القائمة الرئيسية

الصفحات

أساليب المستشرقين في الدراسات القرآنية



أساليب المستشرقين في الدراسات القرآنية


   أساليب المستشرقين في الدراسات القرآنية

    كثرت أساليب المستشرقين في الدراسات القرآنية، لكنها تلتقي في هدف واحد يروم شنّ الحملات ضد القرآن العظيم، وأثارة تساؤلات عدة حوله, وإلقاء الشبهات منذ القدم, والى اليوم, حتى ان أحد رواد حركة التنوير قد تجرأ بصريح العبارة بالقول: (ان قرآن محمد صنعة بشرية يكثر فيها التناقض وعدم الانسجام)([1]).

المستشرقون يتهمون القرآن بالاضطراب وعدم الثبات!!!

    وصف المستشرق اليهودي جولد تسيهر* القرآن العظيم بالاضطراب في قوله: (لا يوجد كتاب تشريعي اعترفت به طائفة دينية اعترافا عقديا على أنه نص منزل أو موحى به, يقدم نصّه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات كما نجد في القرآن)([2]) .

    فيجد تسيهر القرآن الكريم هو الأكثر اضطرابا من بين الكتب المقدسة الأخرى, وهذا يثير تساؤلا معقولا , هل اطّلع على الكتب السماوية بأجمعها ليعقد هذه المقارنة ؟

    يقول مترجم كتابه عبد الحليم النجار: ( لم ير جولد تسيهر كتب الشرائع السابقة في نصوصها الأصلية, فكيف يحكم بأنها ليست كالقرآن في تعدد الوجوه والقراءات؟ على انه يناقض نفسه, فسيقرر هو فيما يلي...أن التلمود يقول بنزول التوراة بلغات كثيرة في وقت واحد, أليس هذا شبيها بنزول القرآن على أحرف؟ أما النصوص الباقية من الكتب السابقة فهي مختلفة اختلافا كبيرا, بل متضاربة أيضا)([3]).

    وقول المترجم يعدّ جوابا نقضيا لا حَلّيا, هذا إن سلّمنا بنزول القرآن على أحرف سبعة على ما في الروايات, لكنا نعتقد أن القرآن نزل على حرف واحد ولنا في ذلك حجج, ليست محل بحثنا**, والمفترض ردّ ادعائه الاضطراب في القرآن, فإذا كان يعتقد انه ناشئ من تعددّ القراءات القرآنية فإنها لا تعني وجود اضطراب في القرآن الكريم, لنشوئها أساسا بعد نزوله وهي من اجتهاد القرّاء أنفسهم([4]) .
 
    ولا عجب أن يتهم تسيهر القرآن بالاضطراب وعدم الثبات؛ لأنه أصلا لا يعتقد بسماويته, ويرى أن ما كان يبشر به محمد عن الدار الآخرة (ليس إلا مجموعة موارد استقاها بصراحة من الخارج يقينا, وأقام عليها هذا التبشير, لقد أفاد من تاريخ العهد القديم- وكان ذلك في أكثر الأحيان عن طريق قصص الأنبياء- ليذكّر, على سبيل الإنذار والتمثيل, بمصير الأمم السالفة)([5]) .

الدوافع التبشيرية للمستشرقين: 

    لقد كانت أهداف المستشرقين ودوافعهم بوجه عام دوافع تبشيرية لاستمالة المسلمين الى المسيحية, أو دوافع استعمارية مخطط لها مسبقا عن طريق تشكيك المسلمين بعقيدتهم والتقليل من أهمية تراثهم, أو دوافع علمية, وهذه قد تكون من أسلم الدوافع وأنبلها, إذ حدبوا على دراسة القرآن بدافع علمي محض, على انه لا يؤخذ على عمومه بل كان ذلك هو الهدف الأسمى للأعم الأغلب من هؤلاء المستشرقين([6]).

    لكن أساليب كثير من المستشرقين تلونت فيما بعد عند طرحها للشبهات, واصطبغت بالصبغة العلمية الحديثة, بتأثير تبلور العلوم وتطورها وتنوعها بشكل كبير, كعلم النفس التحليلي والعلوم الاقتصادية والاجتماعية الحديثة, فالنزعة العدوانية المباشرة انعكست سلبا على الفكر الغربي ذاته, لأنها صارت تمثل رؤية تقليدية ساذجة وغير علمية ومناهضة للروح الموضوعية.


    بيد أن رؤية المستشرق المتحولة تلك لا تعني انه تخلّى عن هدفه الجوهري المضمر, (وإنما عمل على تزويق الأداة والارتقاء بالخطاب من طابعه المباشر- التجريح والوصف السوقي- الى نوع من التورية المنهجية الموحية بالإيجابية الظاهرة, المستبطنة لمحاولة تفريغ الإسلام من بُعده السماوي, ونزع طابع القدسية عن أصله في محاولة لطبعنة أو تطبيع الإسلام, بتحويل العنصر الميتافيزيقي الذي يرتكز عليه الى عنصر طبيعي)([7]).

الأساليب الحديثة للمستشرقين:

    من المستشرقين الذين نزعوا الى الأسلوب العلمي الحديث المستشرق الانجليزي مونتغمري واط***، فنلحظ مثلا ان تقنية البحث عنده تختلف عن التقنية الاستشراقية القديمة التي تنزع في الغالب الى إظهار العداء للإسلام بأسلوبها الهجومي المباشر.

    يمزج واط دراسته حول الإسلام والقرآن بألوان من العلم الحديث, بطريقة ناعمة مقنعة, (فهو يزعم أن عملية الوحي إنما هي استشعار داخلي ولكن بصدق, فهو لا يشكّك بصدق شعور النبي(ص) بالنبوة, ولكنه يظن أن هذا إنما هو استشعار داخلي وقناعة ذاتية دون أن يكون هنالك شيء خارجي اسمه الوحي)([8]).

    ومن المستشرقين الذين مالوا في الشطر الأخير من حياتهم الى الأسلوب العلمي الحديث المستشرق جولد تسيهر، فنجده بعدما يصرّح بأن كتاب محمد(ص) بأجمعه ليس إلا مزيجا منتخبا من مجموعة معارف دينية, استقاها من العناصر اليهودية والمسيحية وغيرها, يبدأ تحليلا سيكولوجيا لنفسية النبي محمد(ص) لغرض تبرير مدّعاه, فيقول: ان النبي (تأثر بهذه الأفكار تأثرا وصل الى أعماق نفسه, وأدركها بإيحاء قوته التأثيرات الخارجية, فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه, كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيا إلهيا, فأصبح – بإخلاص- على يقين بأنه أداة لهذا الوحي)([9])
  
    هذه هي إذن السمة الغالبة على الاستشراق المعاصر, (فهو لا ينفي حدوث الوحي مطلقا, على الأقل حين يعرض رأيه على المسلمين, لكنه يحاول أن يعلو ظهر النظريات الفلسفية والنفسية ليثبت من خلالها أن الوحي منبعه من داخل نفس النبي محمد(ص) )([10]) .
    
    أما تفاصيل أبحاثهم وتشكيكاتهم حول المصدر السماوي للوحي فسيتم عرضها في البحث اللاحق، إذ يتحدث عن (الوحي القرآني عند المستشرقين) 

الدكتورة نهضة الشريفي   

الهوامش:


([1]) الوحي القرآني بين المفسرين والمستشرقين -  دراسة تحليلية مقارنة , إقبال بن عبد الرحمن إبداح , دار دجلة , ط1 , 2011 : 227
* اجنتس جولدتسيهر مستشرق مجري يهودي الأصل (1850- 1921م) , بدأ نتاجه الاستشراقي وهو دون العشرين من عمره , اشتهر بغزارة بحوثه ومؤلفاته التي أربت على بضع مئات , ومن أهمها: "العقيدة والشريعة في الإسلام" و " مذاهب المسلمين في تفسير القرآن" . ينظر:  العقيدة والشريعة في الإسلام , جولد تسيهر : 5  مقدمة المترجم .
([2]) مذاهب التفسير الإسلامي , اجنتس جولد تسيهر , ترجمة: عبد الحليم النجار, 1374هـ - 1955م : 4
([3]) م . ن : 4
** ورد إثبات نزول القرآن على حرف واحد مفصلا في كتاب : البيان في تفسير القرآن , السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (ت:1413هـ) , مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي , ط30- 2003م : 178 - 193
([4]) ظ البيان في تفسير القرآن , السيد الخوئي : 163
([5]) العقيدة والشريعة في الإسلام – تاريخ التطور العقدي والتشريعي في الدين الإسلامي , جولدتسيهر , ترجمة: محمد يوسف موسى- علي حسن عبد القادر- عبد العزيز عبد الحق , ط2 : 15
([6]) ظ المستشرقون والدراسات القرآنية , محمد حسين علي الصغير : 13- 18
([7]) الاستشراق قراءة نقدية , صلاح الجابري : 98
*** وليم مونتجمري واط مستشرق إنجليزي معاصر(1909- 2006م) عمل رئيساً لقسم الدراسات العربية والإسلامية بجامعة أدنبره في الفترة من 1947-1979 قام خلالها بتدريس الإسلام: عقيدة وتاريخاً وحضارة لعدة أجيال من الطلبة، وهو معروف بتعصبه ونزعاته التنصيرية ، أشهر مؤلفاته :" محمد في مكة " و "محمد في المدينة " و "محمد نبي ورجل دولة" . المصدر: ظ المستشرقون , نجيب العقيقي: 2/ 554
([8]) موقف الاستشراق من السنة والسيرة النبوية , أكرم ضياء العمري , الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة – كلية الدعوة : 60
([9]) العقيدة والشريعة في الإسلام , جولدتسيهر : 12
([10]) السيرة النبوية في فكر مونتغمري واط وكارين ارمسترونج – دراسة تحليلية تقويمية , رائد محمد عبد الوهاب أبو رية , رسالة ماجستير – جامعة الأزهر – كلية أصول الدين والدعوة بطنطا : 297

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات