القائمة الرئيسية

الصفحات





الحياة في المجتمع المكي


    من أجل الوقوف على طبيعة العلاقة بين الإنسان والقرآن في عصر الرسالة, في مجتمعٍ شملته عناية الله تعالى وشرّفته بكونه أول من شعّ في أرضه نور القرآن, لابد لنا من رسم صورة مجملة لهذا المجتمع وأجوائه المشحونة بالمتناقضات، بما يهيئ أذهاننا لكيفية تلقّيه وتقبّله للقرآن العظيم حين نزوله بين ظهرانيهم, ولتصور مدى قابلية هؤلاء الناس للاعتبار بقصص القرآن، وما نسبة تحمّل نفسياتهم الى إدراك معانيه السامية .

أولا: أول من سكن مكة

   تعدّ مكة المكرمة من أهم مدن الحجاز منذ العصرالجاهلي ، وتقع بواد غير ذي زرع ، تحف بها الجبال السود ، وقد اكتسبت هذه الأهمية لتمحورها حول أعظم معابد العرب (الكعبة المشرّفة)، يتوافد إليها الحجيج كل عام من مختلف أنحاء شبه الجزيرة ، وتمحورت أيضا حول ماء (زمزم) المبارك فأضحت محط القوافل ومرتعها .

   تشرفت مكة بتسميتها ــــــ ضمن تسميات متعددة ــــــ بالبيت الحرام الذي جعله الله تعالى قبلة للمسلمين، وقد روي أنه شيد قبل آدم(ع)([1])، أما الذي أشاد بناؤه وأقامه مركزا لعبادة الله تعالى فهو شيخ الأنبياء إبراهيم(ع) مع ولده نبي الله إسماعيل(ع) .

   أول من سكن مكة واتخذها مقرا ومأوى المرأة الصالحة الزكية هاجر زوج النبي إبراهيم(ع) وأم النبي إسماعيل(ع)، ثم جعل الله تعالى أفئدة من الناس تهوي إليهما وتقيم في هذه الأرض المقدسة .
 وكانت قبائل (جرهم) أول من جاورهم وأقام بين ظهرانيهم، حيث أمسكت بشؤون مكة وولاية البيت الحرام بعد وفاة نبي الله إسماعيل(ع) وولده نابت، ثم نزحت قبيلة (خزاعة) الى مكة أيام (جرهم) وانتزعت منها إمارة البيت، واستمرت زهاء ثلاثمائة سنة ونيف وهي تحكم مكة وتتولى شؤون البيت الحرام,  الى أن داهمتهم قبائل قريش فانتزعت منهم مكة بعد حرب نشبت بينهما ، فصارت ولاية البيت وإمارة مكة بيد القرشيين حتى قام الإسلام([2]) .

ثانيا: الانتقال من البدو الى الحضر  

    كانت مكة في الجاهلية مدينة تجارية عظيمة, نسبة الى ما حولها من المدن العربية آنذاك, ومسرحا لنشاط تجاري فعال، إذ انتظمت لقريش رحلتان للتجارة في كل سنة, وبدأت الحياة البدوية فيها تنحسر شيئا فشيئا، وتحل محلها الحياة التجارية والمصالح الشخصية، وهذا الأمر أخل بالتضامن والتماسك الاجتماعي الى حد ما، وكانت العصبية القبلية مستحكمة في نفوسهم مما أضعف الروح العسكري، فأخذ أهلها يستخدمون الأحباش والأعراب لحماية قوافلهم التجارية([3])

    وظهر التمييز الطبقي وبدا الفرق شاسعا بين ثراء السيد الشريف وفقر المعوز البائس، وانتشرت فيها طبقة الرقيق ومجموعة الصعاليك، وكانت القبيلة في العصر الجاهلي تتألف من طبقات ثلاث([4])

ـــــ أبناؤها، وهم الذين يربط بينهم الدم والنسب، وهم عمادها وقوامها .
  
ـــــ والعبيد ، وهم رقيقها المجلوب من البلاد الأجنبية المجاورة، ولاسيما الحبشة.
   
ـــــ والموالي، وهم عتقاؤها، ويدخل فيهم الخلعاء الذين خلعتهم قبائلهم ونفتهم لكثرة جرائرهم وجناياتهم فاستجاروا بقبيلة أخرى فأصبح لهم حق التوطّن فيها وواجب الوفاء  لها.



ثالثا: مثالب ومناقب المكيين   

·       المثالب:

    إن انحسار الحياة البدوية والنزوع الى حياة الحضر أدى الى تغيرات في نفوس القرشيين وسلوكهم، وهذا أمر طبيعي، فإن أي تغير في ظروف أي مجتمع يقتضي ــــ بديهيا ــــ ترتّب النواميس الموائمة له، وتكيّف الأمزجة بصورة تلقائية، وقد وصف ابن خلدون سكان الحضر بقوله:

   (وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه...حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم لا يصدهم عنه وازع الحشمة )([5]) .

    ثم ذكر أن أهل البدو( أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها فيسهل علاجهم عن علاج الحضر)([6]), ويبدو أن أهل مكة قد جمعوا بين طباع البدو ومتغيرات الحضر، فقد قيل إن (الغالب على أهل الحجاز الجفاء والعجرفية وخشونة الطبع . ومن سكن المدن منهم كأهل مكة والمدينة والطائف، فطباعهم قريبة من طباع أهل البادية بالمجاورة)([7]).

    وقد ظهرت بين القرشيين مثالب جمة من قبيل تعاطي الخمر واستباحة النساء والظهار والقمار والربا وقتل الأولاد خشية الإملاق، والدليل على شيوع هذه الآفات في عصر ما قبل الإسلام، الآيات الكثيرة التي تصدت لهذه المثالب في القرآن الكريم، وما وضعه الإسلام من عقاب صارم حتى يكف العرب عنها ، حيث وصفها بأنها رجس من عمل الشيطان .

·       المناقب: 

    على الرغم من كل ما ذكرنا من ممارساتهم الخاطئة وموبقاتهم الفادحة إلاّ أننا لا يمكننا التغاضي عن كثير من المناقب الحميدة والخلال الكريمة التي اتصف بها العربي في تلك الحقبة من التاريخ.

   والمقصود بهذه المناقب تلك النواميس الاجتماعية التي كانت رائجة بينهم قبل الإسلام (فإن عرب الجاهلية ــــ ولا سيما العرب المستعربة من نسل إسماعيل(ع) ــــ كانوا بالطبع أسخياء, يكرمون من استضافهم ولا يخونون أماناتهم إلا قليلا، ويرون نقض العهد ذنبا لا يغتفر, وكانوا صريحين في أقوالهم, أقوياء في حفظهم, أقوياء في فنون من الشعر والخطابة, يُضرب بهم المثل في شجاعتهم وجرأتهم, مهرة في ركوب الخيل والرمي, يرون الفرار من الزحف عارا لا يغتسل)([8]).

    وكانوا يثنون على المروءة ويمجّدون بالشجاعة (لكن مفهوم الشجاعة لديهم كان عبارة عن قتل أكبر عدد ممكن, وسفك الدماء أكثر فأكثر، وكذلك الغيرة كانت لديهم بمعنى وأد البنات في القبور وهن أحياء, ويرون الوفاء أن ينصروا عشيرتهم وحلفاءهم في كل شيء سواء كانوا على حق أم باطل)([9]) .

    أما ديانات العرب قبل الإسلام فهي متنوعة ومتكثرة، وأكثرها شيوعا هي الوثنية، فكيف تحول هذا المجتمع المليء بالمتناقضات من ظلمات الجاهلية الى نور الإسلام؟ هذا ما سوف نقف عليه مفصلا في البحث اللاحق، تحت عنوان ديانات العرب في الجاهلية .

الدكتورة نهضة الشريفي

الهوامش:  


([1]) ظ  مسالك الأبصار في ممالك الأمصار , شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري : 1/ 94
([2]) ظ  حياة محمد(ص) ، باقر شريف القرشي : 1/ 30
([3]) ظ  محاضرات في تاريخ صدر الإسلام والدولة الأموية ، د. عبد الله فياض : 5
([4]) ظ  تاريخ الأدب العربي ، العصر الجاهلي ، د. شوقي ضيف : 66
([5]) مقدمة ابن خلدون , عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي : 61
([6]) م . ن : 61
([7]) شرح نهج  البلاغة ، ابن أبي الحديد المعتزلي : 7 / 51 
([8]) موسوعة التاريخ الإسلامي , محمد هادي اليوسفي الغروي : 1/ 106
([9]) م . ن : 1/ 107

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات