القائمة الرئيسية

الصفحات

 

الحكمة من التعبد بالشعائر الدينية

الحكمة من التعبد بالشعائر الدينية

    قال تعالى ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[([1])، فما الحكمة من التعبد بالشعائر الدينية؟ وما هي أهم الشعائر الدينية؟

    كل أمر فيه طاعة لله تعالى هو من شعائر الله، كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وكذلك كل عمل صالح مع خلق الله؛ سواء أكان من المسلم إلى أخيه المسلم، أو غيره.


    قال تعالى: ]ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ[([2]).

   ويتوقف تكامل الإنسان وترقّيه، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي، على مقدار تناغمه وانسجامه مع الشعائر والعبادات ببعديها المادي والروحي، واستخلاص روح العبادة، واضفاء الومضات النورانية في مناحي حياته.


أولا: الحكمة من تشريع الصلاة

    إن المتأمل في البعد التعبدي في تشريع فريضة الصلاة، لابد أنه سوف ينتهي إلى أن الحكمة في تشريع وجوبها هي الحكمة نفسها الداعية لتشريع سائر العبادات، ألا وهي تقوية روح العبودية في حياة الإنسان المؤمن ليشعر بلذة الانتماء لخالقه، وليبقى على حالة خضوع له تعالى، وانقياد إليه في جميع تصرفاته الاختيارية .

    إن الله تعالى لم يأمر المكلف بالتعبد له بالصلاة بالطريقة المعهودة، إلا من أجل أن ينتقل عبر ممارستها والمحافظة عليها إلى الصلاة بمعناها الواسع الشامل المتمثل بالخضوع الكلي والاتصال الدائم بذاته تعالى فكرياً وروحياً ونفسياً, ومن هنا يصل المكلف الى معنى أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، قال تعالى: ]وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ[([3]).


ثانيا: الحكمة من تشريع الصيام

    وهكذا فريضة الصيام، لم يوجبها الله تعالى على المكلف شهراً واحدا محددا في السنة إلا لغرض الانتقال من معنى الصيام المحدود المتمثل بالإمساك عن المفطرات المادية في أيام معدودات، للوصول إلى الصيام بمعناه الواسع المتمثل بالإمساك التام عن كل ما حرّمه الله تعالى في جميع الشهور والأيام.


    وبتعبير آخر، الوصول عبر صيام الجوارح الى صيام الجوانح، أو الوصول عبر صيام البدن الى صيام الروح، فالهدف الأساس من هذه العبادة هو اكتساب حالة التقوى، وهذه هي الحالة التكاملية للعبادة، وهذا هو المقصود بالتقوى في الآية الكريمة:  ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [([4]) .


ثالثا: الحكمة من تشريع الفرائض المالية

    الكلام نفسه يقال بالنسبة إلى تشريع وجوب الزكاة والخمس ونحوهما, فالله تعالى أوجب إنفاق مقدار من المال – ضمن شروط معينة - ليربّي المكلف ويعوّده على البذل والعطاء من كل ما يملك من الثروة المالية أو المعنوية كالعلم والجاه والمنصب، قال تعالى: ]الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ[([5]).

    

    إن الله تعالى كريم, ويريد من عبده المؤمن أن يتخلق بأخلاقه بصورة عامة، لاسيما الكرم بصورة خاصة لأنه يعدّ أرفع وأرقى صفة يتحلّى بها الإنسان الرسالي المثالي نظراً لما يترتب عليه من فوائد ومنافع جمّة، تنصبّ بشكل مباشر على سائر أفراد المجتمع، وتظهر آثاره عليهم بصورة جلية. 

  

    وعلى ضوء إدراك الحكمة من تشريع الفرائض المالية، وهي التحلي بصفة الكرم دائماً، نصل إلى أن تأدية الفريضة المالية إذا تجردت عن صفة الكرم التي يتجاوز بها المؤمن الكريم البذل الواجب إلى المستحب ولو بالقليل, تكون ناقصة بتراء ما دامت لم تؤثر أثرها المنشود ولم تحقق غايتها المقصودة.


    إن اداء الفرائض المالية بتثاقل وانزعاج وتكاسل، واتيانها لمجرد إسقاط فرض، لا يسمن ولا يغني من جوع، إذ تبقى نفس العبد معلّقة بهذا المال الذي انتزعه من أمواله لدفع الخمس أو الزكاة، فلا يصل الى السموّ الروحي، ولا يؤثر هذا العطاء في نفسه الأثر الإيجابي الذي يؤدي إلى تكامله وتقربه الى الله تعالى، فهو يكون كالصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر, وكالصوم الذي لا يوصل إلى صفة التقوى.


رابعا: الحكمة من تشريع الحج

    وهكذا الحج إذا تجرد عن هدفه الأصيل ولم يحقق صفة التقوى المقصودة منه, ويفهم ذلك من سياق الآية الكريمة الواردة في مقام الحديث عن فريضة الحج في قوله تعالى:] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ[([6])، فنلحظ الغرض والحكمة من فرض تشريع الحج في ذيل الآية الكريمة عن خير الزاد، وهو سريان حالة التقوى وتلبسها في روح الإنسان .


    ومن منطلق هذه الحقيقة الإيمانية ندرك أن الحج لم يشرع بصفته الخاصة إلا من أجل التوصل به إلى الحج العام الذي يتمثل بالإحرام العام الذي يقتضي كل التروك الواجبة ولا ينحصر بطقوس الإحرام الخاصة المعهودة، كما يتمثل بالطواف العام والسعي الدائم والوقوف المستمر في عرفات التقوى ومشعر الاستقامة، ورمي كل الشياطين بالممارسات الصحيحة المرضيّة عند الله، السائرة في طريق الهدى, والمنحرفة عن طريق الهوى , ومع نحر هوى النفس الأمارة بالسوء، هذا الهوى المقيت الذي يغريها ويحرفها عن الجادة المستقيمة الى دهاليز المعصية , عبر حبائل شياطين الإنس والجن .


    ولابد للمكلف الذي عزم على الانطلاق في طريق تأدية فريضة الحج المباركة أن يكون إيمانه عن وعي واقتناع بأصول الدين وما يتفرع عنها, لاسيما ايمانه بأن الله تعالى عالم بحقيقة الإنسان وخلقته وطبيعته وميوله، لأنه خالقه ومبدعُه يعلم ما ينفعه ويصلح له من النظام والشريعة.


خلاصة القول:

    بناءً على ما تقدم من الكلام يكون كل تشريع يضعه الله تعالى للإنسان منطلقاً من حكمة ترتبط به وتعود إليه بمقتضى كونه حكيماً .

    ان الله تعالى لم يشرع العبادات الخاصة للإنسان المكلف إلا من أجل هدف أعلى وهو أن تكون فروضاً تمرينية لغرض الوصول بها إلى تقوية العقيدة والإيمان بالله تعالى؛ ليبقى على حالة خضوع دائم وعبادة مستمرة, وهذا هو ما يعبّر عنه بالتقوى، والعبادة بمعناها العام الشامل لكل تصرف اختياري يصدر من المكلف بإرادته واختياره على وفق إرادة الله تعالى.


    وقد ورد في دعاء كميل المعروف ما يؤيد هذا المعنى ويؤكده، لاسيما في هذا التوجه الخاضع والمناجاة الرائعة بين العبد وربه: (( يا ربّ أسألك بحقك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك، أن تجعل أوقاتي في الليل والنهار بذكرك معمورة، وبخدمتك موصولة، وأعمالي عندك مقبولة، حتى تكون أعمالي وأورادي كلها وردا واحدا، وحالي في خدمتك سرمدا... يا ربّ قوّ على خدمتك جوارحي، واشدد على العزيمة جوانحي، وهب لي الجدّ في خشيتك، والدوام في الاتصال بخدمتك)).

 

الدكتورة نهضة الشريفي

 



([1]) سورة الذاريات: 56

([2]) سورة الحج: 32

([3]) سورة العنكبوت: 45

([4]) سورة البقرة: 183

([5]) سورة البقرة: 3

([6]) سورة البقرة: 197

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات