القائمة الرئيسية

الصفحات



التواضــــع سيماء الصالحين


التواضــــع سيماء الصالحين

     التواضع من السجايا التي تسهم في خلق التوازن الاجتماعي, وتحقيق السعادة والاستقرار,  ومن تواضع لله رفع قدره، وذُكر: أن كل فضيلة وسط له طرفان مذمومان, فأحد طرفي التواضع الكبر, وهو من جهة الإفراط, والآخر الذلّة, وهو من جهة التفريط, وأحب الأمور الى الله أوسطها([1]).

    والتواضع (أن لا تجعل لنفسك مرتبة على من هو دونك في الجاه علوا)([2]), ويعتبر من المقومات المهمة للمجتمع لانتشاله من آفة الكبر. وقيل ان التواضع هو: (انكسار للنفس يمنعها من أن يرى لذاتها مزية على الغير, وتلزمه أفعال وأقوال موجبة لاستعظام الغير وإكرامه. والمواظبة عليها أقوى معالجة لإزالة الكبر)([3]).

      وقد ورد في شرح أصول الكافي: (من أعاظم جنود العقل ومكارم الأخلاق الإنسانية ومحاسن الأوصاف النفسانية, التي يرتقي بها الإنسان إلى أعلى مدارج القرب والكمال, ويصعد إلى أقصى معارج العزّ والجلال, التواضع لله ولعباده المؤمنين)([4]), أما حقيقة التواضع فهي (هيئة نفسانية تحصل من تصور الإنسان نفسه أذل من غيره وأخس رتبة منه، ثم الإذعان به إذعانا جازما لا يشوبه شئ من الشكوك والأوهام)([5]).

     ومن الروايات الواردة عن رسول الله(ص): ((إن التواضع يزيد صاحبه رفعه فتواضعوا يرفعكم الله))([6]) وقال الإمام الصادق(ع): (( التواضع أصل كل شرف نفيس ومرتبة رفيعة, ولو كان للتواضع لغة يفهمها الخلق لنطق عن حقائق ما في مخفيات العواقب))([7]), وعن أبي عبد الله(ع) (( من التواضع أن تسلّم على من لقيت))([8]).

قصة موسى(ع) والعبد الصالح:      

    تعطينا آيات القرآن درس عن التواضع، ومن أجلى مصاديق التواضع ما جاء في سيرة الأنبياء والمعصومين وأولياء الله الصالحين من سلوك متواضع مع الله ومع الناس, يجسده هذا المقطع من قصة نبي الله موسى(ع) والعبد الصالح (الخضر) :

      أمر الله تعالى نبيّه موسى(ع) أن يشدّ الرحال الى مجمع البحرين ليلتقي العبد الصالح الذي يحمل من العلم ما ليس لديه, وبعد الجهد والنصب من وعثاء المسير هو وفتاه الذي رافقه, التقى ذلك العبد المخلص العارف بالله, الذي أفاض عليه ربه علما لَدُنّيا:

]فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً  قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً... [([9]).

    وقد تجسد الأدب الإلهي والتواضع الكبير لموسى(ع) ضمن ثلاثة مواقف([10]) :

الموقف الأول:


  تقدّم النبي موسى(ع) بأدب جمّ من العبد الصالح ] قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً[, بهذا المنطق المتواضع ابتدأ النبي حديثه مع الرجل الصالح ]هَلْ أَتَّبِعُكَ بصيغة الاستفهام, ونلاحظ ما في لفظ ]أَتَّبِعُكَ من خفض الجناح وإذلال النفس, فالإتباع غير الاصطحاب. 




    جاء منطق النبي موسى(ع) يحمل إعظاما للمعلم وإعلاء لشأنه في العبارةأَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداًإنه موسى نجيّ الله وكليمه وأحد أنبياء أولي العزم يطلب علما يرشده الى طريق الهدى والخير مما لم يحوه وعاءه, لكن المعلم لم يستجب لطلب النبي إلا بمشارطته على الصبر والتحمل حين السفر معه, فانبرى موسى بلسان الأدب الإلهي معلقا صبره على مشيئة الله  ]قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً[ 

الموقف الثاني:  
    حين أخلّ موسى(ع) بالشرط ولم يطق صبرا على تصرف الشيخ المعلم, نبّهه وذكّره] قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا ً[عندها رجع النبي الى نفسه]قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً[ فهو يعتذر بكل خضوع وتواضع بلسان النسيان ويطلب منه أن لا يشدّد عليه في هذا ولا يقطع فيضه عطائه عنه .

الموقف الثالث:  

    بعد اعتراضه على تصرف معلمه كرة أخرى, ألزم موسى(ع) نفسه واتخذ قرارا يكشف عن مدى تأدبه ومعرفته بأصول التعامل]قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراًفإن اعترض على المعلم بشيء بعدها يكون في حلّ من التزامه وقد بلغ منتهى العذر .


      جاء في الميزان أن موسى(ع) (أتى من الأدب البارع الحري بالمتعلم المستفيد قبال الخضر بأمر عجيب, وهو كليم الله موسى بن عمران الرسول النبي أحد أولي العزم صاحب التوراة)([11]) .

       فكلام موسى(ع) مبنيّ على التواضع من أوله الى آخره, (وقد تأدب معه أولا, فلم يورد طلبه منه التعليم في صورة الأمر, بل في صورة الاستفهام, هضما لنفسه, وسمى مصاحبته اتّباعا منه له, ثم لم يورد التعليم في صورة الاشتراط, بل قال:
 ]عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً[ 

ثم عدّ نفسه متعلما, ثم أعظم قدر علمه إذ جعله منتسبا الى مبدأ غير معلوم لم يعيّنه باسم أو نعت فقال(عُلّمتَ) ولم يقل(تعلم) ثم مدحه بقوله(رشدا) ثم جعل ما يتعلّمه بعض علمه فقال(مما عُلّمت) ولم يقل: ما عَلِمت, ثم رفع قدره إذ جعل ما يشير عليه به أمرا يأمره, وعدّ نفسه لو خالفه فيما يأمر عاصيا, ثم لم يسترسل معه بالتصريح بالوعد بل كنى عنه بمثل قوله ]قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً[ )([12]).

تواضع نبي الله عيسى(ع) :

      ورد  في الكافي رواية بشأن نبي الله عيسى(ع) وتواضعه الفريد مع حوارييه, وهو درس بليغ لنا في هذا العصر المتخم بالمفاسد, وتجسيد عملي لا يحتاج الى شرح وتوضيح, فمن نحن في قبال روح الله عيسى النبي العظيم, الذي اصطفاه الله من مجتمع بني إسرائيل, فهو نموذج حيّ عرضه لنا الله لنعتبر ونتعلم أصول التواضع :

     (قال عيسى ابن مريم عليه السلام: يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة اقضوها لي، قالوا : قضيت حاجتك يا روح الله، فقام فغسل أقدامهم فقالوا : كنا نحن أحق بهذا يا روح الله! فقال : إن أحق الناس بالخدمة العالم, إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم ، ثم قال عيسى عليه السلام : بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل)([13]).

الدكتورة نهضة الشريفي

الهوامش :



([1]) ظ جامع السعادات , محمد مهدي النراقي : 273
([2]) مقدمة في علم الأخلاق : 66
([3]) جامع السعادات: 1/ 271
([4]) شرح أصول الكافي , مولى محمد صالح المازندراني : 1/ 236
([5]) م . ن : 1/ 237
([6]) الكافي , الكليني : 2/121 باب التواضع 
([7]) جامع السعادات : 1/ 272
([8]) كتاب الخصال , الشيخ الصدوق : 11 , باب الواحد , حديث رقم 39
([9]) سورة الكهف : 65ـ 73
([10]) الأصدق في قصص الأنبياء (بتصرف) : 277ـ 279
([11]) الميزان : 16/ 339
([12]) م . ن  : 16/ 339
([13]) الكافي , الكليني : 1/  37 باب صفة العلماء , الحديث رقم (6)

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات