العناية الإلهية بالقصص القرآنية
لا ريب أن الله تعالى حينما
استخلف الإنسان في الأرض وحمّله الأمانة العظمى لم يتركه من دون نظام يتخبط في هذا
الوجود في أوهامه وجهله, فلابد للقدرة الإلهية من التدخل والتوجيه والعناية، لذا
أنزل تعالى رحمته للأقوام متمثلة في حججه من الأنبياء والمرسلين ، وأنزل معهم
رسالاته دستورا للحياة ينبغي السير على هداها .
الأنبياء في القرآن :
إن الله تعالى لم يتعرض في قرآنه إلا للنزر اليسير من حياة
الرسل والأنبياء ( إذ بلغ عدد من ذكر سيرتهم ودورهم في أممهم التي بعثوا لهدايتها
نحو ستة وعشرين نبيا)([1]) ، وإلى هذه
الحقيقة أشار سبحانه بقوله: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم
مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ))([2])، ومع ذلك فإن فيما ورد من قصصهم غنىً وكفاية لما
فيها من عبر وعظات تُستجلى من مواقفهم وأهم محطات حياتهم ومآل أقوامهم وما أصابها
من بأساء وضراء جزاءً لما اقترفوا من أعمال .
فقد وردت مفصلةً كل المعلومات التي ترتبط بآدم(ع) وكيفية خلقه وخلافته, وخلق إبليس وعلاقته بآدم وذريته, وحياته في الجنة مع زوجه، وورد كل ما يتعلق (بتاريخ الإنسان ومزاجه النفسي والروحي والعقلي والقوانين الاجتماعية العامة التي تتحكم في سلوكه وعلاقاته وحركته الاجتماعية والتاريخية ومدى صلته بالسماء وأساليب هذه الصلة من النبوة والوحي والإلهام والدين والكتاب والشريعة)([3]) وجميع ما يتعلق بصفات الأنبياء (ع) التي تستنبط من قصصهم .
وليس هذا فحسب, بل أودع ( كل المعلومات التي ترتبط بالقيم والمثل والصفات التي يجب أن يتحلى بها الإنسان والتي ترتفع به في عالم الإنسانية وتوصله الى الكمال المنشود)([4])، فلا عجب إذن ان تشغل القصة ما يقارب ثلث القرآن الكريم ، ويمكننا القول باطمئنان ان القصة القرآنية تتحمل الأهداف التفصيلية كافة التي استهدفها القرآن الكريم يجمعها الهدف الأساس الجامع لكل التفاصيل، وهو التربية البشرية والتغيير الاجتماعي .
لذا نجد الأسلوب القرآني يخضع في جميع مراحله الى هذا الهدف ، فإذا كان الهدف الأساس التغيير والهداية الى الرشد, فما الداعي الى أن يحمل هذا الكتاب التربوي كل هذا التاريخ والقصص ؟
إنها العناية الإلهية بلا ريب, حيث إن( من أنفع الأساليب وأكثرها رسوخا في نفس المتلقي هو الأسلوب القصصي في القرآن الكريم والذي يستند بالدرجة الأساس الى عناصره المتحركة ومشاهده الواقعية وصوره الفنية الرائعة وجوانبه الدلالية )([5])؛
ولأن أكثر المعلومات البشرية توافقا مع الواقع والحقيقة هي التي تحمل جانبا حسيا ، ودور التاريخ في إظهار الواقعيات الحياتية يمكن أن ندركه جيدا (فالإنسان يرى بأم عينه الهزيمة المردية لأمة ما نتيجة اختلافها وتفرقها، كما يرى النجاح المشرق في قوم آخرين في ظل اتحادهم وتوافقهم، والتاريخ يتحدث عن النتائج القطعية وغير القابلة للإنكار للتطبيقات العملية للمذاهب والبرامج عند كل قوم)([6])ويقدم حصيلة جامعة لتجارب الماضين من خلال قصصهم .
إن خالقنا أعلم بما يعتمل في أعماق نفوسنا من ميول فطرية واستعدادات نفسية, لذا اصطفى من أخبار الماضين ما تحتاجه هذه النفس وتتأثر به (فللتاريخ والقصة جاذبية خاصة ، والإنسان واقع تحت هذا التأثير الخارق للعادة في جميع أدوار حياته من سن الطفولة حتى الشيخوخة ، لذلك فإن التاريخ والقصة يشكلان القسم الأكبر من آداب العالم وآثار الكتّاب)([7]) .
قصص عصر صدر الإسلام :
على ان القصص القرآنية لا تختص بأخبار الماضين فحسب، ولكنها تقص أحداثا وقعت
في عهد النبي محمد(ص) فأضحت ماضيا بالنسبة إلينا, ووجودا ماثلا مشخصا لنا نغترف من
عطائه ونعتبر بعبَره, ومن هذه الأحداث:
(1) غزوة بدر:
التي يشير اليها القرآن في قوله تعالى: ((إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ
فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ
ومَا جَعَلَهُ الله إلاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنّ بِهِ قُلُوبَكُمْ وَمَا
جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ
إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.. ))([8])
(2) غزوة أحد:
وتمثلت في قوله تعالى: ((وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ
الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّت
طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.. ))([9])
(3) غزوة حنين:
حيث قوله تعالى: ((لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً
وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ.. ))([10])
(4) بيعة الرضوان:
في أحد مواسم الحج بايع جمع من الأوس والخزرج رسول الله (ص) تحت الشجرة وهي البوابة الأولى لانتشار الإسلام خارج
مكة ((لقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ
وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً.. ))([11])
(5) حديث الثلاثة الذين خُلّفوا :
((وَعَلَى
الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ
بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ
مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))([12]) .
أساليب القصة القرآنية :
ولأن
الهدف الديني هو مقصد القصة القرآنية فلقد (تنوعت القصة وتلونت في طريقة العرض ما
بين الإجمال والتفصيل، الطول والقصر، وكذلك زمان القصة وحدثها؛ ذلك إن القرآن,
إيفاءً للغرض الديني والفني معا, يورد من القصة الحلقة التي تتنامى وموضوع السورة
وتتلائم والغرض الديني)([13])، فالقرآن الكريم
لم يسلك طريقة واحدة في الأساليب الفنية, وإنما تنوعت قصصه ضمن اشتراطات فنية لأن
النسق القرآني ينطوي على تدرج وتسلسل لتسهيل عملية السرد للوقائع والأحداث ، فكان
القرآن([14]):
ــــــ
إما أن يعرض هذه القصص كاملة ليسهل للمتلقي إدراك عملية التدرج في القصة منذ أول
وهلة، وصولا الى إدراك الوحدة الموضوعية التي تحكم مكوناتها, مثل قصة يوسف(ع) وقصة
أصحاب الفيل .
ــــ أو
يعرضها متفرقة في أماكن مختلفة من سور القرآن الكريم مثل قصة آدم وموسى وإبراهيم
وعيسى (عليهم السلام أجمعين), على وفق التقنية الفنية التي يتطلبها النسق القرآني.
ــــ أو
قد يعمد الى عرضها مجتمعة ، مثل قصة ( ذي الكفل وإلياس ويسوع ) .
ومن
أساليب القرآن الكريم أيضا: أسلوب الترغيب والترهيب, الذي يتناغم مع نزوع الإنسان
فطريا لجلب ما ينفعه ودرء ما يمثّل خطرا عليه ، وهو من أنجع الأساليب وأكثرها
تأثيرا في المخاطبين، وكذلك أسلوبه في إظهار المعقول بلباس المحسوس ، وذلك ليكون
أقرب الى فهم وإدراك الإنسان المادي([15]).
هكذا شاءت العناية الإلهية إخراج الصورة القصصية على وجهها المشرق المتكامل حية ناطقة , موائمة للفطرة الإنسانية, مقوّمة للسلوك البشري .
الدكتورة
نهضة الشريفي
الهوامش
:
([1]) القصص القرآنية ، جعفر سبحاني : 1/ 11
([14]) القصص القرآني دراسة في
الأساليب الفنية , أ.م.د.كريم حسن اللامي , نبأ باسم رشيد العبيدي : 77 , مجلة ن
والقلم العدد 21
تعليقات
إرسال تعليق