الشيطان جزء من سايكولوجية الإنسان
من هو الشيطان؟
كيف وسوس
إبليس
لآدم ع ؟ كثيرون هم الذين كتبوا عن الشيطان ومكائده وخبثه، ونسجوا القصص
والحكايا عنه، مستندين في تصوراتهم على المصادر النقلية من القرآن الكريم
والسنة الشريفة.
وقد جاء بعض
الباحثين المعاصرين بنظريات وآراء وتحليلات حول قصة إبليس تحمل بُعدا تجديديا
فيه نوع غرابة، وسنقف في بحثنا هذا عند كتاب سطّر فيه كاتبه جملة من المدعيات
والتصورات حول إبليس أو الشيطان.
ماهية الشيطان:
ثمة من نشر كتابا
ضمّنه بحثا علميا قرآنيا مهمته التنقيب عن ماهيّة الشيطان, ضمن مجموعة بحوث
تحمل في ظاهرها طابعا علميا, حيث عمد هذا الباحث الى اقتطاع أجزاء من قصة
قرآنية لها أهمية بالغة لأنها تتحدث عن الخلق الأول (آدم ع) وكيفية غواية الشيطان له,
ولأنها تعرّفنا لأول مرة على العدو الأكبر للإنسان وهو(الشيطان) لكي نحذر من
شروره ومكائده]وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً[([1]), وعلى أساس هذه القصة توصّل الباحث الى نتائج عدّة, نقتصر على بعض منها بما
يفي بالغرض ويوصل الى المراد([2]):
(1)
إن إبليس والشيطان جمعا ومفردا هي أسماء معنوية مرادفة لكلمة الشر, إذن
فالشيطان يمثل الميول الدنيا للإنسان, وهي بطبيعتها صعبة الخضوع للإرادة
البشرية, وهذا تأويل امتناع إبليس عن السجود لآدم, في حين انه لم يمتنع مطلقا
عن السجود لله .
(2)
يمكن تشبيه الشيطان بالفايروس البرمجي للحاسبات .
(3)
ليس لإبليس وجود مادي, فالقرآن يشير الى خلقه من النار, والأديان الثنائية
تشير الى خلقه من الظلام, أما علميا فقد يكون جزء من سايكولوجية الإنسان, وهو
يمثل الميول الدنيا أو الحيوانية أو الشهوانية الشريرة في نفسية الإنسان
.
(4)
إن كل ما ذكر عن إبليس قد يعدّ من باب الأسلوب القصصي التوجيهي, إذ إن تلك
الصفات جميعا من شأنها تأليب الإنسان ضد إبليس بقصد الابتعاد عن طريقه أو
بالأحرى عن طريق الشر.
هذا
هو أهم ما توصل إليه الباحث, معززا نتائجه بآيات كريمة وأحاديث شريفة, ومؤكدا
أن وسوسة النفس مرادفة لوسوسة الشيطان, وقد وضع جدولا بيّن فيه أوجه التشابه
بين الشيطان وبين الفايروس البرمجي للحاسبات([3])
.
وفي
الواقع إن هذا الكتاب مملوء من أوله الى آخره بمزاعم لا تليق بمسلم يدعّي تمسكه
بالقرآن, فهو مثلا في مبحث آخر من الكتاب نفسه أنكر أن النملة تكلمت وسمعها
سليمان النبي ع لأن النمل لا يصدر أصواتا!!
كما أنكر حوار الهدهد وإيصاله الرسائل وقطعه المسافات الطويلة, والطامة الكبرى
أنه زعم أن عرش بلقيس لم يؤت به في طرفة عين بل كان له شبيه عند الملك
سليمان ع فأشار اليه الذي عنده علم من
الكتاب, وإلا كيف تطوى آلاف الكيلومترات قبل ارتداد الطرف؟!! وهذا عين الإنكار
لصريح آيات الله الكريمة!!
الرد على مدّعيات الباحث:
أولا : الشيطان مجرد رمز
من الواضح أن الباحث كان يحوم حول فكرة: إن الشيطان (رمز) لا غير, بقوله إن اسم الشيطان مرادف لكلمة الشر, وقد ذكر في موضع آخر من كتابه( إن الشياطين هم رمز الشر)([4]), وذكر أيضا ان الشيطان يمثل الميول الدنيا للإنسان, أي ما يعتمل في دواخل الإنسان, من ضعف الإرادة أمام الغرائز, وضعف النفس أمام المغريات, وهو بهذا ينفي العامل الخارجي الذي يتسلط على البشر ويوسوس في صدورهم وهو صريح ما نقله القرآن]مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ[([5]).
والظاهر انه تغافل عن حقيقة بيّنة مفادها ان (ميدان الشيطان في
إغوائه وصدّه عن سبيل الله هو النفس الإنسانية من خلال مدركاتها وأفعالها
وقواها المختلفة)([6])
وهو غير الميول الداخلية الدنيا للإنسان, فإن الشيطان يمارس صولاته وجولاته في
النفس البشرية بطرق متشعبة وملتوية قد لا تخطر على بالنا .
وقد ذكر القرآن الكريم كثير من تلك الطرق, منها
([7]):
·
النجوى, كما في قوله تعالى]..إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا..[([8]).
·
العمل على إنسائه ذكر ربه] وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[([9]).
·
دفع الإنسان الى المعصية وحثه عليها وتزيينها له]..وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ
فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ[([10]).
ثانيا : تشبيه الشيطان بالفايروس
قد يكون تشبيه
الشيطان بالفايروس البرمجي أمر مقبول, ولكنه تشبيه غريب لا أعتقد أن أحدا تعرّض
الى مثله, لاسيما أنه أوجد مقارنة طريفة بين الشيطان والفايروس في جدوله, منها:
إن الشيطان يُحدث إرباكا للسلوك والفعاليات, والفايروس يحدث إرباكا في البرامج,
ولكن, هل يقتصر عمل الشيطان على مجرد الإرباك ؟!!
لا شك أن عمل
الشيطان إبعاد الناس عن الله بطرق عديدة كلّ حسب ما يناسبه, فيُدخل العجب على
عبادة العابد مثلا ليحبط عمله, ويغري ضعيف النفس بارتكاب المحرم, ويزينه له,
فيبتعد عن دينه ويقسو قلبه, هذا هو عمل عدو الله, والعدو الأول للإنسان.
ثالثا : إبليس ليس ماديا
إن كون إبليس ليس ماديا لا ينفي وجوده, فهو مخلوق من نارـــ كما ذكر القرآن
ـــ وهي طاقة, والطاقة لها وجود, ولها تأثير مباشر في تيسير سبل العيش في حياة
البشر, ونحن نتعامل في حياتنا مع كثير من القضايا غير المادية بل حتى مع ما هو
ليس من الطاقة, وإنما هي أمور معنوية صرفة, من قبيل الألفاظ التي تقرأ أو تكتب,
فهي ليس لها وجود مادي, إلا انها تؤثر في الإنسان أيما تأثير .
رابعا : وسوسة النفس ووسوسة الشيطان
هل حقا إن وسوسة النفس مرادفة لوسوسة الشيطان ؟ لقد خلق الله تعالى النفس الإنسانية, وخلق الشيطان, والنفس لها استعداد للخير والشر]وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ[([11]), كما ان الله تعالى خلق الفطرة وجعل الإنسان ميالا للخير بفطرته, راغبا عن الشر بفطرته] فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا[([12]).
أما الشيطان فهو مخلوق متلبّس بكل أنواع الرذائل ولا مكان في نفسه للخير, وهو الذي يلوث الفطرة ويحجبها عن الخير بوسوسته في الصدور, هذا ما تصرح به الآيات القرآنية والروايات بكثرة بالغة والتي تندد بالشيطان وتحذر منه, قال تعالى] يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ[([13]), وعن أبي جعفر(ع( ((إن الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهم عن دينه، فإذا فعلوا ذلك استلقى على قفاه وتمدد ثم قال: فزت..))([14])، إذن فنفس الإنسان مستقلة عن نفس الشيطان ولا يمكن أن ننفي وجود الشيطان ونعدّه جزءاً من سايكولوجية الإنسان .
خامسا : هل إبليس وهم؟!!
صرّح الباحث أن ما ذُكر عن إبليس ليس إلا من باب الأسلوب القصصي التوجيهي,
نعم, هو أسلوب قصصي يوجّه الإنسان للاعتبار والاتعاظ, لكنه حق وصدق وليس وهم
ورمز .
إن إبليس أو
الشيطان رمز للشر, إلا ان له كيانا مستقلا وهو فعلا مصدر للشر؛ لأنه ينفث سمومه
ويوسوس في صدور الناس بسبب حقده الدفين على نبي الله آدم ع الذي كان السبب في فضح سريرته
الخبيثة وكشف كفره القديم, مما أدى الى طرده من رحمة الله الى الأبد .
وقد ذُكر في
الروايات أن الشياطين تُغلّ في شهر رمضان المبارك, حيث جاء عن الرضا ع : ((في أول ليلة من شهر رمضان
يغلّ المردة من الشياطين، ويغفر في كل ليلة سبعون ألفا..))([15]), وعن رسول الله ص: ((يا معشر الناس إذا طلع هلال شهر رمضان غُلّت مردة الشياطين وفتحت أبواب
السماء وأبواب الجنان وأبواب الرحمة وغلقت أبواب النار واستجيب
الدعاء..))([16])، فليس للشياطين سلطان على الإنسان في هذا الشهر الكريم.
ومع ذلك نرى أن بعض الناس
يرتكب المحرمات ولا يردعه رادع, وهذا يعود الى تربيته وبيئته, وفطرته الملوثة,
وليس الى وسوسة الشيطان, ولو كانت الشياطين جزء من تركيبة الإنسان السايكولوجية
التي لا تنفصل عنه, فكيف تُغلّ؟ فإن افترضنا صحة هذه الجزئية لا يبقى معنى
للأحاديث الشريفة, ولا فائدة منها, وتكون بمثابة اللغو(أستغفر الله), وذلك
معناه (الجبر) لا الاختيار؛ لأن الإنسان حينذاك يكون ممنوعا من فعل الشر لا
بإرادته.
هذه بعض
هفوات جيل اليوم , على ان ذلك لا يزعزع من مكانة القصة القرآنية وموقعها في
النفوس لأنها تحظى بالقيمة والقدسية والصدق لدى الجمّ الغفير من المسلمين في كل
أنحاء العالم, وهم الفئة الغالبة, وهم العصبة أولي القوة, وهم حزب الله
الأكبر] أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[([17])
وهيهات أن تتزعزع مكانة القصص الإلهية المقدسة في القلوب والألباب, فما زالت
وستبقى منبعا للاعتبار بدروسها, ومعينا لا ينضب في عبرها وعظاتها, ولا يقدح
فيها التيار المضاد مهما علا, لأنها كلام الله جل وعلا, الذي يعلو ولا يعلى
عليه .
الدكتورة نهضة الشريفي
تعليقات
إرسال تعليق