القائمة الرئيسية

الصفحات

دراسة تحليلية للأخلاق في سورة لقمان - الجزء الثاني

 

دراسة تحليلية للأخلاق في سورة لقمان - الجزء الثاني

دراسة تحليلية للأخلاق في سورة لقمان


الجزء الثاني


    ورد في الروايات: أن شخصا سأل لقمان: ألم تكن ترعى معنا؟ قال: نعم .

قال الرجل: فمن أين أتاك كل هذا العلم والحكمة؟

قال: قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني .


    تناولنا في الجزء الأول من هذا البحث مقدمة عن حياة لقمان وحكمته، ووقفنا عند جملة من الآيات المتعلقة بوصاياه لابنه، والتي تناولت النهي عن الشرك وما يتعلق بالبرّ بالوالدين وأهميته، ودقة الحساب يوم المعاد، وهنا سنستكمل ما بدأناه بهذا الشأن مع آيات كريمات أخر تجسد التربية الأخلاقية والسلوك الإنساني:


·       العبادة والصبر

    قال تعالى: ((يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) .


    بعد تحكيم أسس المبدأ والمعاد، والتي هي أساس كل الاعتقادات الدينية، تطرق لقمان إلى أهم الأعمال، وهي مسألة الصلاة، فقال: [ يا بني أقم الصلاة ] لأن الصلاة أهم علاقة وارتباط مع الخالق، والصلاة تنوّر قلبك، وتصفي روحك، وتضئ حياتك، وتطهّر روحك من آثار الذنب، وتقذف نور الإيمان في أنحاء وجودك، وتمنعك عن الفحشاء والمنكر.


    ثم يتطرق لقمان إلى أهم دستور اجتماعي، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول: [ وأمر بالمعروف وانه عن المنكر].

    وبعد هذه الأوامر العملية المهمة الثلاثة، ينتقل إلى مسألة الصبر والاستقامة، والتي هي من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فيقول: [ واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور].


    من المسلّم أنه توجد مشاكل وعقبات كثيرة في سائر الأعمال الاجتماعية، وخاصة في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن المسلّم أيضا أن أصحاب المصالح والمتسلطين، والمجرمين وذوو الأنا، لا يستسلمون بهذه السهولة، بل يسعون إلى إيذاء واتهام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولا يمكن الانتصار على هذه المصاعب والعقبات مطلقا من دون الصبر والتحمل والاستقامة.


    ومعنى العزم هو الإرادة المحكمة القوية، والتعبير ب‍ (عزم الأمور) هنا بمعنى الأعمال التي أمر الله بها أمرا مؤكدا، أو الأمور والأعمال التي ينبغي أن يمتلك الإنسان فيها إرادة جبّارة وتصميما راسخا، وأيا من هذين المعنيين كان فإنه يشير إلى أهمية تلك الأعمال.


·       الكبر

    قال تعالى: ((وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)) . 

 

    ثم انتقل لقمان إلى المسائل الأخلاقية المرتبطة بالناس والنفس، فيوصي أولا بالتواضع والبشاشة وعدم التكبر، فيقول: ولا تصعر خدك للناس أي لا تعرض بوجهك عن الناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور.


"تصعّر" : من مادة (صعر)، وهي في الأصل مرض يصيب البعير فيؤدي إلى اعوجاج رقبته.

و " المرح ": يعني الغرور والبطر الناشئ من النعمة.

و " المختال ": من مادة (الخيال) و (الخيلاء)، وتعني الشخص الذي يرى نفسه عظيما وكبيرا، ازاء سلسلة من التخيلات والأوهام.

و " الفخور ": من مادة (الفخر) ويعني الشخص الذي يفتخر على الآخرين.

والفرق بين كلمتي المختال والفخور، أن الأولى إشارة إلى التخيلات الذهنية للكبر والعظمة، أما الأخرى فهي تشير إلى أعمال التكبر الخارجي.


    وعلى هذا، فإن لقمان الحكيم يشير هنا إلى صفتين مذمومتين جدا: إحداهما التكبر وعدم الاهتمام بالآخرين، والاخرى الغرور والعجب بالنفس، وهما مشتركتان من جهة دفع الإنسان إلى عالم من التوهم والخيال والنظرة الفوقية على الآخرين، وإسقاطه في هذه الهاوية، وبالتالي تقطعان علاقته بالآخرين وتعزلانه عنهم، خاصة وأنه بملاحظة الأصل اللغوي ل‍ " صعر " سيتضح أن مثل هذه الصفات مرض نفسي وأخلاقي، ونوع من الانحراف في التشخيص والتفكير، وإلا فإن الإنسان السالم من الناحية الروحية والنفسية لا يبتلى مطلقا بمثل هذه الظنون والتخيلات.


    ثم بيّن في الآية التالية أمرين وسلوكين أخلاقيين إيجابيين في مقابل النهي عن سلوكين سلبيين في الآية السابقة فيقول: ابتغ الاعتدال في مشيك، واقصد في مشيك وابتغ الاعتدال كذلك في كلامك ولا ترفع صوتك عاليا واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير .


    إن هاتين الآيتين في الحقيقة نهتا عن صفتين، وأمرتا بصفتين: النهي عن التكبر  والعجب ، فإن أحدهما يؤدي إلى أن يتكبر الإنسان على عباد الله، والآخر يؤدي إلى أن يظن الإنسان أنه في مرتبة الكمال وأسمى من الآخرين، وبالتالي سيغلق أبواب التكامل بوجهه .


    أما الأمر بصفتين، فهما رعاية الاعتدال في العمل والكلام، لأن التأكيد على الاعتدال في المشي أو إطلاق الصوت هو من باب المثال في الحقيقة. والحق أن الإنسان الذي يتبع هذه النصائح الأربع موفق وسعيد وناجح في الحياة، ومحبوب بين الناس، وعزيز عند الله.


مصداقية وصايا لقمان الحكيم :

إن أهمية وصايا لقمان ومصداقيتها نابعة من أمور عدة أهمها:

-          انها نابعة من مكانة لقمان نفسه؛ فهي تنطلق من شخصية ذات فضل ومنزلة، فإن صاحب تلك الوصايا أنزل الله تعالى فيه سورة تحمل اسمه، امتدحه فيها؛ فأخبر أنه رجل أوتي الحكمة من لدن البارئ عزّ وجلّ.


-         وتلك الحكمة التي أوتيها لقمان، تحمل مضامین وقيما، تؤكد على أهمية تلك النصيحة؛ فهي نصيحة مبرأة من العيب، صاحبها قد أوتي الحكمة، وكأن من متطلبات تلك الحكمة أن يكون الإنسان الحكيم شاكرا في نفسه واعظا لغيره، ذلك لأن علو منزلة الإنسان في الحكمة أن يكون كاملا في نفسه ومكملا لغيره.


-         بما ان تلك الوصية موجهة إلى ابنه؛ فهي رمز لمصداقية النصيحة، وإنها لموعظة غير مبهمة؛ فما يريد الوالد لولده إلا الخير، وما يكون الوالد لولده إلا ناصحا. والنصيحة من الوالد لولده تكون عادة مبرأة من كل شبهة، بعيدة عن كل مصلحة ذاتية.


-         ان مصداقية تلك الوصايا تبدو جلية واضحة ونحن نسمع في مبتدئها وبين ثناياها عبارة: (يا بني) التي تحمل دلالات بعيدة؛ فإن حرف النداء يثير الحسّ، ويوقظ الشعور، ويجلب الانتباه، وكلمة (بني) تصور لنا أسمى معاني الحب، والشفقة، والرحمة، وتفيض بأروع مشاعر العطف والحنان، ولو اجتزأ الكلام، وخلا التخصيص بها لما أدت الغرض نفسه .


-         وإذا كان لقمان حريصا كل الحرص على تزويد ابنه بكل خير يرتجيه له في دينه ودنياه، كان مأخوذا برحمة الأبوة، مترفقا معه في ألين أسلوب، حتى ليدعوه في وصيته بلهجة الوالد بقوله: يا بني، يا بني، يا بني، هتافات ثلاث هتف فيها لقمان ولده ليستنقذه من غفلته ويستحثه على الخير (يا بني) بصيغة التصغير، ليتجلی فيه الحنو الأكمل؛ فإن الرحمة في صغر الابن أوفر منها بعد اكتماله .. فالتصغير هنا تصغير إشفاق ورحمة ومحبة .


-         وكون تلك الوصايا وردت في مقام الجدّ والوعظ تعطي دلالات ومضامین ترتبط بالموقف فقوله: (وهو يعظه) جملة حالية تعود إلى أصل الموضوع بمزيد من التقرير فوعظه في اللغة بمعنى: نصحه وذكره ما يلين قلبه من الثواب والعقاب، وما يسوقه إلى التوبة إلى الله وإصلاح السيرة وأمره بالطاعة ووصاه بها. والكلام في سياق الوعظ يختلف عنه في غيره؛ فالوعظ كي يحقق أهدافه لا بد وأن يهتم به ويرمز على انتفاء أكثر الأساليب فاعلية وتأثيرا في النفوس .


القيم التربوية المستنبطة من وصايا لقمان :

-         من خلال الآيات نستنتج أنه من الضروري أن يجلس الأب مع ابنه دائما كي يعظه ويوجهه ويؤدبه ويربيه .

-         شرع لنا القرآن الكريم الوصية في أمور الدنيا والآخرة.


-         عند النصيحة على الأب أو المربي أن يستخدم أسلوب الحب والشفقة ليشعر الولد بأن النصيحة نابعة من باب الخوف عليه والحرص على مصلحته ويتجلى ذلك في قول لقمان لابنه (يا بني). في المقابل ضرورة عدم استعمال الألفاظ الجارحة والكلمات التي تنقص من شأن الابن، عندها فقط يزيد قبول النصيحة لمن هو محل النصح.


-         التدرج في النصيحة، الأولى فالأولى: العقيدة أولا ثم بر الوالدين وهكذا.

-         عند الوعظ والنصيحة ينبغي استعمال أسلوب الإقناع، كما فعل سيدنا لقمان الحكيم.


د. نهضة الشريفي


المصادر:

ينظر: تفسير (الأمثل في كتاب الله المنزل) – سورة لقمان - الجزء الثالث عشر

للعلامة ناصر مكارم الشيرازي


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات