القائمة الرئيسية

الصفحات



الصبر عند نبي الله أيوب(ع)


الصبر عند نبي الله أيوب(ع)

    ورد اسم النبي أيوب(ع) في أربع سور مباركات من القرآن الكريم هي: (سورة النساء, الأنعام, الأنبياء, وسورة ص) منها قوله تعالى ]وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ[([1]).

  قصة أيوب(ع) في القرآن:

    كان أيوب(ع) رجلا من الروم, دينه التوحيد والصلاح والإصلاح بين الناس, وهو من ذرية إسحاق بن إبراهيم الخليل(ع)([2]) .

    ذاع صيته واشتهر اسمه مقرونا بسمة الصبر, فكان من أشهر الأسماء التي لمعت في دنيا الصبر وتحمّل البلاء, شنّت عليه الخطوب والآلام حربا شعواء, فانتصر عليها بسلاح الصبر والإيمان, لذا جرى ذكره على كل لسان, وفي كل زمان ومكان, وأصبح المثل الذي يضرب لكل صابر, والقدوة التي تحتذى لكل ذي رزية .

      وقد جاءت قصة ابتلائه مجملةً في هذه الآيات الكريمات:

v  ]وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[([3])

v  ]فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ[([4])

v  ]وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ[([5])
v  ]ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ[([6])

v  ]وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ[([7])

v  ]وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ[([8])

بلية أيوب(ع) في الدنيا امتحان له :

      جاء في (بحار الأنوار): سؤل أبو الحسن(ع) عن بلية أيوب التي ابتلي بها في الدنيا لأية علة كانت ؟ فقال:

    ( لنعمة أنعم الله عليه بها في الدنيا فأدى شكرها، وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش, فلما صعد أداء شكر نعمة أيوب حسده إبليس فقال: يا رب إن أيوب لم يؤد إليك شكر هذه النعمة إلا بما أعطيته من الدنيا، ولو حرمته دنياه ما أدى إليك شكر نعمة أبدا، قال: فقيل له: إني قد سلطتك على ماله وولده.

    قال: فانحدر إبليس فلم يبق له مالا ولا ولدا إلا أعطبه، فلما رأى إبليس أنه لا يصل إلى شيء من أمره قال: يا رب إن أيوب يعلم أنك ستردّ عليه دنياه التي أخذتها منه فسلّطني على بدنه، قال: فقيل له: إني قد سلطتك على بدنه ما خلا قلبه ولسانه و عينيه وسمعه، قال: فانحدر إبليس متعجلا مخافة أن تدركه رحمة الرب عز وجل فتحول بينه وبين أيوب، فلما اشتد به البلاء, وكان في آخر بلية, جاءه أصحابه فقالوا له:

    يا أيوب ما نعلم أحدا ابتلي بمثل هذه البلية إلا لسريرة سوء، فعلك أسررت سوءا في الذي تبدي لنا، قال: فعند ذلك ناجى أيوب ربه عز وجل فقال: رب ابتليتني بهذه البلية وأنت أعلم أنه لم يعرض لي أمران قط إلا ألزمت أخشنهما على بدني، ولم آكل أكلة قط إلا وعلى خواني يتيم، فلو أن لي منك مقعد الخصم لأدليت بحجتي، قال فعرضت له سحابة  فنطق فيها ناطق فقال: يا أيوب أدل بحجتك.

    قال: فشد عليه مئزره وجثا على ركبتيه فقال: ابتليتني بهذه البلية وأنت تعلم أنه لم يعرض لي أمران قط إلا ألزمت أخشنهما...قال: فقيل له: يا أيوب من حبّب إليك الطاعة ؟ قال: فأخذ كفّا من تراب فوضعه في فيه ثم قال: أنت يا رب)([9]).

  الأسلوب الإلهي في شفاء أيوب(ع):

     ]وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[  بهذه الكلمات عرض أيوب(ع) سوء حاله على ربه دون أن يضج بشكواه ويصرخ بمعاناته, فقد طال عليه أمد البلاء وأخذت ألسنة الشامتين تلوك الأقوال الباطلة بشأنه وتزعم أن ما به من بلايا هو من اجتراحه الذنوب والآثام.

    وكانت هذه الأقاويل أشد ألما عليه من أية مصيبة أخرى, فتوجه الى الله بقلب منكسر من دون أن تنسيه أوجاعه أدب الدعاء مع الله تعالى, فلم تتأخر إجابة هذا العبد التقيّ الأبيّ الصابر, فقد نظر إليه سبحانه بعين الرحمة وأزال ما به من الأسقام] فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ [ 

    وردّ عليه أهله وماله وولده وزرعه ومثلهم معهم] وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ[, وجاء أسلوب إبرائه من سقمه بطريقة ربانية ملؤها الرحمة] ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ[ فامتثل(ع) للأمر الإلهي, فنبعت له عين باردة اغتسل بها وشرب منها, فبرء من سقمه بإذن الله تعالى .

 عبر ودروس من صبر أيوب(ع):

1)     الامتحان الإلهي:

    بُنيت الحياة الإنسانية على أساس الامتحان والتجربة, ومن دون هذا الامتحان لا تتفجر الإمكانات والطاقات الكامنة في الإنسان, (فالبلاء يكون أحيانا وسيلة لتفتّح الاستعدادات المخزونة والكمالات النفسية المكنونة, ...ويكون أحيانا أخرى سلما لبلوغ المبتلى أعلى الدرجات, وفي هذا الإطار يأتي ابتلاء أيوب(ع) وغيره من الأنبياء والأولياء)([10]).

    فلا ينبغي اعتبار البلاء دائما دليلا على سخط الله وغضبه بسبب العصيان وارتكاب الذنوب والآثام؛ لأن الدنيا دار عمل واختبار, عن الإمام علي(ع) أنه قال ((إن البلاء للظالم أدب, وللمؤمن امتحان, وللأنبياء درجة))([11]) .



2)     الصبر على المصيبة :

    كان صبر النبي أيوب(ع) صبرا على المصيبة, وعلى الرغم من طول أمدها لم ينبس بكلمة شكوى أو اعتراض أو جزع, لذا وصفه سبحانه بقوله] إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ[([12]) أي وجدناه صابرا على البلاء الذي ابتليناه به أوّاب رجّاع الى ربه منقطع إليه.

    فالصبر الجميل والشكر الجزيل يعقبه الظفر والانتصار ونيل المقام المحمود والمنزلة الرفيعة عند الباري عز وجل, وهذا درس بليغ لنا يدعونا الى أن نتعلم من نبي الله أيوب(ع) كيف نصبر ونتحمل الصعاب وكيف نقف أمامها بثبات العقيدة وقوة الإيمان .

3)     العوض عند الله:

   إن الابتلاء بالمحن والبلايا ربما يرافق فوات بعض المصالح والمنافع, إلا أن الله تعالى يعوض الإنسان ما فاته كما نرى في قصة أيوب حيث آتاه أهله ومثلهم معهم([13]), وإن لم يعوضها في عاجل الدنيا فهي لمصلحة ما له, ولحكمة خافية عليه, فيدّخرها له في الآخرة زادا وذخيرة, ويؤجره على ما فاته جنة الخلد إن هو احتسبها عند الله ولم يجزع, فلا شيء يفوته عند ربه, وسيجد الله رحيما ودودا فيوفيه حسابه .

4)     الفرج بعد الشدة :

   عندما تشتد الأمور وتتكاثر أمواج الحوادث والبلايا على الإنسان وتحيط به من كل جانب عليه أن لا ييأس أو يفقد الأمل ]وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ[([14]) وإنما ينبغي أن يدرك أنها بداية تفتّح أبواب الرحمة الإلهية عليه, كما يقول أمير المؤمنين(ع) ((عند تناهي الشدة تكون الفرجة, وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء))([15]) .

5)     المقربون الى الله : 

   ليس أحباء الله والمقربون اليه أولئك الذين يذكرون الله إن أنعم عليهم, وإنما هم الذين يذكرون الله دائما في السراء والضراء, وفي الرخاء والبلاء, وفي العافية والمرض, وفي الغنى والفقر, ويشكرون الله ويحمدونه على كل حال, فلا تترك تأثيرات الحياة ومشاكلها المادية على إيمانهم أدنى أثر, (واعلم ان الإمكانات المادية والثروة ليست دليلا على بُعد الإنسان عن الله تعالى وإنما الكلام هو: أن لا يكون الإنسان عبدا لأمواله وأولاده ومقامه الدنيوي, وإن فقدها لا يفقد الصبر معها, كم من أثرياء أحسنوا الاستفادة من ثرواتهم وأموالهم وأنفقوها في سبيل الله كما كان يفعل الأنبياء والأئمة الأطهار(ع) ومحبيهم)([16]) . 
 

حِكَم أيوب(ع) ومواعظه :    

     روي أن إبليس تمثل للنبي أيوب(ع) بأحد عبيده ثم جاء إليه وقال له: (يا أيوب هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترته وعبدته بإبلك ورعاتها؟ قال أيوب: إنها ماله أعارنيه وهو أولى به, إذا شاء تركه وإن شاء نزعه, وقديما ما وطنت نفسي ومالي على الفناء, فقال إبليس: وإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فاحترقت كلها, قال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني, عريانا خرجت من بطن أمي, وعريانا أعود في التراب, وعريانا أحشر الى الله تعالى, ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك الله, وتجزع حين قبض عاريته)([17]).

    وهناك رواية طويلة نقتطع منها ما يتعلق بنبي الله أيوب(ع), حيث جاء فيها:
(... ويجاء ـــ يوم القيامة ـــ بصاحب البلاء الذي قد أصابته الفتنة في بلائه فيقول: يا رب شددت علي البلاء حتى افتتنت, فيؤتى بأيوب(ع) فيقال: أبليتك أشدّ أو بلية هذا؟ فقد ابتلي فلم يفتتن)([18]) .

    وفي إحدى محاورات أيوب مع زوجه إذ أظهرت جزعها فأغضبته, فقال: (ويلك أرأيت ما كنا فيه من المال والولد والصحة ؟ من أعطانيه ؟ قالت: الله، قال: فكم متعنا به ؟ قالت: ثمانين سنة، قال: فمذ كم ابتلاني الله تعالى بهذا البلاء ؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر، قال: ويلك والله ما عدلت ولا أنصفت ربك، الا صبرت في البلاء الذي ابتلانا الله به ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة ؟)([19]).

    هذه الرواية تخبرنا بالمدة التي قضاها أيوب(ع) في سقمه, إلا ان رواية أخرى تقول غير ذلك, فعن أنس بن مالك قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه واله: إن أيوب نبي الله لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة((([20]), وأياً كانت المدة فقد قضاها(ع) صبرا واحتسابا وحمدا وشكرا, وهذه أعظم موعظة لنا لنهيئ أنفسنا لتحمّل الشدائد أنّا كانت ومهما طالت, بقلب مفعم بالإيمان, وعامر بالشكر والعرفان .


الدكتورة نهضة الشريفي

الهوامش :



([1]) سورة الأنعام : 84
([2]) ظ قصص ومواعظ من حياة الأنبياء , مرتضى الميلاني : 184
([3]) سورة الأنبياء : 83
([4]) سورة الأنبياء : 84
([5]) سورة ص : 41
([6]) سورة ص : 42
([7]) سورة ص : 43
([8]) سورة ص : 44
([9]) بحار الأنوار : 12/ 345 ـ 246 , الباب العاشر , قصص أيوبC, الرواية الخامسة
([10]) القصص القرآنية , جعفر سبحاني : 2/ 21
([11]) بحار الأنوار : 67/ 235 , الحديث 54
([12]) سورة ص : 44
([13]) القصص القرآنية , جعفر سبحاني : 2/ 22
([14]) سورة يوسف : 87
([15]) نهج البلاغة : الكلمة 351
([16]) حكم ومواعظ من حياة الأنبياء , مرتضى الميلاني : 190
([17]) قصص الأنبياء , نعمة الله الجزائري : 235
([18]) بحار الأنوار : 12/ 341 , باب قصص أيوب , الحديث الثاني
([19]) م . ن : 12/ 369
([20]) م . ن : 12/ 367

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات