القائمة الرئيسية

الصفحات

 

انقلبوا على اعقابهم يوم أحُد

      

انقلبوا على اعقابهم يوم أحُد

    من سنن الله الثابتة على البشر أنهم يموتون، وينتقلون الى حياة برزخية، ونبينا العظيم يموت أيضا، فهو بشر مثلنا ]قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ[([1]).. فيا للعجب كل العجب من هؤلاء المتخاذلون ضعاف الإيمان كيف انقلبوا على اعقابهم يوم أحُد؟ كيف تخلّوا عن نبيهم بهذه البساطة بل السذاجة، المؤمن حق الإيمان يتبرأ من فعالهم، والقرآن يستنكر انقلابهم.


    قال تعالى في كتابه العزيز: ]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ[([2]).

    سنقف قليلا عند هذه الآية، ونبتدئ بسبب نزولها:


سبب نزول الآية الكريمة:

    هذه الآية الكريمة نزلت في معركة أحُد, وورد في سبب نزولها، عن ابن كثير: لما انهزم من انهزم من المسلمين، وقُتل من قُتل منهم، نادى الشيطان: ألا إن محمدا قد قُتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم : قتلتُ محمدا .


    وإنما كان ابن قميئة قد ضرب رسول الله ص، فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله قد قتل، فحصل وهن وضعف وتأخر عن القتال، ففي ذلك أنزل الله تعالى]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ[ أي: له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه.


    وذكر ابن كثير عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحّط بدمه، فقال له: يا فلان أشعرت أن محمدا ص قد قُتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد ص قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل ]وما محمّد .. الآية.


    ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف وجبن أثناء المعركة ]أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[ أي: رجعتم القهقرى ]وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ[ أي سيجزي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه، واتبعوا رسوله حيا وميتا.


انقلبتم على أعقابكم

    عن ابن قيم الجوزية: 

    نزلت هذه الآية في واقعة أُحُدٍ، وكانت مُقَدِّمَةً، وإرهاصاً، وتثبيتا لفكرة موتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله، فوبَّخهم على انقلابهم على أعقابهم إنْ ماتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله، أو قُتِلَ، بل الواجبُ له عليهم أن يثبتُوا على دِينه، وتوحِيدهِ، ويموتوا عليه، أو يُقتلُوا، فإنهم إنما يعبدُون ربَّ محمد، وهو حيٌّ لا يموت، فلو ماتَ محمد أو قُتِلَ: لا ينبغي لهم أن يَصْرِفَهم ذلِكَ عن دينه، وما جاء به، فكلُّ نفسٍ ذائِقةُ الموت، ولم يبعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله لِيخلَّد، لا هُوَ، ولا هُم، بل لِيمُوتُوا على الإسلامِ، والتَّوحيدِ، فإن الموت لا بُدَّ منه، سواء ماتَ الرسول أو بَقِي.


    ولهذا وبَّخَهُم على رجوع مَن رجع منهم عن دينه لما صرخ الشَّيْطَانُ : إنَّ محمَّداً قد قُتِلَ، فقال: ]وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ[، فظهر أثرُ هذا العِتَابِ ، وحكمُ هذا الخطاب يومَ مات رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وارتدَّ مَن ارتدَّ على عقبيه ، وثبت الشاكِرُون على دينهم ، فنصرهم الله ، وأعزَّهم ، وظفَّرهم بأعدائهم ، وجعل العاقبة لهم .



    جاء في تفسير الميزان: حين فشا في الناس يوم أحُد أن رسول الله ص قد قتل، قال بعضهم: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن اُبَي فيأخذ لنا أمانا من أبى سفيان، يا قوم ان محمدا قُتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلونكم، فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن ربّ محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرء إليك مما جاء به هؤلاء، فشد بسيفه فقاتل حتى قُتل، فأنزل الله تعالى ]وما محمد إلا رسول.. الآية.


    وقيل عندما اعتُدي على النبيّ(ص) في معركة أحد، فشُجَّت جبهته وكُسرت رباعيّته، وصاح صائح: " لقد قُتل محمّد "، واهتزّ بعض ضعاف الإيمان من المسلمين وقالوا: " اذهبوا بنا إلى أبي سفيان لنكون معه "، وقال آخرون: " إن كان محمد قد مات فإنّ ربّ محمد لم يمت، فتعالوا نقاتل على ما قاتل عليه "، فنزلت هذه الآية، لتؤكّد للمسلمين حقيقة، وهي أن النبي(ص)، وإن كان قائداً للمسلمين، ليس له الخلد في هذه الحياة الدنيا، وهذا ما قررته الآيات الكريمة: ]إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ[([3]) ]وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ[([4]). 

 

    وعن الفخر الرازي في معنى الآية الكريمة ]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ[ أن الرسول سيخلو كما خلا الرسل، وكما أن أتباعهم ظلّوا متمسكين بدينهم بعد خلوّ الرسل، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوّ رسولكم، لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة، لا تواجدهم بين أظهر قومهم.


    وورد في تفسير الطبري: عن قتادة: ذاكم يوم أحد ، حين أصابهم القرح والقتل ، ثم تناعوا رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال أناس : " لو كان نبيا ما قتل "! وقال آخرون من عِلية أصحاب النبي صلى الله عليه وآله : " قاتلوا على ما قاتل عليه محمد نبيكم حتى يفتح الله لكم أو تلحقوا به "! فقال الله عز وجل : ]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ...[ ، يعني: إن مات نبيكم أو قتل، ارتددتم كفارا بعد إيمانكم؟!!!


الله يجزي الشاكرين

    الشكر هو الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، والثناء على المنعم بذكر إنعامه، وتوطين القلب على محبته، والجوارح على طاعته، ولهج اللسان بذكره.

    والشكر نصف الدين، والصبر نصفه الآخر، والشاكرون: هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها، حتى ماتوا أو قُتِلُوا .


    قال الطباطبائي في ميزانه نقلا عن كتاب الكافي، عن الباقر عليه السلام أنه أصاب عليّا عليه السلام يوم أحد ستون جراحة، وأن النبي ص أمر أم سليم وأم عطية أن تداوياه، فقالتا إنّا لا نعالج منه مكانا إلا انفتق مكان، وقد خفنا عليه، ودخل رسول الله ص والمسلمون يعودنه وهو قرحة واحدة، وجعل يمسحه بيده ويقول: إن رجلا لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر.


    فكان القرح الذي يمسحه رسول الله ص يلتئم، فقال عليّ عليه السلام: الحمد لله إذ لم أفر ولم أولّ الدُبر، فشكر الله له ثباته في المعركة في موضعين من القرآن الكريم في سورة آل عمران، وهي الآية الكريمة ]وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ[([5]) والآية الكريمة ]وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ[([6]).

 

الدكتورة نهضة الشريفي



([1]) سورة الكهف: 110 –  سورة فصلت: 6

([2]) سورة آل عمران: 144

([3]) سورة الزمر: 30

([4]) سورة الأنبياء: 34

([5]) سورة آل عمران: 144

([6]) سورة آل عمران: 145


المصادر:

1.   تفسير القرآن العظيم – ابن كثير

2.   بدائع التفسير - ابن قيم الجوزية

3.   الميزان – الطباطبائي

4.   مفاتيح الغيب – الفخر الرازي

5.   جامع البيان - الطبري

         

         حول وصايا النبي ص انظر:

               من وصايا النبي محمد ص قبل رحيله

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات