حقيقة الصراط المستقيم
ما هي حقيقة الصراط المستقيم؟ ما فلسفة وجوده؟ وما ضرورته في كينونة الواقع الإنساني؟
تطرقنا في بحوث سابقة الى مفهوم الصراط المستقيم،
وشرحنا الأسلوب القرآني في وصفه للصراط، ووقفنا عند مباحث متنوعة حول الصراط
وماهيته.
وفي هذا
البحث سوف نبسط القول في حقيقة الصراط المستقيم وفلسفته عبر المطالب الآتية:
أولا: هل الآخرة امتداد للدنيا؟
هل يتبادر الى ذهنك أن الآخرة تُخلق وتنشأ وتتكون
بعد انتهاء الدنيا؟ وأن الصراط بعدُ لم يّخلق، وسيخلقه الله في يوم القيامة ليجوز
عليه الناس؟ كلا، الأمر ليس هكذا، فالآخرة لا تأتي بعد انتهاء الحياة الدنيا، ولا
هي امتداد للدنيا، وانما هي باطن الدنيا ] يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[([1]).
فاذا اراد الله ان يفتح عين قلبك سترى باطن
الدنيا، فاذا رأيت باطن الدنيا سيمكنك ان ترى كيف تصنع صراطك بنفسك كل يوم، بعلمك،
بعملك، ويمكنك أن تعرف قدر الدنيا وتتكلم بهذه الحِكم كما جرت على لسان أمير
المؤمنين عليّ عليه السلام: ((الدنيا حيّة ليّن مسّها قاتل سمّها))، هل تتصور ان
هذه مجازات وكنايات؟ لا ، بل هذه هي حقيقة الدنيا، لأن أمير المؤمنين عليه السلام
وصل الى باطن الدنيا.
ثانيا: الصراط علم وعمل
قال الفيض
الكاشاني: معرفة الصراط إنّما يتحصّل بالعلم والعمل شيئاً فشيئاً بحسب الاستكمالات
العقليّة بمتابعة السُنن النبويّة والاهتداء بُهداه صلی الله عليه وآله ، فالصراط
بهذا المعنى: عبارة عن العلوم الحقّة والأعمال الصالحة، وبالجملة ما يشتمل عليه
الشرع، ومجموع هذه المعارف الموجودة في الدِّين تمثِّل الصراط المستقيم.
روي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه
قال: (( أما المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء، فتفتح لهم أبوابها، وأما
الكافر فيصعد بعمله وروحه، حتى إذا بلغ إلى السماء، نادى مناد : اهبطوا به إلى سجين))،
وهو واد بحضرموت، يقال له برهوت. وقيل: لا تفتح لهم أبواب السماء لدخول الجنة، لأن
الجنة في السماء.
فإن
كان الإنسان هنا في هذه الدنيا يعلم ويعمل بتكلّف، ففي الآخرة هناك يجوز الصراط
بتكلّف، أما إن كان هنا يعلم ويعمل لأنه متوافق مع طبعه، بل يرتاح لذلك، فيجوز
الصراط كالبرق الخاطف، فانظر هنا كيف عملك تعرف كيف تجوز الصراط يوم القيامة؛ لان
يوم القيامة آثارها هنا، فالدنيا مزرعة الآخرة.
اذن الصراط المستقيم هو الذي تصنعه كل يوم،
بكل اعمالك وكل فكرك وكل حركاتك وسكناتك، في كل شيء انت تبني حجرا حجرا وقطعة قطعة
من هذا الصراط المستقيم، فانظر ماذا تبني لنفسك، واذا ذهبت هناك وقدموا لك الضريع
فاعلم انه لم يصنعه احد لك، وانما انت الذي قدمته لنفسك، انت الذي صنعته وهيأته
لنفسك.
ثالثا: المصداق الأتم للصراط المستقيم
إن الصراط المستقيم ليس خطّا او حبلا ممدودا على نار جهنم في يوم القيامة، كما يتصوره بعض الناس، بل المقصود به هذا الحبل الذي انت توجده بمعارفك وبأعمالك، فلو جاء موجود وطبّق هذه المعارف، عرف العلوم كما ينبغي، وعمل بالدين كما ينبغي، فسوف يصير هو الصراط المستقيم؛ لأن الصراط المستقيم هو هذه المعارف وهذه الشريعة، في المعارف يعني توحيد ونبوة ومعاد ، وفي الأعمال من نحو صلاة وصوم وحج.
وبما ان الصراط المستقيم هو علم وعمل، فإن الإنسان
قد يعمل عملا فيكون صاحب الصراط، فإذا تمكّن منه ذلك العمل فيكون هو الصراط، وليس صاحب الصراط فحسب.
كلّ ما تقدم من الكلام يمثل البعد النظري لمفهوم
الصراط المستقيم، أما البعد العملي والمصداق الخارجي فقد وضع الله تعالى لنا
الإنسان الكامل الذي تجسد عندنا في مقام الرسالة وفي مقام الولاية، في اشخاص مشخّصين،
فهؤلاء هم الصراط المستقيم بالوجود الخارجي، فبمقدار ما يوجد فيك من علمهم وعملهم
فأنت مقترب الى منبع الحقيقة والى الصراط المستقيم، وبمقدار ما انت مبتعد عنهم
علما وعملا فانت مبتعد عن الصراط المستقيم وعن الحق سبحانه وتعالى.
عن العياشي في الرواية أن الصراط المستقيم هو
الإمام علي عليه السلام، وهذا ليس مجازا بل حقيقة، لأن علمه وعمله تمكّن منه واتّحد
فيه بنحو صار هو والصراط شيء واحد.
وعن المفضل بن عمر، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الصراط، قال: ((هو
الطريق إلى معرفة الله عز وجل، وهما صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة،
فأمّا الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفروض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى
بهداه، مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت
قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّى في نار جهنم)).
بمقدار
ما يعمل الإنسان بهذه العلوم، وبمقدار ما يتعلم من المعارف الإلهية وتتمكن فيه
وبمقدار ما يعمل بالأحكام الشرعية وتتمكن منه، هذا سوف يظهر له يوم القيامة.
ومن هنا يمكن القول بأن الامام علي عليه
السلام هو المصداق الأتم للصراط المستقيم، وهناك روايات بينت ان الصراط المستقيم
هو ميزان الأعمال، فإن أردت ان تعرف ان اعمالك مقبولة او غير مقبولة، وتؤدي الكمال
او لا تؤدي، انظر وقس بين عملك وبين عمله عليه السلام، فإن كان هو هو فأنت على نفس
الطريق، وإلا فأنت ناكب عن الطريق ومنحرف عنه، وهذا يختلف باختلاف السالكين
والمتعبدين.
رابعا: ما هي فلسفة الصراط المستقيم؟
من خلال ما ذكرنا في المطالب السابقة اتضح
لنا ان الصراط المستقيم واحد والسبل متعددة، فالسبل تختلف من شخص الى اخر، اما
الصراط المستقيم فلا يختلف من انسان الى اخر، ولكن لماذا هو واحد في قبال تعدد
السبل؟
الانسان بطبيعة خلقته خُلق ليكون متحركا،
مسافرا الى الله، فإذا كان مسافرا فهناك حركة، والحركة فيها مبدأ وفيها منتهى،
وأقرب طريق بين المبدأ والمنتهى هو الخط المستقيم، ولا يمكن الا ان يكون طريقا
واحدا فلا يتعدد، ولكن الناس قد يقعون على ذلك الطريق وقد ينحرفون يمينا ويسارا،
فمقدار انحرافهم الى اليمين واليسار هو مقدار ابتعادهم عن الصراط المستقيم.
هذه المسافة الناتجة عن حركة الإنسان نعبر
عنها فلسفيا بأنها المسافة التي يوجدها المتحرك في حركته، فإن كانت في الكمّ
نسميها حركة في مقولة الكمّ، وان كانت في الكيف نسميها حركة في مقولة الكيف، وان
كانت في الجوهر نسميها حركة في مقولة الجوهر، وهي غير المسافة التي تتبادر الى
اذهاننا في العرف.
أما ما معنى حركة جوهرية؟ فمعناها انت بحركتك
توجد هذه الصور الجوهرية الواحدة تلو الأخرى.
اذن الصراط المستقيم هو صراط واحد جامع لكل
الكمالات علما وعملا، بخلاف السبل فإنها متعددة واجدة لبعض الكمالات وفاقدة للبعض
الآخر.
الدكتورة نهضة الشريفي
المصادر:
1) حقيقة الصراط يوم القيامة - محاضرة صوتية للسيد كمال الحيدري
2) علم اليقين - الفيض الكاشاني
3) الصراط - موقع ويكي شيعة
4) الإمام علي(ع) هو الصراط المستقيم وهو ميزان الأعمال - محاضرة صوتية للسيد كمال الحيدري
حول الموضوع انظر أيضا:
تعليقات
إرسال تعليق