القائمة الرئيسية

الصفحات



سوء عاقبة قارون



سوء عاقبة قارون 

انظر الى سوء عاقبة قارون حين بغى وتكبر فخسف الله به وبداره الأرض


      ورد ذكر (قارون) في أربعة مواضع من القرآن الكريم, مرتين في سورة القصص, وفي سورتي العنكبوت وغافر, وقد ذكر الله تعالى قصته (بعد ما حكى قول المشركين ]وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا[([1])... ليعتبروا بها, فقد كانت حاله تمثل حالهم ثم أدّاه الكفر بالله الى ما أدى من سوء العاقبة, فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصابه, فقد آتاه الله من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة, فظنّ أنه هو الذي جمعه بعلمه وجَودة فكره وحسن تدبيره فأمن العذاب الإلهي...وبغى الفساد في الأرض فخسف الله به وبداره الأرض)([2]).

 
]      إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [([3]).


        ]فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِين أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[ ([4]). 

        
   جاء في (بحار الأنوار) أن قارون كان أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون, وأفضلهم وأجملهم، ولم يكن فيهم أحسن قراءة للتوراة منه، ولكنه نافق كما نافق السامري فبغى على قومه, وكان أول طغيانه أنه تكبّر واستطال على الناس بكثرة الأموال، فكان يخرج في زينته ويختال، ولا يزيد كل يوم إلا كبرا ومخالفة ومعاداة لموسى(ع), حتى بنى دارا وجعل بابها من الذهب، وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه([5]), وقيل (كان قارون ابن عم موسى(ع))([6]).

علة الخسف وانطباق الأرض عليه:


      أما العلة المباشرة لخسف الله به وبداره الأرض, فقيل: إن الله تعالى أنزل الزكاة على موسى(ع) , فأبى قارون فجمع بني إسرائيل وقال لهم : إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تأتوا بفلانة البغي, فنجعل لها جعلا على أن تقذفه بنفسها، فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فاسترحنا منه .


    ثم أتى موسى، فقال قارون له : إن بني إسرائيل قد اجتمعوا ينتظرون خروجك لتبين لهم أعلام دينهم وأحكام شريعتهم، فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض، فقام فيهم خطيبا ووعظهم, وقال فيما قال: يا بني إسرائيل من زنا وليست له امرأة جلدناه مائة، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت، فقال له قارون: وإن كنتَ أنت ؟ قال: وإن كنتُ أنا. 


    قال قارون: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة أنا فعلت لك ما يقول هؤلاء ؟ وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت، فلما ناشدها عظم عليها وتداركها الله بالتوفيق, فقالت: لا، كذبوا، ولكن جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي، فلما تكلمت بهذا الكلام أسقط في يد قارون ونكس رأسه وسكت الملأ وعرف أنه وقع في مهلكة.


   وخرّ موسى ساجدا يبكي ويقول: يا رب إن عدوك قد آذاني وأراد فضيحتي وشيني، اللهم فإن كنت رسولك فاغضب لي وسلّطني عليه، فأوحى الله سبحانه أن ارفع رأسك ومُر الأرض بما شئت تطعك، فخشي الناس العقاب واعتزلوا قارون ولم يبق معه إلا رجلان، ثم قال موسى(ع) : يا أرض خذيهم , وردّدها كرّة بعد أخرى وقارون وصاحباه يغورون شيئا فشيئا ويتضرعون إلى موسى(ع) ويناشده قارون الله والرحم ، حتى روي أنه ناشده سبعين مرة ، وموسى في جميع ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ، ثم قال: يا أرض خذيهم، فانطبقت عليهم الأرض([7]) .




موقفنا من أشباه قارون المعاصرين:


      إن هذا الوهم والزعم الذي ابتلي به قارون, بأن الذي حصّل له الكنوز وساق اليه القوة والجمع هو نبوغه العلمي في اكتساب العزة, وقدرته النفسانية لا غير, هو (مزعمة عامة بين أبناء الدنيا لا يرى الواحد منهم فيما ساقه إليه التقدير ووافقته الأسباب الظاهرة من عزة عاجلة وقوة مستعارة إلا ان نفسه هي الفاعلة له وعلمه هو السائق له إليه وخبرته هي الماسكة له لأجله)([8]) .


      فقد جسد هذا النموذج البشري القاروني الصورة الحية للإنسان الذي يمثل المال بالنسبة له قيمة حياتية كبرى, تتضخم بها شخصيته ليشعر بالزهو والخيلاء, فيملك عليه كل مشاعره وأفكاره حتى ينسى ربه وينسى نفسه, وتتساقط أمامه كل القيم والمقدسات, وتختلط الأشياء في ذهنه فلا يبصر إلا من خلال المال ولا يفكر إلا به.


      لذلك لابد للمصلحين والمثقفين الواعين من التصدي لهؤلاء وأمثالهم, والوقوف بوجههم للحد من تيار الانحراف والمرض والتلوث الذي قد يستشري في أوساط المجتمع إن أهمل وترك من دون علاج, وذلك بالاستفادة من المواقف والأحداث التي حصلت في تفاصيل قصة قارون, والاعتبار بها.
      ومما يجب  عمله في هذا الصدد([9]) :

1)   كشف أشباه قارون :


       لابد من كشف من يقتدي بقارون وأتباعه وتعريتهم للناس لئلا يتحولوا الى أداة تسلّط وتحكّم وتضليل في المجتمع, وذلك بإبراز الخصائص المشتركة بينهم وبين قارون المذكور في القرآن, وهذا يضفي على عملية الكشف قداسة قرآنية تبعده عن الطابع الذاتي أو السياسي الضيق؛ لأن مثل هؤلاء المنحرفين قد يتركون انطباعات سيئة عن الإسلام وتأثيرات سلبية على حياة المجتمع من خلال سياسة التجويع والإفقار, والظلم والاستغلال .


2)   الاستفادة من الحوار:


       محاولة الاستفادة من الحوار القصير بين قارون وبين المؤمنين من قومه في توضيح النظرة الإسلامية الى الدنيا والآخرة ]إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[, وتعديل النظرة الى موقف الإنسان من المال وطريقة استثماره وإنفاقه واستخدامه في أهداف الحياة, لنخرج من ذلك الى تأكيد خطة التوازن التي يرسمها الإسلام للإنسان بعيدا عن أي انحراف أو إغراق أو تطرف, فلابد للمؤمن من اعتبار الآخرة هدفا ينظر إليه ويحسب حسابه في كل عمله .

3)   اصطفاء الأسلوب الأمثل :


      ينبغي اصطفاء أسلوب جيد ومناسب في التعامل مع البسطاء الضعفاء المسحورين بثراء قارون, الخاضعين لسلطانه وطغيانه, بتذكيرهم بثواب الآخرة وإنه خير للمؤمنين الذين يعملون الصالحات من كل شيء؛ لأنه الباقي الذي يلتقيه الإنسان في الدنيا والآخرة, والاستفادة العملية من النهايات السيئة لأمثال هؤلاء لاسيما ما يوحي منها بالعقوبة الإلهية.


   وذلك لكي يستيقظوا من حالة الغفلة والذهول, ويعتبروا بالواقع المرعب الذي انتهى إليه قارون حيث لم ينفعه ماله في دفع الضرر عنه, ويصلوا الى قناعة تامة بأن الخط القاروني على ضلال, كما اقتنع الملأ من قوم قارون ]وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [ .


الدكتورة نهضة الشريفي

الهوامش :



([1]) سورة القصص : 57
([2]) الميزان : 16 / 76
([3]) سورة القصص : 76 ـ 78
([4]) سورة القصص : 79 ـ 82
([5]) ظ بحار الأنوار :  13 / 254 , الباب الثامن , قصة قارون
([6]) قصص الأنبياء , القطب الراوندي : 1/ 413
([7]) ظ بحار الأنوار :  13 / 256 ,  257  , الباب الثامن , قصة قارون
([8]) الميزان : 16 / 78
([9]) الحوار في القرآن (بتصرف)  , محمد حسين  فضل الله: 344 ـ 347

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات