مسار تطور الهرمنيوطيقا
عند تتبع مسار تطور الهرمنيوطيقا، أو فن التاويل، نجده قد تبلور على مدى
ما يقارب القرنين من الزمان على يد مفكرين وعلماء مختصين، فحصل تطور كبير لهذا
المصطلح بتطور الفكر الإنساني، ومن هؤلاء المفكرين:
أولا: شلاير ماخر
من المفكرين الذين أسسوا
لهرمنيوطيقا جديدة العالم الألماني شلاير ماخر([1]), إذ تحررت معه من تبعيتها لفقه اللغة "الفيلولوجيا"
الخاصة بالنصوص القديمة ومن التفاسير الدينية القديمة([2]), لذا يعود الفضل اليه في نقل المصطلح من دائرة الاستخدام
اللاهوتي ليكون علما او فنا لعملية الفهم وشروطها في تحليل النصوص , وابتعد
بالتأويلية عن ان تكون في خدمة علم خاص ووصل بها الى ان تكون علما بذاتها يؤسس
عملية الفهم وبالتالي عملية التفسير([3]) .
تقوم تأويلية شلاير ماخر على أساس أن النصّ عبارة عن وسيط لغوي
ينقل فكر المؤلف إلى القارئ ، وبالتالي فهو يشير في جانبه اللغوي إلى اللغة
بكاملها ، ويشير في جانبه النفسي إلى الفكر الذاتي لمبدعه , وكلما تقدم النص في
الزمن صار غامضا بالنسبة لنا ، وصرنا أقرب إلى سوء الفهم منه للفهم، وعلى ذلك
لابدّ من قيام علم أو فنّ يعصمنا من سوء الفهم ، من هنا كانت انطلاقته لوضع قواعد
الفهم لجانبي النص اللغوي والنفسي([4]), فلابدّ من أن تتوفّر لدى المفسر موهبتان تعملان بطريقة منسجمة
: الموهبة اللغوية، والقدرة على النفاذ إلى الطبيعة البشرية([5]) .
ويمكن أن نلاحظ قضية
مهمة في فكر شلايرماخر التأويلي, وهي (تسرّب النزعة السيكيولوجية إليه، لقد شغله
غموض الآخر عن غموض التاريخ...وشغلته سيكولوجيا الحوار عن تاريخية التأويل)([6]) ومع ذلك يعد شلاير ماخر ممهدا لمن جاء بعده من المفكرين , ومن
أهمهم المفكر ويلهلم دلتاي .
ثانيا: دلتاي
يعدّ ربط
الهيرمينوطيقا بالعلوم الإنسانية في الأساس من منجزات ويلهلم دلتاي([7]), فقد رأى في الهيرمينوطيقا أساس كل العلوم الإنسانية
والاجتماعية، ونقطة البداية في هذه المسألة هي التجربة والخبرة التي ينبغي أن يتم
فهمها في مقولات فكرية تاريخية لكون الخبرة نفسها تاريخية في عمقها, وبفعل
تاريخيتها تحدد الأساس النظري للهيرمينوطيقا الحديثة([8]) .
لقد أضاف دلتاي
بُعداً ثالثاً إلى بعدي شلاير ماخر- البعد اللغوي والبعد النفسي - وهو التجربة التي يعايشها المتلقّي ، وينصهر
فيها ، فإن بين المؤلف والمتلقي حبلا فكريا موصولا غير مقطوع هو تجربة الحياة ،
وهذه التجربة تذكي أوار الحوار والتفاعل بين ذاتية المتلقي وموضوعية النص، وهو ما
يدعى عند دلتاي ظاهرة اكتشاف الأنا في الآخر، بمعنى : إسقاط التجربة الذاتية
للقارئ على تجربة المؤلف([9]).
ويكمن الفارق بين
العلوم الاجتماعية والطبيعية -عند دلتاي- في (ان مادة العلوم الاجتماعية وهي
العقول البشرية مادة معطاة وليست مشتقة من أي شيء خارجها مثل مادة العلوم الطبيعية
التي هي مشتقة من الطبيعة)([10]), والنص عنده (تعبير عن مقاصد المؤلف
وعن تجربته الحية وايمانه بإمكانية اعادة بناء هذه المقاصد وهذه التجربة كما هي او
كما كانت بالفعل)([11])
.
ثالثا: هايدجر
وبعد دلتاي أنشأ مارتن هايدجر([12])
هرمنيوطيقا الفلسفة الوجودية التي تتركز على تجاوز ثنائية الذاتي والموضوعي في فكر
شلاير ماخر ودلتاي ، إذ حاول ان يبحث عن منهج يكشف عن الحياة من خلال الحياة
نفسها, فوجد في ظاهرية استاذه هوسرل منهجا يمكن ان يفسر عملية الوجود في الوجود
الإنساني بصورة تكشف عن الوجود نفسه لا عن التصور الأيديولوجي للوجود([13])
.
لقد رأى هايدجر في وعي الإنسان لوجوده مفاتيح لفهم طبيعة هذا الوجود , وإن
هذا الفهم هو تاريخي وآني في آن معا , بمعنى انه ليس فهما ثابتا ولكنه يتشكل من
تجارب الحياة الحية التي يواجهها الإنسان, هذا الوعي في نظره متجاوز لمقولات
الزمان والمكان ومفاهيم الفكر المثالي , فحقيقة الوجود عنده تتجاوز الوعي
الذاتي وتعلو عليه، فيبدو عملية فهم
مستمرة([14])
.
وبما انه لا يفرق بين الذات والموضوع , لذا جمع بين كينونة الأنا وكينونة
العالم , تلك التي تفترض الآنية هي الوجود , فاللغة مثلا والشعر والنص الأدبي لا
يقال عنه انه ذاتي او موضوعي بل هو مشاركة في الحياة , إذ يرى (ان مشكلة وجود
الواقع الخارجي وإثباته وعلاقة الذات به هي مشكلة زائفة لا تستحق عناء لحظة واحدة
من التفكير! لماذا؟ لأن الآنية باعتبارها وجودا في العالم موجودة دائما في الخارج
اي في العالم المألوف)([15]).
وهنا يكمن الاختلاف بينه وبين من سبقه من فلاسفة الهرمنيوطيقا, فإذا كان لمقصد المؤلف حضورا عند تأويلية كل من شلاير ماخر ودلتاي، فإن تأويلية هايدجر قائمة على تجاوزه تماما, فالهيرمينوطيقا عنده هي التعامل مع اللحظة التي يظهر فيها المعنى لا غير .
وهنا يكمن الاختلاف بينه وبين من سبقه من فلاسفة الهرمنيوطيقا, فإذا كان لمقصد المؤلف حضورا عند تأويلية كل من شلاير ماخر ودلتاي، فإن تأويلية هايدجر قائمة على تجاوزه تماما, فالهيرمينوطيقا عنده هي التعامل مع اللحظة التي يظهر فيها المعنى لا غير .
رابعا: غادامير
نشهد اليوم في
الواقع الغربي هرمنيوطيقا معاصرة تتبين معالمها في فلسفة "غادامير"([16]), وتعد من أهم المراحل الفلسفية في تاريخ الهرمنيوطيقا, إذ نقل
التأويلية كفلسفة من المرحلة الحديثة الى المرحلة المعاصرة بكل أبعادها, والتأويل
عند غادامير يعد امتدادا وتطويرا لفلسفة هايدجر، إذ كان يرى أنه من المستحيل وجود
فهم بلا أحكام مسبقة, وهذا يعني التخلي عن تمسّك عصر التنوير بسلطة العقل , فهو
ينقد فكرة الوعي التاريخي الذي يقوم على اساس التخلص من النوازع والأهواء الذاتية
التي تلون حكمنا على التاريخ وتجعلنا غير قادرين على رؤية الماضي رؤية موضوعية([17]).
إن المجرى التاريخي الطويل الذي ألزم به غادامير نفسه يفصح عن مغزى هو(ان على الفلسفة الهرمنيوطيقية أولا ان تراجع باختصار مقاومة الفلسفة الرومانسية لعصر الأنوار, مقاومة دلتاي للوضعية , وهايدجر للكانطية الجديدة)([18]) .
إن المجرى التاريخي الطويل الذي ألزم به غادامير نفسه يفصح عن مغزى هو(ان على الفلسفة الهرمنيوطيقية أولا ان تراجع باختصار مقاومة الفلسفة الرومانسية لعصر الأنوار, مقاومة دلتاي للوضعية , وهايدجر للكانطية الجديدة)([18]) .
يتضح مما ذكرنا ان
غادامير كان يرى انه من المستحيل وجود فهم بلا فروض أو أحكام مسبقة ؛ لأن (التغلب
على جميع الأحكام المسبقة، وهو المطلب العام لعصر التنوير، سوف يتبين أنه هو نفسه
حكم مسبق، والتخلص من هذا المطلب يمهد الطريق أمام فهم مناسب للتناهي الذي لا
يهيمن على إنسانيتنا فقط، بل يهيمن على وعينا التاريخي أيضا)([19]) .
الدكتورة نهضة الشريفي
الهوامش:
([1]) فريديريك شلاير ماخر فيلسوف
ألماني (1768-1834م) مؤسس الهيرمينوطيقا الحديثة، وضع أسسها الفلسفية وعبّد الطريق
للمفكرين آخرين، لكي يطوروا هذا العلم، ومثّل بذلك الموقف الكلاسيكي في عالم الهيرمينوطيقا,
ونقد الأرثوذكسية والبروتستانتية التقليدية، جامعاً بين التنوير والنقد . المصدر: شلاير
ماخر مؤسس الهيرمينوطيقا الحديثة , إبراهيم السعدي , https://plus.google.com
([7]) ويلهلم دلتاي الفيلسوف الألماني
(1833-1911)، من تلامذة شلاير ماخر, اعتقد انه من الممكن اتخاذ موقف تفهّم من الداخل
تجاه العالم الإنساني في حين ان الطريق الى عالم الطبيعة يظل مغلقا تماما , مارس التجربة
المباشرة والمعاشة بوصفها الوسيلة التي تتيح إمكانية الإمساك بالواقع التاريخي والواقع
الإنساني في شكلهما العيني والحي . ينظر معجم الفلاسفة : جورج طرابيشي : 305
([12]) مارتن هايدجر فيلسوف ألماني(1889
ــ 1976) وجه اهتمامه الفلسفي إلى مشكلات الوجود والتقنية والحرية والحقيقة وغيرها
. تميز بتأثيره الكبير على المدارس الفلسفية في القرن العشرين ومن أهمها الوجودية،
التأويليات ، فلسفة النقض أو التفكيكية، ما بعد الحداثة , ومن أبرز مؤلفاته: الوجود
والزمان, حاول فيه أن يحدد علاقة الوجود بالإنسان انطلاقا من الإنسان . ينظر: معجم
الفلاسفة , جورج طرابيشي : 694
([16]) هانز جورج غادامير فيلسوف ألماني(1900– 2002) عاش الحربين العالميتين, تخصص
في الفلسفة، حصل على شهادة الدكتوراه سنة 1922 في موضوع جوهر المتعة في حوارات أفلاطون،
وبعدها التحق بدروس هيدجر الذي أسهم في تشكُّل فكره الفلسفي بشكل كبير ، اشتهر بعمله
المميز الحقيقة والمنهج، وأيضاً بتجديده النظرية التأويلية (الهيرمونيطيقيا) . ينظر:
التلمذة الفلسفية سيرة ذاتية لغادامير, ترجمة حسن ناظم، علي حاكم صالح, مؤسسة دار الكتاب
الجديد, ط1- 2013 : 7
تعليقات
إرسال تعليق