القائمة الرئيسية

الصفحات

 

الأبعاد التربوية في مناسك الحج

الأبعاد التربوية في مناسك الحج

     لا ريب أن الله تعالى وضع لكل تشريع فائدة تعود على الإنسان؛ لأن التشريع جاء لأجله ، ولابد من وجود حكمة من تشريع العبادات ، وكل العبادات تحمل بُعدا فقهيا وبُعدا أخلاقيا ، لأنها شُرّعت أساسا لتهذيب النفوس وتكاملها وتنقيتها من الشوائب والكدورات وإزاحة كل ما يعيق عملية التكامل الإنساني.

    إن فريضة الحج واحدة من أهم الشعائر الدينية التي تحمل في بُعدها الأخلاقي والتربوي كثيرا من الحكمة الإلهية، وسوف نتناول أهم مناسك الحج ونقف عندها لنتبين الجانب الأخلاقي منها.


أولا : الإحرام   

    ما السر في أصل تشريع الإحرام؟ وما الحكمة في تقييده بكونه من مكان معين وهو الميقات الذي يقع في طريق الحاج أو المعتمر، فلا يجوز له الإحرام من مكان آخر؟ كما لا يجوز له تقديمه عليه ولا تأخيره عنه بدون مبرر شرعي؟


    هذه التساؤلات يمكن استلهام إجاباتها من تقصّي الحكمة العامة في أصل التعبّد بالشعائرالدينية، المتمثلة في أخذ المكلف درساً تربوياً في العبودية الخاضعة والعبادة الخاشعة لله تعالى؛ لذلك عندما يصدر التكليف من الله تعالى بأمر من الأمور يحيطه في الغالب ببعض القيود والحدود التعبدية ليتمرّن العبد على الخضوع والتعبد بامتثاله وطاعته له تعالى، مع التقيّد والتعبّد بقيوده حتى وإن لم يدرك السر في أصل التكليف والإلزام بتلك القيود.

    فلا يتوقف المؤمن عن الامتثال والطاعة لمجرد عدم الاطلاع التفصيلي على الحكمة الخاصة المتعلقة بتشريع هذا الحكم أو ذاك, يؤيّد هذا المعنى قوله تعالى ]لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ[ .


    والحكمة من تشريع وجوب الإحرام من الميقات المحدد على ضوء بعض الروايات الشريفة هي: التعبّد لله تعالى بلفت نظر الزائر لبيت الله الحرام، فعندما يصل إلى الميقات ينبغي له أن يُحضِر في ذهنه صورة الإقدام على دخول حرم الله وأمنه الذي جعل الله له أحكامه الخاصة وقدسيته المميزة، ليستشعر بذلك عظمة الله تعالى وجلاله، ويتمسّك بهذا الحضور ويستحضر هذا الشعور عند قيامه بأي منسك آخر من مناسك الحج، فإن الإحرام هو بداية أعمال هذه الفريضة المقدسة نظير تكبيرة الإحرام في الصلاة .


    ولأجل أن يتعمق هذا الشعور في نفس الحاج، لابد للحاج – الذَكَر- من ارتداء ثوبين غير مخيطين للإحرام, وذلك لكي تستحضر عنده هذه الهيئة حال وفاته، إذ يُجرد من ثيابه الدنيوية ويُلف بقطع الكفن الثلاث المعروفة غير المخيطة, مما يزيده خضوعاً لله تعالى، وخشوعاً بين يديه، وزهداً في هذه الحياة الزائلة ونبذ زخرفها وزبرجها.


    بيد أن تجرد المحرم من الثوب المخيط لا يؤتي ثماره إلا إذا اقترن بتجرد فكره من الشبهات التي تبني حجابا وبرزخا مانعا من رؤية الحقيقة في العقيدة والشريعة والسلوك الديني, وكذلك تجرد قلبه من الرغبة والميل الى ممارسة المحرمات, وآنذاك سيمثل الاحرام رمزا للتجرد من كل الصفات الرذيلة، فيضحى باطنه مطابقاً لظاهره وتثبت مصداقية صدقه في إيمانه وتعبده .


    ومن الثمار المترتبة على تجرد الناسك من الثياب العادية المخيطة عودته إلى حالته الأصلية التي يلتقي بها مع عموم الناس، عندها تسقط كل الامتيازات وتتكسر كل الحواجز الجغرافية والقومية والمذهبية والعنصرية والتفرقة الاجتماعية التي تصنف المجتمع إلى فئات وطبقات متمثلة بطبقة الأغنياء والفقراء وطبقة الرؤساء والمرؤوسين وطبقة البيض والسود، ونجد ذلك سائدا في البلاد الغربية وحكوماتها العنصرية.



ثانيا : التلبية

    إن تكرار صيغة التلبية إنما هو تعبير عن الاستعداد النفسي لتلبية كل نداء يوجه إليه، أو هو تهيئة للنفس لتقبّل أوامر الله تعالى ونواهيه عن رضا وخضوع واستسلام، ويتمثل هذا الشعار بامتثاله التكاليف الشرعية الموجهة إليه حال إحرامه وانطلاقه في طريق تأدية فريضة الحج وهو قسمان :


·       التكاليف الإلزامية المتمثلة بمحرمات الإحرام وواجبات الحج .

·       التكاليف الترخيصية المتمثلة بمستحبات الحج والعمرة ومكروهاتهما .


    فينبغي على المكلف الذي يقوم بالحج أو العمرة أن يلتفت إلى أن كل منسك منهما يعدّ دورة تدريبية يراد بها تقوية روح العبودية في نفس المسلم ليبقى على حالة تلبية دائمة وإجابة مستمرة لكل نداء شرعي وتكليف إلهي في جميع الأوقات .


ثالثا: الطواف   

    وهو المنسك الأول الذي يؤديه الحاج أو المعتمر، ويمكن النظر إليه بلحاظ الثمرة التي تترتب عليه من زاويتين:

1.   الطواف في النظام التشريعي

    بعد أن ينتهي الحاج من الطواف الخاص بمناسك الحج، تبتدئ رحلة الطواف العام وهو الطواف المعنوي بقلبه حول مركز شريعة ربه، فلا يتعدى حدودها كما كان لا يتعدى حدود محل الطواف الخاص؛ وذلك لأن الشارع المقدس لم يطلب من المكلف الطواف الخاص ببدنه حركةً وبقلبه قصداً ونيةً إلا لأجل أن يبقى على حالة طوافه القلبي العام في نطاق الشريعة الغراء، فلا يتعدى حدوده ولا يخالف أحكامه .


    وبذلك ندرك أن الطواف المعنوي العام الذي يستفاد من الطواف البدني الخاص يتسع ويمتدّ مع حركة المكلف العبادية ليستوعب البعد المكاني، فلا يختص بمكان الكعبة المشرفة, ويستوعب البعد الزماني فلا يختص بزمان أشهر الحج المعلومات , فهو عبارة عن الالتزام العام والانضباط التام الذي ينبغي على المكلف أن يلتزم به طيلة وجوده في هذه الحياة الدنيا.


2.   الطواف في النظام التكويني

    إذا نظرنا إلى فريضة الحج من منظار النظام التكويني الشامل المهيمن على جميع أجزاء هذا الكون من أكبر كائن إلى أصغره, فسنلحظ أن حركة الطواف الاختيارية التي يمارسها الحاج منسجمةٌ تمام الانسجام مع الطواف التكويني الحاصل في داخل كل كائن موجود في الحياة مهما كان حجمه .


    وقد بسط العلم الحديث لنا هذه الحقيقة التكوينية، وهي أن كل جزء من أجزاء الكائن المخلوق في هذا العالم مؤلف من ثلاثة أجزاء أولية، وهي (البروتون، والإلكترون، والنيوترون)، ونواة الذرة ومحورها هو البروتون الذي تطوف حوله الإلكترونات وتدور في فلكه, وكذلك يدور القمر حول الأرض, والأرض حول الشمس, وهكذا سائر المجموعة الشمسية .


     وللإلكترون دورتان في آن واحد حول البروتون:

الأولى: يدور بها حول نفسه دوران الأرض حول نفسها.

والأخرى: يدور بها حول النواة دوران الأرض حول الشمس, ويقطع بدورته هذه أقصى سرعة عرفتها البشرية.


    والإنسان جزء من أجزاء هذا الكون الواسع، وجسمه مؤلف من ذرات مادية متحركة بحركة طواف تكويني قهري, وبذلك ندرك أن الكون كله بجميع ما فيه ومن فيه من كائنات على تباين أنواعها، متحرك بحركة طواف تكوينية حول المسار المرسوم له.

    وبهذا تأتي حركة الطواف التشريعية الاختيارية التي يُؤديها المكلف بإرادته واختياره منسجمةً والحركة التكوينية للكون .


رابعا: صلاة الطواف والهدي

    من المناسك المفروضة في الحج صلاة الطواف، فضلا عن إنه في نفسه صلاة وعبادة لله تعالى بالمدلول العام للعبادة والخضوع لإرادة الله سبحانه.

    والحج يقتضي بطبعه بذل المال ثمناً للهدي، فضلا عن المصارف الأخرى التي تقتضيها طبيعة الحج قبل السفر وأثنائه وبعده كما هو معلوم، وعلى هذا فهو يشابه فريضتي الخمس والزكاة.


    إن وعثاء السفر في الحج تشابه الجهاد؛ بسبب ما يقتضيه بذاته من المشقة والعناء والتعرض لكثير من الأضرار والأخطار التي قد تؤدي إلى الوفاة ومفارقة هذه الحياة، كما يتعرض المجاهد لذلك في أغلب الأحيان، ولذلك يُودّع المسافر بالدموع والمشاعر العاطفية، والتهيب من حدوث حالة الموت أو الضياع والفقدان، وما شاكل ذلك من الأخطار المثيرة للخوف والقلق في نفوس الناس.

 

الدكتورة نهضة الشريفي

 


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات