البحث
الفيلولوجي في الدراسات
القرآنية
أولا: في دلالة مصطلح الفيلولوجيا
مصطلح الفيلولوجيا "philologie" الذي يقابل فقه اللغة بحسب الترجمة , مركب (من لفظين إغريقيين أحدهما philos بمعنى الصديق، والثاني Logos بمعنى الخطبة أو الكلام، فكأن واضع التسمية لاحظ
أن فقه اللغة يقوم على حب الكلام, للتعمق في دراسته من حيث قواعده وأصوله وتاريخه)([1]) .
وقيل ان هذه الكلمة "philologie"
(قد تحددت عند الألمان بدراسة النصوص اللغوية دراسة تاريخية مقارنة لمحاولة فهمها,
والاستعانة بذلك في دراسة الفروع اللغوية الأخرى, التي يبحث فيها علم آخر عندهم هو
"علم اللغة")([2]) .
لكن
بعضهم يرى أن موضوع فقه اللغة"philologie" غير مختص بدراسة اللغات فحسب, (ولكن
يجمع الى ذلك دراسات تشمل الثقافة والتاريخ والتقاليد والنتاج الأدبي للغات موضوع
الدراسة, أما علم اللغةLinguistics"
" فيركز على اللغة نفسها, ولكن مع إشارات عابرة – أحيانا- الى
قيم ثقافية وتاريخية)([3]) .
ثانيا: البحث الفيلولوجي عند المستشرق نولدكه
من
المستشرقين الذين بحثوا في آيات القرآن الكريم فِيلُولُوجِيا وتاريخيا المستشرق نولدكه([4]),
إذ قسّم سور القرآن الكريم على أربعة أقسام، ثلاثة منها في مكة، والأخيرة في المدينة,
وذلك عبر دراسة قام بها في السور القرآنية ولغة القرآن وأسلوبه, فتوصل إلى خصائص هذه
الأقسام, نعرض لها على نحو الإجمال :
القسم المكي :
وهو على
فترات ثلاث :
الفترة الأولى: الكلام عظيم مفعم بالصور الصارخة، النبرة الخطابيّة تحتفظ بأسلوبها الشعري
الكامل، الآيات القصيرة تعكس الحركة الدؤوبة, ويظهر فيه أسلوبُ القَسَم والسجع الذي
أخذه محمد(ص) عن الكهَّان الوثنيين([5]).
الفترة الثانية : الانتقال من الحماس العظيم الى
السكينة, أسلوب الكلام نثري، والأمثلة مكدسة بعضها فوق بعض، وغير مرتبة منطقيا،
فيجنح إلى الإطناب، ويصبح مرتبكاً مملاً، لا يُقنع الخصوم بل يخجلهم بسبب التكرار
الدائم([6]) .
الفترة الثالثة : اللغة تصبح مطنبة، نثرية، واهية، التكرار لا نهاية له، البراهين تفتقر إلى
الوضوح والحدة، وهي ليست مقنعة, والقصص لا تأتي إلا بقليل من التنوع، كل هذا يجعل
الآيات والسور مملّة في كثير من الأحيان([7]) .
القسم المدني :
يرى نولدكه انّ الأمور
الجديدة التي دخلت بعد الهجرة وصارت تعالَج في السور، أحدثت اختلافات بالغة مقابل الأسلوب المكيّ،
ويُتجنّب في صياغتها كل تزيين خطابي، لكن محمداً(ص) يبقى ملتزماً بالنظم المؤلَف من
زيادات فائضة, مما يجعله عنصراً أسلوبيّاً مشوِّشاً([8]) .
ويعتقد نولدكه
بنقص في القرآن, وأن النبي(ص) يؤلف الآيات ثم يتلف بعضها, إذ يقول في معرض حديثه عن مدنية سورة
البقرة : (حتى لو اختفت بعض القطع الموحى بها مباشرة بعد الهجرة أو أتلفها النبي
بنفسه فيما بعد, فلا شك في أن المسلمين على حق في قولهم ان سورة البقرة هي أقدم
السور المدنية المتبقية)([9]).
لو كان نولدكه يقرّ بالمصدر الغيبي للقرآن لما
صدر منه تصوره عن النبي بأنه ينتقي بعضا من الآيات ويتلف بعضها الآخر, مثله مثل أي
مؤلف أو شاعر يكتب ويشطب ويضيف ويحذف, وما ذلك إلا لترسيخ فكرة بشرية القرآن,
وتوهين البعد الغيبي له .
وما قوله عن
النبي(ص) بأنه يقتبس من أساليب الكهَّان الوثنيين ليزين بها أسلوب القرآن
إلا لتدعيم التأليف البشري له, متغافلا عن أن القرآن نزل بلغة العرب وكانت آنذاك
في أوج رقيها وجمالها, ولو كان نازلا بأسلوب آخر لما صار حجة عليهم ولما انبهروا
به , بل لما فهموه , فكان لا بد له ان يأتي بلغة القوم وأساليبهم لأنهم النواة
الأولى لبذرة الإسلام, ومن هؤلاء القوم المؤمنين تنطلق مفاهيمه وتعاليمه وروحه,
وتتبلور سائحة في الفضاء الزمكاني .
ولو كان نولدكه
يؤمن بالمصدر الإلهي للقرآن لما تجرأ بنعته بأنه مرتبك مملّ، ونتائجه ضعيفة لا تُقنع
الخصوم، وتخجلهم بسبب التكرار الدائم , والأسلوب المشوش , وغيرها من النعوت, وما
هذا القول الا لضيق الخناق, فعندما يعجز الباحث عن الوصول الى الانسجام والتناسق
الفكري والروحي معا لدى تأمله للقرآن, تتبدى نوع عشوائية وفوضوية في كتاباته, يقول الدكتور الصغير (لقد فتح نولدكه الطريق أمام القول بتحريف القرآن)([10]) وهو ما ظهر في كلامه وأسلوبه
بوضوح .
ثالثا: مستشرقون آخرون
في الواقع
ان مسألة اتهام النبي(ص) بأنه يجري على أساليب الكهّان أمر مشاع بين المستشرقين ,
فنجد بروكلمان* في سياق حديثه ومن دون مقدمات أو أسباب أو نتائج يقول
(استخدم محمد في دعوته أساليب الكاهن)([11]),
ويرى ان النبي(ص) (في أقدم مراحل دعوته يطلق ما يدور بخلده, وهو صادق الاستغراق
والغيبوبة, في جمل مؤثرة يغلب عليها التقطع والإيجاز, وتأخذ طابع سجع الكهان)([12]).
وينحو جولد تسيهر
منحى أقرانه فيقول: (لقد كانت السور الأولى في النزول على الشكل الذي تعوّد
الكهّان القدماء وضع نبواتهم فيه, ولو جاء في شكل آخر لما رضي أي عربي أن يرى فيه
قرآنا موحى من الله)([13])
.
لكننا نجد
كثيرا من الباحثين قد تصدوا لهذه المسلّمة الاستشراقية, فإن مسألة تماثل أسلوب
القرآن لأساليب الكهّان مرفوض حتى في صدر الإسلام, ولم يقبله العرب وصناديد قريش,
الذين كانوا يتحينون الفرص للنيل من القرآن, بل لقد كان حرصهم على نعت لغة القرآن
بكونها شعرا أكثر من كونها لغة الكهّان والمنجمين([14]).
والآيات الكريمة التي نفت الشعر عن القرآن تفوق
عددا الآيات التي نفت عنه أسلوب الكهّان*, وهذا شاهد واضح على تركيز العرب آنذاك على تشبيه لغة
القرآن بالشعر أكثر من الكهانة .
ونقرأ في
التاريخ عن الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهما, ينفون بكل حزم ويردّون بكل
إنصاف أن يكون أسلوب القرآن على شاكلة أسلوب الكهّان وسجعهم, ويصرحون بأنهم شهدوا
الكهّان فليس هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه, ويستنكرون تقوّل قومه بأن محمدا كاهن,
فهل رأيتموه يتكهن ؟ !!([15])
.
وهكذا سيطر المنهج التاريخي والفيلولوجي على
عقول المستشرقين من منتصف القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين , ثم تطورت مناهجهم
(بتأثير الأنثروبولوجيا البنيوية وعلم اللسانيات الحديث وعلم الاجتماع المعاصر الى
منهجية جديدة تدعى منهجية التاريخ غير الوقائعي, أي تاريخ العقليات والأخلاق
والعادات, وهذا التاريخ يعيد طرح المشكلات ضمن إطار المسارات السوسيولوجية والأنثروبولوجية)([17]).
الدكتورة نهضة الشريفي
([4]) تيودور نولدكه مستشرق ألماني
(1836- 1930م) شغل مناصب علمية وإدارية عديدة , تعلم اللغات السامية والفارسية والتركية
والسنسكريتية , اشتهر بمتانة الخلق وسعة المعرفة والتزامه في مصنفاته أسلوبا علميا
صارما مبنيا على المنطق , من أشهر آثاره : أصل وتركيب سور القرآن , وهو رسالته التي
توسع فيها فيما بعد , ثم أعاد النظر فيها وترجمها الى الألمانية ونشرها تحت عنوان
: تاريخ النص القرآني . المصدر: ظ المستشرقون , نجيب العقيقي , دار المعارف , ط3 –
1964م , القاهرة : 2/ 738
* كارل بروكلمان (1868- 1956م) مستشرق ألماني معروف بغزارة
إنتاجه, اشتهر في فقه العربية وقراءتها قراءة فصيحة وكتابتها سليمة, وفي التاريخ الإسلامي,
وتاريخ الأدب العربي مما جعله مرجعا للمصنفين في التاريخ الإسلامي والأدب العربي .
ظ معجم أسماء المستشرقين , يحيى مراد : 239
* الآيات التي تنفي الشعر عن القرآن : الأنبياء 5 – يس 69 – الصافات 36 – الطور 30 – الحاقة 41 ,
والآيات المتعلقة بالكهانة : الطور 29 – الحاقة 42 . المصدر: المصحف الرقمي
تعليقات
إرسال تعليق