شمولية القرآن الكريم لكل العلوم
أفاض القرآن الكريم بنوره على قلوب المؤمنين من لطائف وإشارات وإيحاءات وإضاءات
علمية , وبدعوته للتفقه في الدين ورسم طريق الهداية والصلاح والعمل على نشر العلم
وتعلّمه , تلبية لله تعالى ومعرفته والتقرب إليه (( فمن عرف نفسه فقد عرف ربه))[1] ، والله
تعالى اوضح لنا سبل معرفته من خلال تدارس العلوم ومعرفة النفس الانسانية والتسليم
بعزّ الربوبية لله , وذلّ العبودية للعبد كي نصل الى رضوانه ونفوز بجنته .
القرآن تبيان لكل شيء:
قال الله الحكيم في كتابه الكريم :
) وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ
فَهَلۡ مِن مُّدَّكِر([2] .
) بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ
ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بَِٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ([3] .
) وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ
وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ([4] .
اشار القرآن الكريم الى العديد من العلوم كالرياضيات والفيزياء والكيمياء،
اجمالاً تارة وتفصيلاً تارة اخرى , وكثير من العلماء المسلمين والمستشرقين أثبتوا
ان تلك العلوم ليست جديدة وإنها ذكرت في القرآن الكريم والروايات الشريفة قبل أكثر
من أربعة عشر قرناً .
فهناك فئة حاولت اثبات ذلك من خلال
تفسير الآيات العلمية في القرآن الكريم والاستدلال بآيات تثبت ذلك كما في آية: )... تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ
شَيۡءٖ...([5] ، وآية: ) مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ( [6].
وهناك فئة أخرى قالت ان القرآن الكريم لا يحتوي على جميع العلوم، بل هو
كتاب هداية للبشرية وحسب , وزعموا ان القائلين بالتفسير العلمي المستدلين بالآيات
السابقة عليه انما ترتبط شواهدهم بالتعبد والتكليف، والمقصود من "
الكتاب" في الآية الثانية اللوح المحفوظ[7]
، وسنعرض لهذه الفئة في مبحث آخر .
في هذا المبحث سنقف عند الفئة الأولى التي تتبنى نظرية ان القرآن الكريم
كتاب علمي شامل لكل العلوم وليس له نظير على وجه البسيطة .
القرآن شامل لكل العلوم :
هدف
هذه الفئة التي ترى ان القرآن شامل لكل العلوم هو ما أوضحه د . مهدي كلشني في بحثه
" البعد العلمي للقرآن الكريم" حيث قال: الهدف الأساس لهذه الفئة هو تبيين
الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في مجال العلم أولاً، ومن ثم اثبات عظمة القرآن
لأتباع الأديان الأخرى من جهة، وحث المسلمين على الافتخار بمثل هذا الكتاب العظيم
من جهة أخرى"[8] .
ووافق الغزالي ذلك بقوله : " من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر
القرآن"[9] وقال أيضا
: " وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله وصفاته , وفي القرآن شرح ذاته
وأفعاله وصفاته , وهذه العلوم لا نهاية لها , وفي القرآن إشارة الى مجامعها "[10] .
كما أن السيوطي أيّد هذا الرأي في كتابه " الإتقان" من خلال
استشهاده بالآيات الكريمة:
)... مَّا فَرَّطۡنَا
فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ(
) وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا
لِّكُلِّ شَيۡءٖ (
وجاء في الحديث الشريف : (( قال صلى الله عليه وآله وسلم : ستكون فتن , قيل
وما المخرج منها , قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ))[11] .
وأضاف السيوطي : " قد اشتمل كتاب
الله العزيز على كل شيء , أما أنواع العلوم فليس منها باب و مسألة هي أصل إلا وفي
القرآن ما يدل عليها , وفيه عجائب المخلوقات , وملكوت السماوات والأرض , وما في
الأفق الأعلى وتحت الثرى وبدء الخلق "[12]
.
وهذا ما أيده عبد الرحمن الكواكبي حيث يعتقد أن اكتشافات العلم في القرون
الأخيرة أوضحت حقائق وطبائع كثيرة تعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوروبا
وأمريكا , حيث أن المتأمل في كتاب الله تعالى يجد معظمها ورد إما بالتصريح أو
التلميح، وهذا شاهد بأنه كلام أحد لا يعلم الغيب سواه [13].
وكثر الدفاع عن هذا الرأي بتأليف الحروف، وجمع المعلومات، والتفسير العلمي،
وعقد المؤتمرات، والكثير من جهود العلماء والمفكرين وطلاب العلم، لإثبات أن القرآن
يحوي على جميع العلوم سواءً بآية صريحة أو بإشارة سريعة .
قال عبد الرزاق نوفل في كتابه " القرآن والعلم الحديث " : " ان حديث العلم هو القول الفصل الذي لا
يستطيع أي مكابر أن يجادل معه ويشك فيه ..أوَ لا يكون إعجاز القرآن العلمي بذلك هو
السبيل الى تبليغ الدعوة الإسلامية لغير العرب؟ ان اليوم الذي نترجم فيه على
العالم , بلغاته المختلفة , ما قد سبق القرآن الى القول به , وأثبته التقدم العلمي
في مختلف العلوم , لهو اليوم الذي نكون فيه قد أدينا الرسالة , وأبلغنا الدعوة ,
وأظهرنا معجزة القرآن لغير العرب "[14].
وفي ترجمة لكتاب العهدين " القرآن والعلم " لموريس بوكاي :
" الوحي القرآني ليس فقط يرينا من التناقضات التي توجد في روايات
الأناجيل وذلك بسبب تلاعب أيدي البشر بها، بل إذا نظرنا للقرآن تحت ظلال العلم نجد
سمة أخرى تخص هذا الكتاب وهي التناغم الكامل بين القرآن وبين نتائج العلوم الحديثة،
إضافة الى هذا فإننا نجد في القرآن الكريم موضوعات ونكات علمية , موضوعات ونكات لا
يقدر ان يأتي بها إنسان عاش زمن النبي (ص) ، وهذه في الواقع علوم حديثة تساعد على
فهم بعض الآيات القرآنية التي تعذر تفسيرها حتى الآن "[15] .
مما دعا البعض الى تطبيق لفظ " ذرة " في قوله تعالى : ) وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا
فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ([16] على كلمة " النواة " مع ان
المتعارف ان معناها - أي الذرة – النملة الصغيرة أو الدقيقة من الغبار[17].
كما انه لا يوجد دليل على ان الله تعالى استعمل مصطلحاً غير مفهوم خاطب به
معاصري نبيه (ص)[18] .
وان " محاولة تطبيق كتاب سماوي على العلم الحديث لا تنحصر بالمسلمين،
فالنصارى أيضا حاولوا تطبيق الإنجيل على العلوم الحديثة، وهكذا فعل اليهود
بالتوراة "[19] .
لنا جولة أخرى مع القائلين بأن القرآن كتاب هداية فحسب .
د. نهضة الشريفي
[1] نهج
البلاغة , الشريف الرضي
[2] القمر 17
[3] العنكبوت
49
[4] النحل
89
[5]
النحل 89
[6]
الانعام 38
[7] ظ
التفسير والمفسرون , الذهبي , 54
[8] البعد
العلمي في القرآن الكريم , مجلة آفاق الحضارة الإسلامية , مهدي كلشني , 374
[9]
احياء علوم الدين , أبو حامد الغزالي , ج1 289
[10] المصدر نفسه
[11]
سنن الترمذي , الامام الترمذي , باب فضل القرآن , 176
[12] الإتقان في علوم القرآن , جلال الدين السيوطي
, 160
[13] ظ , طبائع الاستبداد
ومصارع الاستعباد , عبد الرحمن الكواكبي , 42
[14] القرآن والعلم
الحديث , عبد الرزاق نوفل , ص26
[15] القرآن والعلم , موريس بوكاي , 62
[16] يونس 61
[17] ظ التفسير الكاشف ,
محمد جواد مغنية , ج4 , 173
[18] ظ
التفسير والمفسرون , محمد حسين الذهبي , ج2 , 485
[19]
البعد العلمي للقرآن الكريم , الدكتور مهدي كلشني , ص 379
تعليقات
إرسال تعليق