القائمة الرئيسية

الصفحات



الوحي القرآني عند المستشرقين

الوحي القرآني عند المستشرقين

    لطالما حاول المستشرقون – منذ القدم وحتى اليوم - التشكيك في مصدر الوحي القرآني, وتثبيت الأصل البشري للقرآن الكريم، عبر إرجاعه الى عناصر خارجية ضمن نسقين([1]) :
         
الأول: تأثيرات المسيحية واليهودية وعوائد العرب ووثنياتهم المنتشرة آنذاك في أنحاء الجزيرة .

الثاني : توظيف الألفاظ المستعربة لإثبات الاقتباس من لغات أخرى كالسريانية, وخلق دلالات جديدة لم يفهمها العربي المعاصر للدعوة ولا الصحابة .

 أولا: مونتغمري واط

    إن ما توصل اليه المستشرق الانجليزي " مونتغمري واط"* لم يخرج عن نطاق ما توصل اليه أقرانه الذين كانوا يقصرون معنى الوحي على حديث النفس للنفس زاعمين أن مصدره اللاوعي الجماعي, وبأن ذلك مصدر كل وحي ديني.

   ومن هنا فقد عمد واط الى بث التشكيك في ظاهرة الوحي, بتأوّله آيات سورتي النجم والتكوير([2]) المتعلقة بعملية إلقاء الوحي القرآني على قلب رسول الله(ص), وخلص الى ان عدم ذكر اسم الملك المذكور في الآية يدعو الى التشكيك في حقيقة رؤية الرسول له, ثم طفق يناقش المعنى اللغوي لكلمة أوحى وانها تعني اقترح([3]).

    إن ما خلص إليه واط من استنتاج لا يستقيم ولا ينسجم مع مئات الآيات المختصة بالوحي, وهذه في الواقع مغالطة غير مبنية على أسس علمية, تتعثر كلما واجهت سياقا قرآنيا يتعلق بنزول الوحي القرآني.

   أما بشأن الملَك فإن القرآن الكريم ذكر اسم جبريل(ع) صريحا في ثلاثة مواضع**, ونعته بالروح الأمين في الآية الكريمة ]نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ[([4]), وغير ذلك من النعوت والتسميات الروحانية .

ثانيا: إميل درمنغام

    نحن نجد - على وجه العموم - كثيرا من المستشرقين إن لم ينكروا المصدر الإلهي للقرآن الكريم علانية فإنهم يشككون في محتواه, وانعدام الترتيب والانسجام بين آياته الكريمة, يظهر ذلك جليّا في كلام المستشرق الفرنسي درمنغام***، إذ يقول:

    (أظهر ما في آي القرآن التي انتهت إلينا هو عدم الترتيب وعدم الارتباط , ولم تدون الكتب المقدسة على العموم, إلا بعد تبليغها بزمن طويل, أي حين يكون حفظها قد ضعف, وتكون رواياتها قد كثرت, وهذا هو أمر القرآن الذي اختير له نص رسمي بعد النبي بسبعين سنة فأتلف ما سواه)([5]) .

    ويمضي هذا المستشرق في تصريحاته حول ترتيب آي القرآن فيقول:
   (ولم يرتب القرآن ترتيبا منطقيا بل وضعت الآيات, التي وجدت, بعضها بجانب بعض, وفتح القرآن بأطول السور, وهي التي أنزلت بالمدينة على العموم, وختمت بأقصر السور, وهي التي أنزلت بمكة في أوائل الرسالة, وفي القرآن تكرار للآيات كثير, وفي القرآن حشر للآيات في غير موضعها غير قليل)([6]) .

    بإنعام النظر في هذا النص نلحظه يدلّل لأي متلقّ أن هذا المستشرق قد كتبه من دون رويّة, إذ لا يخفى أن إثبات إلهية أية جزئية قرآنية تؤول بالتالي إلى إثبات إلهيته بأجمعه, فوجود أي جزء من أجزاء الإنسان - مثلا – في موطن ما, يكون بالضرورة دالّا على وجود الإنسان في ذلك الموطن, وهذا ما يمكن تطبيقه ابتداءً على القرآن ومصدريته الإلهية ردّا على من قال بخلافها .

    والمستشرق عموما يتلقف الاخبار الضعيفة والمكذوبة ليبني عليها استنتاجاته, وغالبا ما نجده قد (استعان بكل خبر من الأخبار ظفر به ضعيفها وقويها, وتمسك بها كلها ولاسيما ما يلائم رأيه, لم يبال بالخبر الضعيف, بل قواه وسنده وعدّه حجة وبنى عليه حكمه...لأنه صاحب فكرة يريد إثباتها بأية طريقة كانت)([7]) .



ثالثا: تيودور نولدكه   

    من الأساليب الاستشراقية ممارسة البعد التحليلي النفسي المتمظهر بالمظهر العلمي , نلمس ذلك في معالجة المستشرق الألماني نولدكه**** لمسألة الوحي القرآني إذ يقول:

    (ليس من الممكن أن يكون القرآن كله قد نشأ في أرفع درجات الوجد, ثمة مراحل شتى تنتقل فيها النفس من الغيبوبة الى التأمل البسيط المقصود, ولم يستطع محمد في أثناء الثوران النفسي الشديد أن يستمع الى أجزاء كاملة من القرآن بل الى كلمات وأفكار مفردة)([8]) .

     ويمضي نولدكه في تحليله لما وصفه بالثوران النفسي ليخلص الى أن (من الطبيعي أن تؤثر قوة السكرة النبوية بشكل فعال على أسلوب الكاتب. حين ضعف الثوران النفسي الهائل مع مرور الزمن صارت السور أكثر هدوءا, كانت في البداية تحركها طاقة شعرية معينة, فأضحت لاحقا, وبشكل تدريجي, أقوال معلم ومشرع لا غير)([9]).

    وهذا الكلام يحتاج الى دليل ووعي ربما لم يتمكن نولدكه من امتلاكه لعدة أسباب, قد يكون أهمها عدم الوعي اللغوي الفعلي لمفاصل اللغة, وهي من أهم محطات فهم القرآن وتفسيره وإتقانه لما تشتمل عليه اللغة من دلالات وإيحاءات ورمزيات وشفرات وإيقاعات وأساليب وتراكيب وإحالات, وغيرها من الأمور الأخر, وهو ما ينقض قوله جملة وتفصيلا بأن القرآن تحول الى "أكثر هدوءا" فتحول الى "أقوال معلم ومشرع" .

    يقول الدكتور محمد حسين الصغير (إن فهم القرآن بدقائقه قد يتعسر أغلب الأحيان على جملة من المستشرقين, ويعود سبب ذلك الى عمق لغة القرآن, وسلسلة منابعه البلاغية, مما يجعل غير العربي مهما أوتي من مقدرة يتعثر أحيانا في الفهم الأصيل للنص الكريم)([10]) .

    إن كلام نولدكه المتقدم غير دقيق البتة, فآخر القرآن يوحي بمدلولات وبقراءات معمقة كأوله, بل يحمل الرسائل نفسها والتوجيهات نفسها بالحيثية المناسبة لكونه نصا معجزا يوضح أوله آخره وبالعكس, فهو منظومة متكاملة لغويا ومعرفيا وأداتيا, لا يتأتى لقراءتها إلا فاحص مدرك متمكن من عدة أدوات قد يصعب على نولدكه وأمثاله تملّكها, أنتجت جملة تفاسير قابلة للقراءة, وللتأويل, وللتفاعل, تأخذ ديمومتها من ديمومة القرآن واستمراريته , فهو صالح لكل زمان ومكان .

مغالطات بحثية حول الوحي:

    إن ما يمارسه المستشرقون من مغالطات بحثية حول أصل القرآن أو الوحي ليست من العلمية في شيء, فإن ميدان البحث العلمي ينبغي أن ينحصر في البعد البشري, (أما البعد الإلهي فلا يمكن استكشافه بالمنهج العلمي؛ لأنه أكبر من أن يحتويه منهج بشري, فهو مسألة تتجاوز العقل البشري, فلا يعثر العقل فيه على محددات دقيقة لانطلاق البحث...ولذلك يؤخذ مأخذ المسلّمات المصدّق بها بقرينة النبوة)([11]).

    إن الدعوة الإسلامية تحمل بعدا إلهيا وبعدا بشريا , والنبوة بوصفها ممارسة تاريخية في الميدان الاجتماعي, تكون خاضعة للسنن التاريخية والكونية, ومن هنا يمكن البحث في خصوص هذا البعد البشري وإخضاعه الى شروط المنهج العلمي بقطع النظر عن مصدره الإلهي([12]) .

الدكتورة نهضة الشريفي  

الهوامش:     

([1]) ظ الاستشراق والعبور الى التاريخانية , جعفر العلوي , مجلة البصائر - العدد (42) السنة 19 - 1429هـ/ 2008م : 105
* وليم مونتجمري واط مستشرق إنجليزي معاصر(1909- 2006م) عمل رئيساً لقسم الدراسات العربية والإسلامية بجامعة أدنبره في الفترة من 1947-1979 قام خلالها بتدريس الإسلام: عقيدة وتاريخاً وحضارة لعدة أجيال من الطلبة، وهو معروف بتعصبه ونزعاته التنصيرية ، أشهر مؤلفاته :" محمد في مكة " و "محمد في المدينة " و "محمد نبي ورجل دولة" . المصدر: ظ المستشرقون , نجيب العقيقي: 2/ 554
([2]) سورة النجم : 1-12 , سورة التكوير : 22- 28
([3]) السيرة النبوية في دائرة المعارف البريطانية , وليد بن بلهيش العمري : 24
** ورد ذكر اسم الملك جبريل(ع) في سورتي : البقرة 97 – 98 , والتحريم 4
([4]) سورة الشعراء : 193
*** إميل درمنغام مستشرق فرنسى، عمل مديراً لمكتبة الجزائر، من آثاره: (حياة محمد- 1929) وهو من ادق ما صنّفه مستشرق عن النبى(ص) ، و(محمد والسنة الاسلامية 1955)، ونشر عدداً من الابحاث في المجلات الشهيرة مثل: (المجلة الافريقية)، و(حوليات معهد الدراسات الشرقية)، و(نشرة الدراسات العربية), وغيرها . ينظر: معجم أسماء المستشرقين , يحيى مراد : 508
([5]) الشخصية المحمدية – السيرة والمسيرة , اميل درمنغام , ترجمة : عادل زعيتر , ط3 – 2005م : 263
([6]) م . ن : 263
([7]) تاريخ العرب في الإسلام ـ السيرة النبوية , جواد محمد علي العقيلي, 1969م , بيروت – لبنان : 118
**** تيودور نولدكه مستشرق ألماني (1836- 1930م) شغل مناصب علمية وإدارية عديدة , تعلم اللغات السامية والفارسية والتركية والسنسكريتية , اشتهر بمتانة الخلق وسعة المعرفة والتزامه في مصنفاته أسلوبا علميا صارما مبنيا على المنطق , من أشهر آثاره : أصل وتركيب سور القرآن , وهو رسالته التي توسع فيها فيما بعد , ثم أعاد النظر فيها وترجمها الى الألمانية ونشرها تحت عنوان : تاريخ النص القرآني . المصدر: ظ المستشرقون , نجيب العقيقي , دار المعارف , ط3 – 1964م , القاهرة : 2/ 738
([8]) تاريخ القران , نولدكه : 1/ 25
([9]) م . ن : 1/ 25
([10]) المستشرقون والدراسات القرآنية : 166
([11]) الاستشراق قراءة نقدية , صلاح الجابري : 177
([12]) ظ م . ن : 177
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات