مدرسة الحج ومعطياتها الأخلاقية
الحج من العبادات الاجتماعية المهمة التي أوجبها
الله تعالى على المكلف المستطيع ضمن شروط معينة، قال تعالى: ]ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا
مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ[([1]).
ذكرنا في
بحث سابق أن فريضة الحج واحدة من أهم الشعائر الإسلامية، وأكبر الدورات الإلهية في
دروسها التربوية ضمن البعد الفردي والاجتماعي، وسنقف في بحثنا هذا عند بعض
المعطيات الأخلاقية التي تفرزها مدرسة الحج الكبرى.
أولا: التواضع
من معطيات الحج
درس رائع في التواضع وانفتاح المسلمين ذوي الامتيازات الاجتماعية المادية أو
المعنوية على إخوانهم في المبدأ والرسالة، الذين شاءت لهم الحكمة الإلهية أن
يكونوا بمستوى أدنى ضمن المقاييس المادية الدنيوية، من أجل أن يتم نظام الحياة
وتنتظم مسارات الأحياء.
إن استلهام درس
التواضع للناسك بالحج أو العمرة يتبلور عبر شعوره وإحساسه إبّان تجرده من ملابسه
المخيطة وسائر الخصوصيات المميزة، ففي هذه الحال لا فرق بينه وبين أخيه الإنسان
الحاج مهما كان وضعه، والفيصل هنا هو ما يحمله في قلبه من الإيمان وقوة العقيدة،
وما تتصف به نفسه من الخلق الرفيع، وما يُجسده سلوكه الخارجي من الورع والتقوى
والعمل الصالح؛ لأن هذه المعاني والمُثل الرفيعة في الإسلام هي المعيار والميزان
للتفاضل بين أفراد المجتمع، بقرينة قوله تعالى: ]إِنَّ أكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ [([2]).
إن التواضع
من الفضائل الراقية والصفات النبيلة التي تمنح صاحبها الرفعة الحقيقية والمنزلة
السامية عند الخالق والمخلوق، لورود كثير من الآيات الكريمة التي تزكّي هذه السجية
الحميدة، مثل قوله تعالى مخاطباً رسوله الأعظم ص:] وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ
اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ [([3]) .
ثانيا: الزهـــــد
الزهد من الفضائل
الأخلاقية التي تفرزها مدرسة الحج العظيمة, فإن الإنسان المؤمن عندما يعقد النية على
الانطلاق في طريق تأدية هذه الفريضة المقدسة، يتراءى في مخيلته شبح الموت لما سيتعرض
له ويصاب به من التعب والمشقة المرهقة، لاسيما أثناء تأدية مراسيم الطواف والرمي بفعل
الزحام الشديد الذي يحصل عادة في بيت الله الحرام حول الكعبة الشريفة وقت الطواف،
وفي وادي منى وقت الرمي، وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى إغماء بعضهم وربما إلى الوفاة .
هذه الصورة
الذهنية التي ترتسم في مخيلته، والتي تبثّ الخوف في نفسه تجعله يشعر بحقيقة هذه
الحياة الدنيا، وأنها دار ضيافة، والإنسان فيها مهما امتد به العمر إنما هو ضيف
عند أهله وأصدقائه، يقيم معهم فترةً ثم يرحل عنهم إلى مثواه الأخير وداره الأخرى،
التي خلق من أجلها وخلقت من أجله، ومن ثَمّ يتقرر مصيره النهائي جزاء أعماله التي
قام بها في هذه الحياة الفانية .
وقد أشار
الإمام علي ع الى فضيلة الزهد بالقول: (ليس الزهد أن لا تملك شيئاً ولكن الزهد أن لا
يملكك شيء)، وبلحاظ هذا المفهوم الواعي للزهد في الإسلام، ندرك أن الإنسان المؤمن
لو ساعدته ظروفه على أن يملك الثروة الطائلة من الحلال، ودفعه التزامه الديني لأن
يخرج منها ما تعلق بها من الحق الشرعي المعلوم، للسائل والمحروم، وأن يصرفها
ويتصرف بها فيما أحل الله له، فهذا الشخص يكون من الزاهدين المقدّرين عند الله
تعالى؛ لأنه مؤمن بآياته مستجيب لحكمه وأمره ] وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ[([4])
.
ثالثا: الإحساس بالمراقبة الإلهية
من المعطيات
التي يستفيدها الحاج من مدرسة الحج الأخلاقية درس في الانضباط، وقوة الشعور
بالمسؤولية، والإحساس بالمراقبة الإلهية الفعلية حال ارتدائه الإحرام ونطقه
التلبية، فيحسّ المكلف معه بإحساس وشعور مماثل لشعور المؤمن المصلي الذي يهتز
وجدانه حينما ينطق بتكبيرة الإحرام مستشعراً حينها عظمة الله الأكبر من كل شيء،
والأكبر من أن يوصف بشيء، فيقف بين يديه ويلجأ إليه ليستمد منه الحول والقوة من
خلال قيامه بواجب العبودية تجاهه سبحانه .
فلنتأمل ما
ورد عن الإمام زين العابدين (ع) من سيطرة العظمة الإلهية
والهيبة السماوية على مشاعره، فعجز عن النطق بعبارة التلبية, وبعد أن ضبط أعصابه
ونطق بها وقع مغشياً عليه, وحين أفاق من غشيته أفصح عن السبب الذي حبس لسانه ومنعه
من النطق بها بسهولة كغيره من الحجاج والمعتمرين، بأنها الخشية والخوف الذي تملّكه
من عدم قبول الله ذلك منه .
وإذا كان الحاج
المحرم العادي لا يرقى إلى المستوى الإيماني الرفيع الذي بلغه الإمام ع، فلا أقل
من أن تحصل له مرتبة من مراتب الخشية التي تجعله في حالة مراقبة دقيقة لأحكامه
الشرعية.
إن كثرة محرمات الإحرام وصعوبة الاحتراز من
بعضها تقوّي حالة المراقبة عند الحاج، لاسيما ما كان معتاداً عليه منها حال تجرده
من الإحرام، مثل قتل الدود والبرغوث ونحوهما، وشم الطيب والنظر إلى المرآة والتزين
وغيرها.
وإذا استمر المحرِم على هذه الحالة فترة من الزمن
ثبتت في نفسه وترسخت وأصبحت ملازمة له، لتعطي أثرها المنشود حتى بعد التحلل من
الإحرام, والأثر هو تأكيد الالتزام العام بالأحكام الشرعية العامة وامتثالها كما
أراد الله سبحانه وتعالى.
رابعا: الإرادة والصبر
من الدروس
التربوية التي يمكن استفادتها من مدرسة الحج درس في قوة الإرادة والصبر في البأساء
والضراء ]وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ
أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[([5])
، فلا يكتمل حجه،
ولا يكون مبروراً من دون الصبر وتحمل مشقة المناسك. قال تعالى ]وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ[([6]).
خامسا: بثّ روح السلام وبسط جو الأمان
وهذه الروح تكون
حتى مع الأشخاص الذين يختلف الحاج معهم في العقيدة أو المجال السياسي أو السلوك
الاجتماعي أو غيره؛ وذلك لأن التزامه بتروك الإحرام وتجنب التعامل السلبي حتى مع
الحيوان البريّ، بل وحتى مع الحشرات كالقمل والبراغيث ونحوهما، وأيضا مع نباتات
الحرم الشريف وأشجاره، واستمراره على ذلك مدة أيام إحرامه، سوف يغرس في نفسه فضيلة
الحلم والالتزام بخط السلم، وتجنب البطش لأي كائن وإن كان مضايقاً له، وذلك عندما
يكون ملتفتاً لهذه الحكمة البالغة ويحرص على انطلاقها معه في إطار حياته
الاجتماعية فلا يصدر منه إلا ما يكون منسجماً مع هذه الروح السلمية في إطار الأسرة
والمجتمع .
سادسا: التحلي بآداب الإسلام
التحلي بآداب
الإسلام وأخلاق القرآن قولاً وعملاً وسلوكاً هو من المبادئ التي تتبناها مدرسة
الحج العظيمة, فينبغي أن يكون الحاج منسجماً مع روح الأدب الإسلامي, وتتنزه نفسه
عن الكذب والسباب والسخرية والتنابز بالألقاب، ونحو ذلك من المحرمات الإسلامية المتعلقة
باللسان، التي يتأكد تحريمها وقت الإحرام باعتبار أنه شرع من أجل أن يبعد المكلف عما
يضره من قول سيء وعمل منحرف, وليقربه بذلك من ساحة الرحمة الإلهية، وللسبب ذاته حرم
الإسلام الجدال والخصام في الحج.
قال تعالى:]الحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهنَّ
الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ..[([7]), والرفث هو النطق بالكلام الفاحش, والفسوق هو الخروج عن
جادة الطاعة الإلهية .
الدكتورة نهضة الشريفي
تعليقات
إرسال تعليق