القائمة الرئيسية

الصفحات

الظاهرة القرآنية في منظور الجابري - الجزء الثاني

الظاهرة القرآنية في منظور الجابري -  الجزء الثاني


الظاهرة القرآنية في منظور الجابري


الجزء الثاني

    تناول المفكر المغربي محمد عابد الجابري مصطلح الظاهرة القرآنية بشيء من التفصيل والشرح والتحليل ، وأسبغ على دلالتها طابع الشمولية، ودمجها مع النتاج البشري، وقد بينا ذلك في الجزء الأول، وسوف نتطرق في هذا الجزء الى بيان أبعاد الظاهرة القرآنية من وجهة نظر الجابري، مع مناقشتها.

تحديد أبعاد الظاهرة القرآنية:

     لدى وقوف الجابري عند تعريف القرآن الكريم عبر الآيات الكريمات : )وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ(([1]) صار متاحا له التمييز في هذه الآيات بين بدايتين :

(بداية زمانية تاريخية تشير اليها الآية) ...بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ( , وبداية أزلية لازمانية تشير اليها الآية )...وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ( .

    والزبر هي الكتب السماوية السابقة ونحن لا نستطيع ان نحدد بداية هذه الكتب لأننا لا نعلم بالتحديد عدد الرسل)([2]), وذلك بإقرار القران الكريم نفسه إذ يخاطب النبي محمدا9: )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ(([3]).

   وافاد من هذه الآيات الكريمات إمكانية تحديد ثلاثة أبعاد في الظاهرة القرآنية, وهي([4]) :

·       بُعد لازمني متمثل في علاقتها بالرسالات السماوية .
·       بعد روحي متمثل في معاناة النبي محمد9 لتجربة تلقي الوحي .
·       بعد اجتماعي دعوي متمثل في قيام النبي9 بتبليغ الرسالة وما ترتب على ذلك من ردود الفعل .

الظاهرة القرآنية ودلائل النبوة:

    إن البحث في هذه الأبعاد ليس أمرا مستحدثا – برأي الجابري - فقد دأب العلماء قديما على دراستها والكلام فيها , ولكن باصطلاح آخر خاص بعلم الكلام , هو: (دلائل النبوة...وهذا الاصطلاح يتقاطع مضمونه مع كثير من المسائل التي تندرج في الظاهرة القرآنية , ومع ذلك فمفهوم الظاهرة القرآنية أوسع , وهو أيضا معاصر لنا بقدر ما كان المصطلح الآخر معاصرا للقدماء)([5]).

    وهذه السعة والشمولية منشؤها إمكان توظيف مفهوم "الظاهرة" , فإن هذا المفهوم في اصطلاح عصرنا يغطي مجالات عدة, لأنه (يوظف كمفهوم إجرائي, فنحن نتحدث عن الظاهرة الطبيعية والظاهرة الاجتماعية ووو... فإذا أردنا أن نستحضر في أذهاننا علاقة القرآن بهذه الظواهر مثلا, فإن مفهوم الظاهرة القرآنية يفي بالغرض, غرضنا المعاصر لنا, أكثر مما يفي به مفهوم دلائل النبوة)([6])

وكلامه هذا يعني ان مجالات الظاهرة القرآنية تستوعب سيلا من الأبعاد , فلماذا اقتصر على ثلاث ؟!!



مناقشة كلام الجابري:

    ينبغي التوقف قليلا عند تحديد الجابري لأبعاد الظاهرة القرآنية, فمن الواضح أن هذا التحديد تبدو عليه سمات التضيّق والانغلاق, فإن ما يؤول اليه التأمل والتبصر يفضي الى ان مديات الظاهرة القرآنية منفتحة ومتسعة , فالبعد اللازمني يمتد إلى الآفاق الميتافيزيقية اللامتناهية بلحاظ المصدرية اللامتناهية المهيمنة, وعالم الآخرة بسعته يندرج ضمن البعد اللازمني.

    ثم ان الماضي المندرس والرسالات السماوية تخضع للزمان والمكان وقوانين الحياة الدنيا لأنها أحداث حصلت على وجه البسيطة , الا انها بلحاظ الحاضر تندرج ضمن الغيوب الزمنية الدنيوية , ومن غير المعقول ادراجها ضمن البعد اللازمني .

    إن أبعاد الظاهرة القرآنية متكثرة بتكثر موضوعات القرآن الكريم, والموضوعات متجددة بحسب مقتضيات كل عصر, وبالتالي فلا معنى لحصرها .

    أما البعد الروحي والاجتماعي فيبدو إن الجابري كان ناظرا الى مسار الرسالات السماوية منذ بداية الخليقة , ومتتبعا هذا المسار حتى وصل الى الرسالة الخاتمة وحركة النبي التواصلية في الوساطة بين السماء والأرض , بين الملك جبريلC وأمة محمد9 , ومسار تبليغ دعوته الى قومه .

    والظاهر ان تضييق الأبعاد من الجابري بهذا المنظار كان يقصد به توصيف الظاهرة القرآنية من منظور خارجي لا من الداخل , فقد ابتدأ بالعلاقة بين القرآن والرسالات السماوية من جهة المصدر الإلهي ومن جهة الهدف والغاية المتوخاة من ارسالها وهي اثبات التوحيد الإلهي.

    وثنى بوصف العلاقة الروحية بين الرسول المَلَك والرسول البشر المتمثلة في كيفية تلقي النبي9 للوحي الإلهي , اما الأخير فهو متعلق بأمة محمد9 وكيفية ايصال رسالة الله اليهم , وجميعها امور خارجية عن المحتوى الداخلي التفصيلي للظاهرة القرآنية .

اهتمام العلماء بأبعاد الظاهرة القرآنية:

    كان الأحرى بالجابري وهو يتحدث عن الظاهرة القرآنية ان يتحرى الأبعاد القرآنية الأخرى كالبعد العقائدي, والأخلاقي, والتشريعي, والاقتصادي , والعلمي , والسنن الكونية , والبعد الأنفسي والآفاقي, وغيرها من الأبعاد القرآنية التي تتوالد وتتجدد بتوالد الموضوعات وتجددها , والتي تناولها كثير من علمائنا , منهم:
  • محمد الغزالي وسماها محاور القرآن([7]).
  • الطاهر بن عاشور وسماها مقاصد القرآن([8]).
  • الشاطبي وله مقاصد الشريعة.
  • وهي تفضي كلها الى إضاءة الأبعاد القرآنية والتعمق في مدياتها.


   ومن العلماء المعاصرين الذين توقفوا عند رصد البعد النفسي للظاهرة القرآنية الدكتور محمد حسين الصغير, إذ يقول:

  (لابد لنا من رصد هذه الظاهرة القرآنية لموقعها المتميز, من غير استقصاء لأبعادها...وإنما من بعدها النفسي ومسايرتها للكون ومظاهره فحسب... والذي يستوقفنا فيهدينا من تشبيهات القرآن الكريم غورها في أعماق النفس الإنسانية, وسبرها لمظاهر الكون والطبيعة, واستقطابها لملامح الحس والإدراك البصري والسمعي, وسبك ذلك كله في صياغة موحدة تنظر الى هداية الإنسان وتهيئة ذهنه بما يحس أمامه وبين يديه, وما يدركه واعيا في حياته العامة)([9]).

   وقوله " من غير استقصاء لأبعادها" يومئ بوضوح الى اللامحدودية في الأبعاد الزمنية واللازمنية للظاهرة القرآنية.

    ورصد الدكتور الصغير أيضا البعد الصوتي والإيقاعي في الظاهرة القرآنية, إذ يقول (ولا شك أن استقلالية أي كلمة بحروف معينة, يكسبها صوتيا ذائقة سمعية منفردة, تختلف دون شك عما سواها من الكلمات التي تؤدي المعنى نفسه, مما يجعل كلمة ما دون كلمة, وإن اتحدا بالمعنى, لها استقلاليتها الصوتية, إما في الصدى المؤثر, وإما في البعد الصوتي الخاص, وإما بتكثيف المعنى بزيادة المبنى..)([10]) .

الدكتورة نهضة الشريفي

الهوامش:



([1]) سورة الشعراء : 192 - 196
([2]) مدخل الى القرآن : 23
([3]) سورة غافر : 78
([4]) ظ مدخل الى القران : 24
([5]) م . ن : 24
([6]) م . ن : 25
([7]) ظ المحاور الخمسة للقرآن الكريم , محمد الغزالي, دار الشروق : 21 وما بعدها
([8]) ظ التحرير والتنوير , محمد الطاهر بن عاشور , الدار التونسية , 1984م: 1/ 40
([9]) دلالة الألفاظ في القرآن العظيم بين الحداثة والتراث , الدكتور محمد حسين الصغير, أستاذ الدراسات القرآنية بجامعة الكوفة, مركز كربلاء للدراسة والبحوث , ط1 , 1437هـ - 2016م : 239
([10]) الصوت اللغوي في القرآن , الدكتور محمد حسين الصغير , دار المؤرخ العربي , بيروت/ لبنان , ط1 , 1420هـ - 2000م : 164

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات