القائمة الرئيسية

الصفحات

 

المعجزة مفهومها وحقيقتها

المعجزة مفهومها وحقيقتها


    لابد لكل نبي مبعوث من قِبل الله تعالى أن يقدّم لقومه معجزة يعجز الناس عن الإتيان بمثلها، تثبت صدق نبوته، فهي لازمة من لوازم الأنبياء وضرورة من ضرورات النبوة، فما هي هذه المعجزة وما حقيقتها وشروطها؟


تعريف المعجزة في الاصطلاح :

    المعجزة بحسب الاصطلاح هو ما يأتي به المدّعي لمنصب من المناصب الإلهية؛ من الأمور الخارقة للعادة النوعية، والنواميس الطبيعية، والخارجة عن حدود القدرة البشرية، والقواعد والقوانين العلمية وإن كانت دقيقة نظرية، والرياضات العلمية وإن كانت نتيجة مؤثرة، بشرط أن يكون سالم عن المعارضة عقيب التحدي به.


شرائط الاعجاز:

    في الحقيقة تعتبر في تحقق الإعجاز الاصطلاحي الشرائط التالية:

الأول : أن يكون الإتيان بذلك الأمر المعجز مقرونا بالدعوى، بحيث كانت الدعوى باعث على الإتيان به ليكون دليلا على صدقها، وحجة على ثبوتها. بمعنى ان هذا الإنسان أول عمل يقوم به أنه يدّعي النبوة، قبل قيامه بما يثبت نبوته.


الثاني: أن تكون الدعوى عبارة عن منصب من المناصب الإلهية، كالنبوة أو السفارة؛ وبما أنه لا يمكن تصديقها عن طريق السماع المباشر عن الله جلّ وعلا، لاستحالة ذلك، فلابد إذن من المعجزة الدالة على صدق المدّعي، وثبوت المنصب الإلهي، وأما لو لم تكن الدعوى منصبا إلهيا، بل كانت أمرا آخر كالتخصص في علم مخصوص مثلا، فالدليل الذي يأتي به مدّعيه لإثبات صدقه لا يسمى معجزة؛ لعدم توقف إثباته على الإتيان بأمر خارق للعادة، بل يمكن التوسل بدليل آخر كالامتحان ونحوه.


    ففي الحقيقة، المعجزة عبارة عن الدليل الخارق للعادة، الذي ينحصر طريق إثبات الدعوى به، ولا سبيل لإثباتها غيره.


الثالث : أن تكون الدعوى في نفسها مما يجري فيه احتمال الصدق والكذب، وإلا فلا تصل النوبة إلى المعجزة، بل لا يتحقق الإعجاز بوجه؛ ضرورة أنه:


-           مع العلم بصدق الدعوى لا حاجة إلى إثباتها.

-       ومع العلم بكذبها لا معنى لدلالتها على صدق مدّعيها، وإن كان البشر عاجزا عن الإتيان بمثلها فرضا.

    وهذا لا فرق فيه بين أن يكون الكذب معلوما من طريق العقل، أو من طريق النقل.


أما ما يكون معلوما من طريق العقل:

    فإذا ادعى أحد أنه هو الله الخالق الواجب الوجود، وأتى بما يعجز عنه البشر فرضا، فذلك لا يسمى معجزة؛ لأن الدعوى في نفسها باطلة بحكم العقل ؛ للبراهين القطعية العقلية الدالة على استحالة ذلك.


وأما ما يكون معلوما من طريق النقل:

    فإذا ادعى أحد النبوة بعد خاتم النبيين محمد ص، وأتى - فرضا - بما يخرق نواميس الطبيعة والقوانين الجارية، فذلك لا يسمى معجزة عند المسلم الذي لا يرتاب في صحة اعتقاده ونبوّة نبيه ص؛ لأنه كما ثبتت نبوته كذلك ثبتت خاتميته بالأدلة النقلية.


    فالمعتبر في تحقق المعجزة اصطلاحا كون الدعوى محتملة لكل من الصدق والكذب.

    وهنا يتبادر الى الذهن تساؤل: قد تتعدد المعجزات على يد المدّعي للمنصب الإلهي, فإذا صدّق الشخص الذي أمامه بمدّعاه من أول مرة فما الداعي للإتيان بمعجزة أخرى؟


    للجواب على هذا التساؤل: إن المعجزات المتعددة لمدّع واحد إنما يكون اتصافها بالإعجاز بلحاظ الأفراد المتعددة والناس الآخرين، فكل معجزة إنما يكون إعجازها بالإضافة إلى من كانت تلك المعجزة دليلا عنده على صدق المدّعي، وإلا فلو كان صدق دعواه عنده ثابت بالمعجزة السابقة بحيث لا يكون هذا الشخص في ريب وشك أصلا، فلا تكون المعجزة اللاحقة معجزة بالإضافة إليه بوجه، واتصاف اللاحقة بهذا الوصف – أعني وصف المعجزة - إنما هو لأجل تأثيرها في هداية غيره ، وخروج ذلك الغير من الشك إلى اليقين لأجلها.


    وبعبارة أخرى : إنما يكون اتصافها بالإعجاز عند الغير لا عند هذا الشخص.

الرابع: كون ذلك الأمر خارقا للعادة الطبيعية، وخارجا عن حدود القدرة البشرية، وهنا يشير ضمنا إلى أن المعجزة تستحيل أن تكون خارقة للقواعد العقلية؛ لأن القواعد العقلية غير قابلة للانخرام، وإلا لا يحصل لنا القطع بشيء من النتائج، ولا بحقيقة من الحقائق؛ فإن حصول القطع يتفرع على ثبوت القاعدة العقلية الراجعة إلى امتناع اجتماع النقيضين.


    فمثلا: ان حصول العلم بحدوث العالَم من القياس المركب من: (العالم متغير وكل متغير حادث) إنما يتوقف على استحالة اتصاف العالَم بوجود الحدوث وعدمه معا؛ فبدونها لا يحصل القطع بالحدوث في مقابل العدم، كما هو واضح.


    ومثال آخر: العلم بوجود البارئ - جلت عظمته - من طريق البراهين الساطعة القاطعة الدالة على وجوده، إنما يتوقف على استحالة كون شيء متصفا بالوجود والعدم معا في آن واحد، وامتناع عروض كلا الأمرين في زمان واحد، فبدونها لا مجال لحصول القطع بالوجود في مقابل العدم، كما هو ظاهر.


    فالقواعد العقلية خصوصا قاعدة امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعها، التي إليها ترجع سائر القواعد، وعليها يبتني جميع العلوم والمعارف، بعيدة عن عالم الانخراق والانخرام بمراحل لا يمكن طيها أصلا.


    والدليل على ما ذكرنا من استحالة كون المعجزة خارقة للقواعد العقلية في خصوص المقام:

    ان الغرض من الإتيان بالمعجزة إثبات دعوى المدعي واستكشاف صدقه في ثبوت المنصب الإلهي، فإذا فرضنا إمكان تصرّف المعجزة في القواعد العقلية وانخرامها بها، عندئذ لا يحصل الغرض المقصود منها؛ فإن دلالتها على صدق مدعي النبوة مثلا إنما تتم على تقدير استحالة اتصاف شخص واحد في زمان واحد بالنبوة وجودا وعدما.


    وعلى ما ذكرنا فالمعجزة ما يكون خارقا للعادة الطبيعية، التي يكون البشر عاجزا عن التخلف عنها.


الفرق بين المعجزة والسحر:

    ثمة فرق بين المعجزة وبين السحر ، وكذا بينها وبين ما يتحقق من المرتاضين، الذين حصلت لهم القدرة من الرياضات - على اختلاف أنواعها وتشعب صورها - على الإتيان بما يعجز عنه من لم تحصل له هذه المقدمات؛ فإن ابتناء مثل ذلك على قواعد علمية أو أعمال رياضية توجب خروجه عن دائرة المعجزة، التي ليس لها ظهير إلا القدرة الكاملة التامة الإلهية، وهكذا الإبداعات الصناعية، والاختراعات المتنوعة، والكشفيات المتعددة من الطبية وغيرها من الحوادث المختلفة، العاجزة عنها الطبيعة البشرية، قبل تحصيل القواعد العلمية التي تترتب عليها هذه النتائج ، وإن كان الترتب أمرا خفيا يحتاج إلى الدقة والاستنباط؛ فإن جميع ذلك ليس مما يعجز عنه البشر، ولا خارقة لناموس الطبيعة أصلا.


    نعم، يبقى الكلام بعد وضوح الفرق بين المعجزة وغيرها بحسب الواقع ومقام الثبوت؛ فإن الأولى (المعجزة) خارجة عن القدرة البشرية بشؤونها المختلفة، والثانية (السحر والرياضات) تتوقف على مبادئ ومقدمات يقدر على الإتيان بها كل من يحصل له العلم بها والاطلاع عليها.


    وفي الحقيقة أن الأمارة والعلامة التي يمكن أن تكون معينة على الفهم، عبارة عن أن المعجزة لا تكون محدودة من جهة الزمان والمكان، وكذا من سائر الجهات كالآلات ونحوها، حيث إن أصلها القدرة الأزلية العامة غير المحدودة بشيء، وهذا بخلاف مثل السحر والأعمال التي هي نتائج الرياضات؛ فإنها لا محالة محدودة من جهة من الجهات ولا يمكن التعدي عن تلك الجهة، فالرياضة التي نتيجتها التصرف في المتحرك وإمكانه مثلا لا يمكن أن تتحقق من غير طريق تلك الآلة، وهكذا، فالمحدودية علامة عدم الإعجاز.


    هذا فضلا عن أن الأغراض الباعثة على الإتيان مختلفة، بداهة أن النبي الواقعي لا يكون له غرض إلا ما يتعلق بالأمور المعنوية ، والجهات النفسانية ، والسير بالناس في المسير الكمالي المتكفل لسعادتهم.


    وأما النبي الكاذب فلا تكون استفادته من المعجزة إلا الجهات الراجعة إلى شخصه من الأمور المادية ، كالشهرة والجاه والمال وأشباهها ، فكيفية الاستفادة من المعجزة من علائم كونها معجزة، أم لا ، كما هو واضح.


الخامس: أن يكون الإتيان بذلك الأمر مقرونا بالتحدي الراجع إلى دعوة الناس إلى الإتيان بمثله إن استطاعوا ، ليُعلم بذلك أمران:


أولا: غرض المدعي الآتي بالمعجزة ، وأن الغاية المقصودة من الإتيان بها تعجيز الناس، وإثبات عجزهم من طريق لا يمكنهم التخلص عنه، ولا الإشكال عليه.


وثانيا: أن عدم الإتيان بمثله ليس معناه عدم تحديهم للإتيان، وعدم ورودهم في هذا الوادي، وإلا فكان من الممكن الإتيان بمثله؛ لأن التحدي الراجع إلى تعجيز الناس الذي يترتب عليه أحكام وآثار عظيمة من لزوم الإطاعة للمدعي، وتصديق ما يدعيه، ويأتي به من القوانين والحدود، والتسليم في مقابلها، هذا التحدي يوجب - بحسب الطبع البشري والجبلة الإنسانية - تحريكهم إلى الإتيان بمثله لئلا يسجل عجزهم ويثبت تصورهم.


وعليه: فالعجز عقيب التحدي لا ينطبق عليه عنوان غير نفس هذا العنوان، ولا يقبل محملا غير ذلك، ولا يمكن أن يتلبس بلباس آخر، ولا تعقل موازاته بالأغراض الفاسدة، والعناد والتعصب القبيح.


السادس: أن يكون سالما عن المعارضة؛ ضرورة أنه مع الابتلاء بالمعارضة بالمثل، لا وجه لدلالته على صدق المدعى ولزوم التصديق؛ لأنه إن كان المعارِض - بالكسر - قد حصّل القدرة من طريق السحر والرياضة مثلا، فذلك کاشف عن كون المعارَض - بالفتح - قد أتى بما هو خارق للعادة والناموس الطبيعي، وإن كان المعارِض قد أقدره الله - تبارك وتعالى - على ذلك لإبطال دعوى المدّعي، فلا يبقى حينئذ وجه لدلالة معجزه على صدقه أصلا.


والخلاصة: مع الابتلاء بالمعارضة يُعلم كذب المدّعي في دعواه للنبوة:

-       إما لأجل عدم كون معجزته خارقة للعادة الطبيعية.

-       وإما لأجل إقدار المعارض إبطال دعواه، فإذا لم يسلم من المعارضة بطلت دعواه، إذ لا يتصور غير هذين الفرضين فرض ثالث أصلا، كما هو واضح.


السابع: لزوم التطبيق؛ بمعنى أن الأمر الخارق للعادة، - الذي يأتي به المدّعي للنبوة والسفارة - وقوعه بیده بمقتضى إرادته وغرضه؛ بمعنى تطابق قوله وعمله، فإذا تخالف لا يتحقق الإعجاز بحسب الاصطلاح.


    ومثال ذلك كما حكي، أن مسيلمة الكذاب تفل في بئر قليلة الماء ليكثر ماؤها ، فغار جميع ما فيها من الماء، وأنه أمرّ يده على رؤوس صبيان بني حنيفة وحنكهم، فأصاب القرع كل صبي مسح رأسه ، ولثغ كل صبي حنكه .


    وإن صح التعبير يمكن تسمية هذه الظاهرة بـ (المعجزة الدالة على الكذب)؛ لأنه أجرى الله تعالى هذا الأمر بيده لإبطال دعواه ، وإثبات كذبه، وهداية الناس إلى ذلك.

    بقي تساؤل بشأن حقيقة المعجزة، وهو:

-       أن الإعجاز هل هو تصرّف في قانون الأسباب والمسببات العادية، وراجع إلى تخصيص مثل: ( أبى الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب)؟


-       أو أنه لا يرجع إلى التصرف في ذلك القانون، ولا يستلزم التخصيص في مثل تلك العبارة الآبية بظاهرها عن التخصيص، بل التصرف إنما هو من جهة الزمان، وإلغاء التدريج والتدرج بحسبه؟ فيرجع الإعجاز في مثل جعل الشجر اليابس خضر - في الفصل الذي لا يقع فيه هذا التبدل والتغير عادة من الفصول الأربعة السنوية - إلى تحصيل ما يحتاج إليه الشجر في الاخضرار من حرارة الشمس والهواء والماء، وما يستفيده من الأرض في آن واحد، لا إلى استغنائه عن ذلك مباشرة؟


    الجواب: بحسب الظاهر هو الوجه الثاني، أي ان التصرّف يكون من جهة الزمان، وإلغاء التدريج والتدرج بحسب الزمان، وليس تصرّفا في قانون الأسباب والمسببات العادية.

 

د. نهضة الشريفي

 

المصدر:

كتاب مدخل التفسير

للشيخ محمد الفاضل اللنكراني

صفحة 13 – 19

مقتبس بتصرف، مع إضافة شروحات

وتوضيحات على بعض النصوص


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات