دراسة تحليلية للأخلاق في سورة لقمان
الجزء الأول
مقدمة : من هو لقمان الحكيم ؟
ورد اسم
(لقمان) في آيتين من سورة لقمان، ولا يوجد دليل واضح في القرآن الكريم على أنه كان
نبيا أم لا، ويمكن القول أن أسلوب القرآن في شأن لقمان يوحي بأنه لم يكن نبيا، لأنه
يلاحظ في القرآن أن الكلام في شأن الأنبياء عادة يدور حول الرسالة والدعوة إلى التوحيد
ومحاربة الشرك وانحرافات البيئة، وعدم المطالبة بالأجر والمكافأة، وكذلك بشارة الأمم
وإنذارها، في حين أن أيّا من هذه الأمور لم يذكر في شأن لقمان، والذي ورد هو مجموعة
مواعظ خاصة مع ولده، وهذا دليل على أنه كان رجلا حكيما وحسب .
وقد ورد
في التاريخ أن لقمان كان عبدا أسود من سودان مصر، ولكن قلبه كان مضيئا وروحه صافية، وكان يصدق في القول
من البداية، ولا يمزج الأمانة بالخيانة، ولم يكن يتدخل فيما لا يعنيه .
وثمة
حديث عن الرسول الأكرم (ص) بشأن لقمان الحكيم: (حقا أقول: لم يكن لقمان نبيا، ولكن كان عبدا كثير التفكر،
حسن اليقين، أحب الله فأحبه ومنّ عليه بالحكمة).
وعن الإمام
الصادق(ع) : (والله ما أوتي لقمان الحكمة لحسب ولا مال ولا بسط في جسم ولا جمال، ولكنه
كان رجلا قويا في أمر الله، متورعا في الله، ساكتا سكينا عميق النظر، طويل التفكر،
حديد البصر. ولم ينم نهارا قط - أي أوله - ولم يتكئ في مجلس قط - وهو عرف المتكبرين
, ولم يمر بين رجلين يقتتلان أو يختصمان إلا أصلح بينهما، ولم يسمع قولا استحسنه من
أحد قط إلا سأله عن تفسيره وعمن أخذه، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والعلماء، ويتعلم من
العلوم ما يغلب به نفسه، ويجاهد به هواه، وكان لا يظعن إلا فيما ينفعه، ولا ينظر إلا
فيما يعنيه، فبذلك أوتي الحكمة) .
وقفة تأملية مع الآيات المتعلقة بلقمان وحكمته:
·
الشكر
قال
تعالى: ((ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن
الله غني حميد)) .
الحكمة التي يتحدث عنها القرآن، والتي كان الله قد آتاها لقمان، كانت مجموعة
من المعرفة والعلم، والأخلاق الطاهرة والتقوى ونور الهداية .
عن الإمام
موسى بن جعفر (عليه السلام)، أنه قال لهشام بن الحكم في تفسير هذه الآية : (إن الحكمة
هي الفهم والعقل) .
إن لقمان
بامتلاكه هذه الحكمة كان يشكر الله، فقد كان يعلم الهدف من وراء هذه النعم الإلهية،
وكيفية استثمارها والاستفادة منها، وكان يضعها بدقة وصواب كامل في مكانها المناسب لتحقيق
الهدف الذي خلقت من أجله، وهذه هي الحكمة، هي وضع كل شيء في موضعه، وعلى هذا فإن الشكر
والحكمة يعودان إلى نقطة واحدة.
إن شكر
النعمة حتما يكون من صالح الإنسان وفي منفعته، وأن كفران النعمة سبب لضرره هو، لأن
الله سبحانه غني عن العالمين، فلو أن كل الممكنات قد شكرته فلا يزيد في عظمته شيء،
ولو أن كل الكائنات كفرت فلا ينقص من كبريائه شيء .
·
الشرك
قال
تعالى: ((وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم))
.
إن حكمة
لقمان توجب عليه أن يتوجه قبل كل شيء إلى أهم المسائل الأساسية، وهي مسألة التوحيد
في كل المجالات والأبعاد، لأن كل حركة هدامة ضد التوجه الإلهي تنبع من الشرك، من عبادة
الدنيا والمنصب والهوى وأمثال ذلك، والذي يعتبر كل منها فرعا من الشرك . كما أن أساس
كل الحركات الصحيحة البناءة هو التوحيد والتوجه إلى الله، وإطاعة أوامره، وكسر كل الأصنام
في ساحة كبريائه .
ومما
يستحق الإشارة أن لقمان الحكيم قد جعل علة نفي الشرك هو أن الشرك ظلم عظيم، وأي ظلم
أعظم منه، حيث جعلوا موجودات لا قيمة لها في مصاف الله ودرجته، هذا من جانب، ومن جانب
آخر يجرّون الناس إلى الضلال والانحراف، ويظلمونهم بجناياتهم وجرائمهم، وهم يظلمون
أنفسهم أيضا حيث ينزلونها من قمة عزة العبودية لله ويهوون بها إلى منحدر ذلة العبودية
لغير الله تعالى .
·
البرّ بالوالدين
قال
تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى
وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ
وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) .
هاتان الآيتان الكريمتان جمل معترضة ذكرها الله تعالى في طيات مواعظ لقمان،
ففيهما بحثا عن نعمة وجود الوالدين وخدمتهما وحقوقهما، وجعل شكر الوالدين في درجة شكر
الله .
كما تعتبران
تأكيدا على كون مواعظ لقمان لابنه خالصة، لأن الوالدين مع هذه العلاقة القوية وخلوص
النية لا يمكن أن يذكرا في مواعظهما إلا ما فيه خير وصلاح الولد، فتقول الآية أولا:
ووصينا الإنسان بوالديه وعندئذ تشير إلى جهود ومتاعب الأم العظيمة، فتقول: حملته امه
وهنا على وهن . وهذه المسألة قد ثبتت من الناحية العلمية، فهن يصرفن خلاصة وجودهن في
تغذية وتنمية الجنين .
والملفت للنظر هنا أن الآية توصي في البداية بالوالدين معا، إلا أنها عند بيان
المشاق والمتاعب تؤكد على متاعب الأم، لتنبه الإنسان إلى إيثارها وتضحياتها وحقها العظيم,
ثم تقول: أن اشكر لي ولوالديك, فاشكرني لأني خالقك والمنعم الأصلي عليك، واشكر والديك
لأنهما واسطة هذا الفيض وقد تحملا مسؤولية إيصال نعمي إليك. فما أجمل أن يجعل شكر الوالدين
قرين شكر الله! وما أعمق مغزاه!
ويقول الله تعالى في نهاية الآية: إلي المصير. نعم، فإنك إذا قصرت هنا فستحاسب
على كل هذه الحقوق والمصاعب والخدمات بدقة, فيجب على الإنسان أن يؤدي ما عليه من شكر
مواهب الله. وكذلك شكر نعمة وجود الأبوين وعواطفهما الصادقة الطاهرة .
والآية التالية تقول: وإن جاهداك على أن تشرك بي ... فلا تطعهما, فيجب أن لا
تكون علاقة الإنسان بأمه وأبيه مقدمة على علاقته بالله مطلقا، وأن لا تكون عواطف القرابة
حاكمة على عقيدته الدينية أبدا, وعبارة جاهداك إشارة إلى أن الأبوين قد يظنان أحيانا
أنهما يريدان سعادة الولد، ويسعيان إلى جره إلى عقيدتهما المنحرفة والإيمان بها، لكن
ينبغي على الأولاد أن لا يستسلموا أبدا أمام هذه الضغوط، ويتوجب عليهم أن يحافظوا على
استقلالهم الفكري، ولا يساوموا على عقيدة التوحيد .
ثم أضافت
الآية أن عدم طاعتهما في مسألة الشرك ليس دليلا على وجوب قطع العلاقة معهما، بل تأمره
الآية بأن يصاحبهما في الدنيا معروفا, فلاطفهما وأظهر المحبة لهما في الحياة الدنيوية،
ولا تستسلم لأفكارهما واقتراحاتهما من الناحية العقائدية والبرامج الدينية، وهذه بالضبط
نقطة الاعتدال الأصلية التي تجمع فيها حقوق الله والوالدين .
·
الحساب يوم المعاد
قال
تعالى: ((يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن
فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ
اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ )).
كانت
أولى مواعظ لقمان عن مسألة التوحيد ومحاربة الشرك، وثانيتها عن حساب الأعمال والمعاد،
والتي تكمل حلقة المبدأ والمعاد، فيقول: يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن
في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله في يوم القيامة ويضعها للحساب إن
الله لطيف خبير.
والخردل هو نبات له حبات سوداء صغيرة جدا يضرب المثل بصغرها، وهذا التعبير إشارة
إلى أن أعمال الخير والشر مهما كانت صغيرة لا قيمة لها، ومهما كانت خفية كخردلة في
بطن صخرة في أعماق الأرض، أو في زاوية من السماء، فإن الله اللطيف الخبير المطلع على
كل الموجودات، سيحضرها للحساب والعقاب والثواب، ولا يضيع شيء في هذا الحساب،
والضمير في " إنها " يعود إلى الحسنات والسيئات، والإحسان والإساءة .
تتمة
البحث تأتي لاحقا، ولنا عودة ووقفة أخرى مع آيات أخرى ووصايا لقمان الحكيم في
الجزء الثاني.
د. نهضة الشريفي
المصادر:
ينظر: تفسير (الأمثل في كتاب الله المنزل) – سورة لقمان - الجزء الثالث عشر
للعلامة ناصر مكارم الشيرازي
طرح جيد اين اجد رسائل ومقالات اضافيه على سورة لقمان
ردحذفشكرا أخي يمكنك مراجعة الكتب التفسيرية عموما في تفسير سورة لقمان وكذلك الكتب الأخلاقية
حذف