوجه، وهنا يأتي الشرع
مؤيدا للعقل أو دالا عليه ، أو متوافقا معه عند الإمامية .
اللغة والعقل عند العدلية:
بعد
التحقيق في الموضوع تبين جنوح المعتزلة والإمامية إلى المجال اللغوي أكثر من
الجنوح إلى الأصل العقلي، فكأنهم تذرعوا بالعقل إلى الوصول إلى مدارك العقل
واجتهاداته في النصوص القرآنية ، فالنحو الذي يدرسون به النص من وجوهه المحتملة،
والبلاغة التي فرضت وجودها في مجالات التأويل، دليل على التذرع بالعقل في استخدام
اللغة .
وقد نجم عن ذلك تأليف الزمخشري للكشاف الذي
اعتمد الجانب البلاغي في ترجيح العقل، وهو من أبرز آثار المعتزلة في التفسير.
وأمالي المرتضى الذي يعتبر من أبرز من أكد
على الجانب اللغوي من الإمامية في تفسيره لجملة من الآيات .
فنجد أن كلا منهما قد عني بمسائل اللغة
والبيان والتمثيل، كما عني بالمسائل العقلية النظرية، فجاء التفسير مزيجا بين هذا
وهذا.
ففي الوقت الذي تذهب فيه اللغة إلى التجوز
العقلي في صفات الله، يدفع فيه العقل الفطري حسن الحسن وقبح القبيح، وغير هذا مما
يكشف عنه: وجه ربك وهو ذاته، وعينه وهي عنايته ورعايته، ويده وهي قوته وإرادته،
فإنه يستعمل الدلالة اللغوية في تجوزها من المعنى اللغوي الأصلي إلى المجاز
والاستعارة والكناية.
ويمتد ذلك الجانب اللغوي كله فنجد العناية
بالمعنى ودلالته، والنظم والتركيب وتجوزهما بلاغيا فتلمس أهمية التمثيل والتخييل
من باب ضرب المثل، وتجدد الحوادث، ومماثلة القصص، واستخلاص العبر، مما يخلص معه
إلى أثر العقل في هذا الشأن، وإن كان مرجعه اللغة. ومن هذا الملحظ في الأقل، وإن
توسعوا في ملحظ آخر.
المصدر العقلي مصدر متمم:
يبدو مما ذكرنا أن المصدر العقلي بطبيعته
مصدر متمم لمصدرين آخرين هما المصدر النقلي المتقدم، والمصدر اللغوي الآتي، ومنشقا
عنهما - في هذا المجال فحسب، ومن خلال هذا المنظور وحده - وليس مصدرا قائما بذاته
تسير به عملية التفسير أو التشريع، بل هو فيما يلوح لي طريق توصلي إلى اكتشاف
المجهول على أساس من لغة في الأعم الأغلب، وعلى استناد من أثر في بعض الأحيان،
فيعود ذلك مظهرا من مظاهر التدبر في القرآن ، والتفكر بمحكم التنزيل، وتتحقق بعد
ذلك منزلة العقل في الاستدلالية به على صحة التأويل، كما تدعو إلى هذا جملة من
الآيات القرآنية التي أكدت جانب العقل في الاستظهار والتدبر والنظر.
ويبدو واضحا أن أهل العدل في نظرتهم هذه
للعقل لا يريدون التفاضل بين حكم العقل وحكم الشرع إلا من حيث الاستدلال على
العقيدة والتدين بها بالنظر إلى أن العقل مناط التكليف، ولا يمكن تفضيله، وإلا أدى
إلى إهداره النص، والتخفف من المسؤولية المنوطة به .
العقل يدرك الكليات:
ان العقول وإن كان لها قابلية الإدراك إلا
أنه إدراك بتناول الكليات ، ولا يتعدى ذلك إلى الجزئيات والفروع التي تحتاج إلى
دليل نصي على إرادتها، وهذا لا يمانع من أن يدرك العقل خصائص كثيرة في تفسير
النصوص جارية وفق مقتضيات العقل السليم.
ويستفاد من هذا الرجوع إلى العقل السوي
باعتباره مجردا غير خاضع لتأثيرات أخرى تصده عن الوصول إلى الواقع، وذلك لإدراكه
بالبداهة والفطرة جملة من الأوليات والبديهيات وتسليمه بها تسليما تاما من قبيل
الإدراك أن الواحد نصف الأثنين، وأن الكل أكبر من الجزء، وأن المظروف أصغر من
الظرف، وأن العلم خير من الجهل، وأن الحسن أولى من القبح.. وهكذا.
المخالفون لحكم العقل:
إن الذي يريد مخالفة حكم العقل يقف موقفا
مضادا لهذا الفكر، ويناقش جميع الاعتبارات المتقدمة، وفي طليعة الأشاعرة المخالفين
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت: ۳۱۰ه) في تفسيره. ويتابعه ابن تيمية في
مقدمته لأصول التفسير ، ويوافقهما الأخباريون من الإمامية .
والحق أن الدليل العلمي المقنع يعوز هؤلاء
وهؤلاء، وقد يورد بعضهم المأثور عن أهل البيت ع : ( إن دين الله لا يصاب بالعقول)
. وليس فيه حجة لهؤلاء، إذ ليس الأمر كما ذهبوا إليه من إبطال حجية العقل كمدرك
لكليات الأمور ، بل المراد من قولهم : بيان عدم استقلال العقل في إدراك الأحكام
ومداركها ؛ أي أن الأحكام ومدارك الأحكام لا يصاب بالعقول استقلالا.
والظاهر أن هذه الأخبار وأمثالها إنما يعمل
بها في مقام معارضة الاجتهاد بالرأي، والنص بالقياس، والعمل بالاستحسان بدعوى أن
العقل الإنساني يدرك الأحكام بهذه الملاكات، فيستنبط في ضوئها ما يشاء دون الرجوع
إلى نص أو أثر أو مدرك شرعي، وهذا منفصل عنه دون ريب .
أدلة التشريع عند المسلمين:
إن أهل العقل يجعلون ميزان العقل التعرف على
الأحكام في مجمل القول، وأما تفصيله فهو يقودنا بطبيعة الموضوع إلى التدبر في
مسألة أصولية، وهي مسألة أدلة التشريع عند المسلمين:
أولا: أدلة التشريع عند الجمهور
(الكتاب، السنة، القياس، الاجماع) .
والاجماع مختلف في مفهومه وانطباقه لديهم
متنقلا بين إجماع الأمة، وإجماع الصحابة، وإجماع أهل الحل والعقد، وهو مختلف فيه
أيضا بين أصول الدين وفروعه.
ثانيا: أدلة التشريع عند الأصوليين من الامامية
(الكتاب ، السنة، الإجماع، العقل) .
فالإمامية لا تجوّز القياس ، أما الإجماع عند
الإمامية فلا بد أن يكون كاشفا عن رأي المعصوم، فإن لم يكن كذلك فلا اعتبار له .
ثالثا: أدلة التشريع عند الاخباريين من الامامية
(الكتاب ، والسنة) .
ولا دور للإجماع والعقل معهما ؛ أما عدم حجية
الإجماع فتلخص: بأن الأمة لو اجتمعت على أمر، أو العلماء والفقهاء من الأمة، فإن
كان هذا الإجماع کاشفا عن رأي المعصوم ، فهو إذن من السنة فيعود إلى الأصل الثاني
من أدلة التشريع، وإن لم يكن كاشفا عن رأي المعصوم فلا قيمة عملية لإجماع العلماء
بل الناس على شيء لا يستند إلى حجة نقلية .
د. نهضة الشريفي
يمكنك الاطلاع أيضا على:
المصدر النقلي لتفسير القرآن الكريم
المصدر اللغوي لتفسير القرآن الكريم
المصدر:
ينظر: المبادئ العامة لتفسير
القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق
تأليف الدكتور محمد حسين الصغير
: ص 70 - 77
تعليقات
إرسال تعليق