القائمة الرئيسية

الصفحات

 

موقف الملائكة من خلافة آدم عليه السلام

موقف الملائكة من خلافة آدم عليه السلام

    قال تعالى ]وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[([1]).

    لماذا جعل الله خليفة على الأرض؟ وما وجه اعتراض الملائكة على مسألة الخلافة؟ كيف علموا  بسفك الدماء والفساد في الأرض من بني آدم مع كونه أمرا مجهولا وفي عداد الغيبيات؟

    هذا من أعاظم حكمة الله تعالى إذ اقتضت مشيئته أن يخلق على وجه البسيطة مخلوقا انسيا، يكون فيها خليفته، ويحمل إشعاعا من صفاته، وتسمو مكانته فوق مكانة الملائكة، وشاء أن تكون هذه الأرض وما فيها من نعم وكنوز ومعادن وإمكانات تحت تصرف هذا الآدمي.

    كما اقتضت حكمته تعالى أن يهب لهذا الموجود ملكات العقل والشعور والإدراك والكفاءة الخاصة كيما يتمكن من قيادة الموجودات الأرضية.

موقف الملائكة من الخلافة:

   جاء التساؤل من الملائكة الى الله تعالى غريبا وجريئا: ]قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ[([2])، وكان الردّ مبهما وغامضا من قِبل الله تعالى: ]قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[([3]).

    إن موقف الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله تعالى، ولا حسدا لبني آدم، كما قد يتوهمه البعض، حاشاهم، فهم عباد مكرمون، ]بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ[([4]) خاضعون لله مطيعون له ومسبحون بحمده ]وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ[([5])، ]وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ[([6])، ]يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً[([7])، والله تعالى وصفهم بأنهم لا يسبقونه بالقول ]لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ[([8]) ، أي: لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه.

    إذن لم يكن هذا اعتراضا من الملائكة على الله تعالى ولكنه كان سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون : يا ربنا، ما الحكمة في خلق هؤلاء البشر مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك، فها نحن نسبح بحمدك ونقدس لك، ونصلي لك، ولا يصدر منا شيء من الفساد والظلم، فهلا وقع الاقتصار علينا ؟ وهنا قال تعالى مجيبا عن هذا السؤال ]إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[ .

كيف علم الملائكة بسفك الدماء؟

    هذا هو السؤال المهم، فإن الملائكة كانوا عالمين - كما يبدو من تساؤلهم - أن هذا الإنسان سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، فكيف عرفوا ذلك؟!

    ثمة فرضيات وآراء للعلماء والمفسرين المتقدمين والمتأخرين بهذا الشأن، نقتطف بعضا منها:

1.   إن الله سبحانه أوضح للملائكة من قبلُ على وجه الإجمال مستقبل الإنسان، فأعلمهم بما يفعل ذرية آدم ، فقالت الملائكة ذلك . نُقل عن ابن عباس : أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت الملائكة ذلك، فقاسوا هؤلاء بأولئك.

2.   إن الملائكة فهموا ذلك من خلال عبارة (في الأرض)، لأنهم علموا أن هذا الإنسان يخلق من التراب، والمادة لمحدوديتها هي مركز للتنافس والنزاع. وهذا العالم المحدود المادي لا يستطيع أن يشبع طبيعة الحرص في الإنسان، ولو وضعت الدنيا بأجمعها بحوزة الإنسان وملك يمينه فقد لا تشبعه ويطمع في المزيد، وهذا الوضع - إن لم يقترن بالالتزام وتحمل المسؤولية – يؤدي حتما إلى الفساد وسفك الدماء .

3.   إن تنبؤ الملائكة يعود إلى تجربتهم السابقة مع مخلوقات سبقت آدم وهذه المخلوقات تنازعت وسفكت الدماء وخلفت في الملائكة انطباعا سيئا عن موجودات الأرض.

4.   إن الملائكة يعلمون أن الهدف الظاهر من الخلقة هو العبودية والطاعة، وكانوا يرون في أنفسهم مصداقا كاملا لذلك، فهم في العبادة غارقون، ولذلك فهم - أكثر من غيرهم - للخلافة لائقون. فمرادهم هو القول بأن الهدف اذا كان هو الطاعة والعبودية فنحن على أتم الاستعداد، ولو كان هو العبادة فنحن في هذه الحالة دائما، واذا كان المقصود هو تطهير النفس أو تطهير الارض فسوف ننفذ هذا الأمر، في حين أن الانسان المادي مضافا إلى فساده، فإنه يفسد الأرض.

5.   إن قوله تعالى: ]قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ[ مشعر بأنهم انما فهموا وقوع الافساد وسفك الدماء من عبارة : ]إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[، حيث أن الموجود الأرضي بما انه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية، والدار دار تزاحم، محدودة الجهات، وافرة المزاحمات، مركباتها تؤول الى الانحلال، وأنظمتها واصلاحاتها في معرض الفساد ومصب البطلان، لا تتم الحياة فيها الا بالحياة النوعية، ولا يكمل البقاء فيها الا عن طريق تكوين المجتمعات والتعاون فيما بين أفرادها، فمن الطبيعي بحكم الاختلاط والاحتكاك انها لا تخلو من الفساد وسفك الدماء.

6.   إن جعل الخلافة انما هو لأجل ان يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده، وطبيعته الأرضية وانتماؤه اليها لا تدعه يفعل ذلك بل تجره إلى الفساد والشر، والغاية من هذا الجعل - وهي التسبيح والتقديس - حاصلة بتسبيحنا بحمدك وتقديسنا لك، فنحن خلفائك أو فاجعلنا خلفاء لك، فما فائدة جعل هذه الخلافة الأرضية لك؟

   فرد الله تعالى ذلك عليهم بقوله: ]إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[ ، وعلم آدم الأسماء كلها.

الملائكة في المحكّ:

    ان قول الله تعالى للملائكة ]إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[  يعني: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم؛ فإني سأصطفي منهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، وأجعل فيهم الصديقون والشهداء والصالحون، والزهاد والأولياء، والأبرار والمقربون، والعلماء العاملون والخاشعون، والمحبون لي والمتبعون رسلي .

    ماذا تعرف الملائكة من أبناء آدم أمثال النبي العظيم محمد ص، والأنبياء إبراهيم ونوح وموسى وعيسى والأئمة من أهل البيت عليهم السلام، وعباد الله الصالحين والشهداء والمضحون من الرجال والنساء الذين قدموا أرواحهم ووجودهم على مذبح العشق الإلهي، والذين تساوي ساعة من تفكرهم دهرا من عبادة الملائكة.

   ومن أجل أن تنجلي الحقيقة أمام الملائكة وضعهم الله تعالى في هذا المحكّ ليتحسسوا البون الشاسع بينهم وبين آدم ع ، والملاحظ أن الملائكة ركنوا في بيان فضلهم إلى ثلاثة أمور: التسبيح، والحمد، والتقديس

    إن الملائكة لم يكونوا عالمين أن بين عبادة الإنسان المليء بألوان الشهوات، والمحاط بأشكال الوساوس الشيطانية والمغريات الدنيوية وبين عبادتهم، - وهم مجردون من كل هذه المغريات - بون شاسع، فأين عبادة هذا الموجود الغارق وسط الأمواج العاتية، من عبادة تلك الموجودات التي تعيش على ساحل آمن؟!!

    وكان آدم يملك - بقدرة الله قابلية - خارقة لفهم الحقائق، وشاء الله أن ينقل هذه القابلية من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل، وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله: ] وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ...[([9]) وأمام هذا الاختبار تراجع الملائكة لأنهم لم يملكوا هذه القدرة العلمية التي منحها الله لآدم، ]قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[([10]). 

    وحان الدور لآدم کي يشرح أسماء الموجودات وأسرارها أمام الملائكة: ]قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [([11])، وهنا اتضح للملائكة أن هذا الموجود هو وحده اللائق لاستخلاف الأرض.    

    وهكذا أدركت الملائكة تلك القدرة التي يحملها آدم ع، والتي جعلته لائقا لخلافة الله على الأرض. وفهمت مكانة هذا الكائن في الوجود.

   والإمام جعفر بن محمد الصادق ع يشير أيضا إلى هذا المعنى وهو: أن الملائكة لما وقفوا على عظيم منزلة آدم واولاده عند الله تعالى علموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته.

ما معنى الخلافة؟

    معنى الخليفة الفعلية من قولنا ، خلف فلان فلانا في هذا الأمر : إذا قام مقامه فيه بعده، والخلافة هي قيام شيء مقام آخر، ولا تتم إلا بكون الخليفة حاكيا للمستخلف في جميع شؤنه الوجودية وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف، والله تعالى في وجوده له الأسماء الحسنى والصفات العليا، الجمالية والجلالية، منزه في نفسه عن النقص ومقدس في فعله عن الشر والفساد جلّ جلاله، والخليفة الأرضي بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف ولا يحكي بوجوده المشوب بكل نقص وشين الوجود الإلهي المقدس المنزه عن جميع النقائص وكل الاعدام، فأين التراب ورب الأرباب.

    وعلى هذا فإن الخلافة ليست مقتصرة على شخص آدم عليه السلام، بل ان ذريته وبنوه يشاركونه فيها، فإن المعنى العام الشامل للخليفة هو: قوم يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، والدليل على عموم الخلافة قوله تعالى:

]وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ[([12]).

]ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ[([13]).

]وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ[([14]).  

]وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ[([15]).

]فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ[([16])

الملائكة لا تتحمل الخلافة:

    إن الله تعالى لم ينف الكلام الذي صدر من الملائكة عن خليفة الأرض بشأن الفساد وسفك الدماء، ولم يكذبّهم في دعواهم التسبيح والتقديس، وأقرهم على دعواهم، بل انما أبدا شيئا آخر وهو أن هناك أمرا لا يقدر الملائكة على حمله ولا تتحمله، ويتحمله هذا الخليفة الأرضي، فإنه يحكي عن الله تعالى أمرا، ويتحمل منه سرا ما بوسع الملائكة تحمّله، ولا محالة يتدارك بذلك أمر الفساد وسفك الدماء.

   والله تعالى أجاب الملائكة بادئ ذي بدء ]إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[  ثم وجه اليهم الخطاب ثانية بعدما انبأهم آدم ع بالأسماء ]قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ[.

    والمراد بهذا الغيب في الآية هو الأسماء التي علم الله تعالى آدم ع بها، فإن الملائكة ما كانت تعلم أن هناك أسماء لا يعلمونها، وإلا لما كان لسؤاله تعالى إياهم عن الأسماء وجه، ولو كانوا يعلمون بوجود اسماء مبهمة بالنسبة لهم لكان المقام يستدعي أن يقتصر بتوجيه الأمر الى آدم بأن ينبئهم بالأسماء، حتى يتبين لهم أن آدم يعلمها ولا معنى أن يسئل الملائكة عن هذه الأسماء.

    أما ما هي هذه الأسماء وما سرّها وما قدرها حتى رفعت هذا الخليفة الأرضي وجعلته مسجودا للملائكة النورانيين؟ ستجد الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها في بحثنا:

 سر الأسماء التي تعلمها آدم عليه السلام

الدكتورة نهضة الشريفي


([1]) سورة البقرة: 30

([2]) سورة البقرة: 30

([3]) سورة البقرة: 30

([4]) سورة الأنبياء: 26

([5]) سورة الرعد: 13

([6]) سورة الزمر: 75

([7]) سورة النبأ: 38

([8]) سورة الأنبياء: 27

([9]) سورة البقرة: 31

([10]) سورة البقرة: 32

([11]) سورة البقرة: 33

([12]) سورة الأعراف: 69

([13]) سورة يونس: 14

([14]) سورة النمل: 62

([15]) سورة الزخرف: 60

([16]) سورة مريم: 59

المصادر:

تفسير القرآن العظيم- ابن كثير

قصص القرآن – ناصر مكارم الشيرازي

الميزان في تفسير القرآن – محمد حسين الطباطبائي

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات