أقوال العلماء في المصدر اللغوي
بينّا في القسم الأول من البحث أن كثير من العلماء
والفقهاء نصّوا على أهمية المصدر اللغوي حتى عاد مجالا خصبا لكثير من الأقوال، مما
يعني أن العالِم بلغات العرب يمكنه أن يتعرض لتفسير القرآن، وذكرنا أقوال الشيخ
الطوسي وابن خلدون.
ومن العلماء أيضا:
أبو حيان الأندلسي:
كان ما قرره أبو حيان
الأندلسي (ت: 754ه) أمرا بديهيا حينما قال : (ومن أحاط بمعرفة مدلول الكلمة
وأحكامها قبل التركيب، وعلم كيفية تركيبها في تلك اللغة، وأرتقى إلى تمييز حسن
تركيبها وقبحه، فلن يحتاج في فهم، ما تركب من تلك الألفاظ إلى مفهم ومعلم).
وهو يؤكد على المصادر
اللغوية ومعرفة أحكام الكلم، وكون اللفظ أو التركيب أحسن وأفصح، ويرجح الرجوع في
معرفة علم اللغة، ومعاني الحروف، وفروع الكلمة تيسيرا لفهم القرآن الكريم إلى ابن
سيده والأزهري، والفراء والجوهري، وأبي علي القالي والصاغاني وثعلب.
كما يستحسن الرجوع إلى
دواوين العرب، لا سيما مشاهير الشعراء، كالشعراء الستة : امرؤ القيس ، والنابغة،
وعلقمة، وزهير، وطرفة ، وعنترة ممن يستدل بشعرهم على معرفة معنى اللفظ، كما يجب
الرجوع إلى علم المعاني والبيان والبديع، ويرجّح منها كتابي: محمد بن سليمان النقيب،
وحازم القرطاجني، ويختم هذا التأكيد اللغوي بقوله: ( ولا ينبغي أن يقدم على تفسير
كتاب الله إلا من أحاط بجملة من غالبها من كل وجه منها، ومع ذلك فإنه لا يرقى من
علم التفسير ذروته، ولا يمتطي صهوته ، إلا من كان متبحرا في علم اللسان، مترقيا
منه إلى مرتبة الإحسان ).
الزمخشري:
يضع الزمخشري (ت: 538ه)
علم البلاغة في ذروة الإحاطة اللغوية، فيعتبر علم المعاني وعلم البيان: الأصل
القويم في معرفة التفسير لكتاب الله، فالفقيه وإن تقدم، والمتكلم وإن بز أهل
الدنيا، والواعظ مهما بلغ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن تفوق، لا
يصل أحد من أولئك إلى حقائق التفسير إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما
علم المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، ونصب في التنقير عنهما أزمنة.
واشتراط الزمخشري لعلم
البلاغة يبدو وجيها حينما نلحظ أن المعنى اللغوي والجمود عليه وحده قد لا يؤدي
المعنى التام ما لم يضم إليه الفهم البلاغي للنص ودلالته عليه، فقد يدل الظاهر
اللغوي منه على معنى، إلا أنه يعود ناقصا بالنسبة لواقع المعنى الحقيقي، لذلك يحترز
بالبلاغة عن هذا النقصان، ويستعاض بها لاستجلاء الحقائق .
الزركشي:
أيّد الزرکشي قول الزمخشري بضرورة الاستعانة
بالبلاغة لفهم مقاصد الآيات، وعدم الاكتفاء بالمدلول اللغوي، فقال: (ومن أحاط
بمظاهر التفسير، وهو معنى الألفاظ في اللغة، لم يكف ذلك في فهم حقائق المعاني،
ومثاله قوله تعالى: [ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى] ، فظاهر تفسيره واضح،
وحقيقة معناه غامضة، فإنه إثبات للرمي ونفي له، وهما متضادان في الظاهر ما لم يفهم
أنه رمى من وجه ولم يرم من وجه، ومن الوجه الذي لم يرم ما رماه الله عز وجل).
السيد الطباطبائي:
يرى العلامة الطباطبائي
أن ليس بين آيات القرآن آية واحدة ذات إغلاق وتعقيد في مفهومها - مفهوم اللفظ
المفرد أو الجملة بحسب اللغة والعرف العربي - بحيث يتحير الذهن في فهم معناها؛ وكيف؟ وهو أفصح
الكلام، ومن شرط الفصاحة خلو الكلام عن الإغلاق والتعقيد، والقرآن كلام عربي مبين
لا يتوقف في فهمه عربي ولا غيره ممن هو عارف باللغة وأساليب الكلام العربي .
نماذج من التفسير اللغوي:
قال الطباطبائي: المصدر
اللغوي يحتاجه المفسر لرفع التدافع في الألفاظ المشتركة، أو المختلفة الدلالة، أو
الغريبة مما ألف به العلماء في الغريب ؛ أو مما لم يؤلف استعماله، أو من جهة النقل
المنقلب، وهكذا... وفيها كلها شواهد من القرآن الكريم:
الأول: الألفاظ المشتركة والمتضادّة
كلفظ
(عسعس) في قوله تعالى: [ والليل إذا عسعس] قيل: أقبل؛ وقيل: أدبر. و(الصريم) في قوله تعالى [ فأصبحت كالصريم] قيل:
معناه كالنهار مبيضة لا شيء فيها، وقيل: كالليل مظلمة لا شيء فيها.
الثاني: الغريب من الألفاظ القرآنية
كقوله تعالى: [فلا تعضلوهن]، فهذه كلمة غريبة
تحتاج الى استعمالات العرب في اللغة.
الثالث: النقل المنقلب
كقوله تعالى : [ وطور سينين] فهي منقلبة عن (طور
سيناء).
الرابع: ما لم يؤلف استعماله
كقوله
تعالى: [ أو ألقى السمع وهو شهيد] بمعنى سمع، ولا يستعمل الآن هذا التعبير (ألقيت
سمعي).
السيد السيستاني:
دلالة الألفاظ في
القرآن الكريم عند الاستعمال، بحثٌ تناوله الأصوليون بشيء من التفصيل المكثف، وهذا
تلخيص رأي سيدنا الأستاذ السيستاني دام ظله الوارف:
إن إطلاق اللفظ مع
القصد لمعناه على نوعين:
1.
كون
المعنى متعددا، سواء أكانا حقيقيين أم مجازيين أم مختلفين .
2.
كون
المعنى المستعمل فيه واحدا لكن المراد الجدّي متعدد وذلك في المجاز بناءً على كون
المجاز عبارة عن عدم تطابق المراد الاستعمالي مع المراد الجدي.
ومورد البحث هو إطلاق
اللفظ مع إرادة عدة معان، وإطلاقه مع إرادة المعنى الواحد، وهذا الأخير مما لا
كلام فيه لأنه الأصل وهو الاستعمال الحقيقي الكاشف عن المراد، ولكن الكلام حول
إطلاق اللفظ في القرآن وإرادة عدة معاني منه كما هو الحال في الوحدة الحقيقية، وتعني
إرادة الجامع المنطبق على المعاني انطباق الكلى على أفراده، فقوله تعالى: [ إن
الله وملائكته يصلون على النبي] قد استعمل فيه لفظ الصلاة في الجامع بين صلاة الله
وصلاة الملائكة وهو العطف، لا أن المستعمل فيه متعدد، فقد قال المفسرون بأن صلاة
الله هي رحمته، وأن صلاة الملائكة هي استغفارهم.
وقد يستعمل اللفظ
الواحد بمعنى من المعاني، لكن كيفيته تختلف باختلاف المكلفين أو الكائنات كما هو
ظاهر في قوله تعالى: [ ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس
والقمر والنجوم.. ]. فالمستعمل في لفظ السجود وهو بمعنى الخضوع، وإن كان كل خضوع
بحسبه، لا أن المستعمل فيه متعدد باعتبار أن سجود الملائكة هو الخشوع، وسجود البشر
وضع الجبهة على الأرض، وسجود الشمس انقيادها التكويني لأمر الخالق. وكذا القمر
والنجوم .
خلاصة البحث:
من خلال رأي العلماء
المذكورين يبرز دور البلاغة العربية في رصد المراد بألفاظ القرآن الكريم حقيقة
ومجازا ودلالة، انفرادية في الاستعمال أو مجموعة إلى ما سواها من قرائن الأحوال،
وصياغة البيان، ودلالة الالفاظ .
ويبدو مما ذكرنا أن
المصدر اللغوي يمثل الأصالة الفكرية التي تقوم وتبرمج المناخ التفسيري على أساس من
اللغة والفن والبلاغة، وبإلغاء هذا المصدر يبقى التفسير جامدا، والفكر خاملا.
ولمن أراد الاستفادة من بداية البحث يمكنه الانتقال
الى (المصدر اللغوي لتفسير القرآن الكريم)
د. نهضة الشريفي
المصدر:
ينظر:
المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق
تأليف
الدكتور محمد حسين الصغير: 81 - 85
تعليقات
إرسال تعليق