القائمة الرئيسية

الصفحات



أبحاث في مسائل جمع القرآن


أبحاث في مسائل جمع القرآن

 

    نزل القرآن الكريم الى الحياة الدنيا مرتين، الأولى دفعة واحدةً من اللوح المحفوظ في الملأ الأعلى، إلى وجه البسيطة على قلب النبي ص ليلة القدر المباركة، ثمّ نزل منجما على مدى ثلاثٍ وعشرين سنةٍ، وقد تضاربت الأقوال والنقول في كيفية الجمع وزمانه.

جمع القرآن في حياة الرسول(ص) :

    المعروف عن رواة الآثار، وعند الباحثين عن شؤون القرآن منذ الصدر الأوّل وإلى يومنا هذا، أن جمع القرآن قد حصل بعد وفاة الرسول(ص)، ويوشك أنّ يتّفق عليه كلمة أرباب السير والتواريخ، ولكن مع ذلك نجد من ينكر ذاك التفصيل في جمع القرآن، ويرى أنّ القرآن بنظمه القائم وترتيبه الحاضر كان قد حصل في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله).

    وقد ذهب إلى هذا الرأي جماعة من علماء السلف كالقاضي وابن الأنباري والكرماني والطيبي، ووافقهم السيد المرتضى(قدس سره) قال: كان القرآن على عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) مجموعًا مؤلفًا على ما هو عليه الآن.

    واستدلّ السيد المرتضى على ذلك بأنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عيّن جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنّه كان يعرض على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويتلى عليه. وإنّ جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأُبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ (صلى الله عليه وآله) عدّة ختمات. وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمل على أنّه كان مجموعًا مرتبا غير مبتور ولا مبثوث.

معنى حفظ القرآن :

    يمكن مناقشة كلام السيد المرتضى بشأن حفظ القرآن وختمه في زمن الرسول ص بافتراض أنه قد يكون حفظ القرآن هو بمعنى حفظ جميع سوره التي اكتملت آياتها، سواء أكان بين السور ترتيب أم لا.

    وهكذا ختم القرآن هو بمعنى قراءة جميع سوره من غير لحاظ ترتيب خاصّ بينها. أو الحفظ كان بمعنى الاحتفاظ على جميع القرآن النازل والتحفظ عليه دون الضياع والتفرقة، الأمر الذي لا يدلّ على ضرورة وجود ترتيب خاصّ كان بين سوره كما هو الآن.

رأي السيد الخوئي قدس سره: 

    ذهب السيد الخوئي قدس سره إلى ترجيح القول  بأنّ القرآن كان قد جمع في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله)، نظرًا إلى الأُمور التالية:

أوّلاً: أحاديث جمع القرآن متناقضة

    إن أحاديث جمع القرآن بعد وفاة النبيّ ص بنفسها متناقضة، ومتضاربة بعضها مع البعض الآخر، ففي بعضها تحديد زمن الجمع بعهد أبي بكر، وفي بعضها الآخر كان بعهد عمر وفي ثالث كان بعهد عثمان. كما أنّ البعض ينصّ على أنّ أوّل من جمع القرآن هو زيد بن ثابت، وآخر ينصّ على أنه أبو بكر، وفي ثالث أنّه عمر..

ثانيًا: معارضتها بأحاديث أخرى 

    معارضتها بأحاديث دالّة على أنّ القرآن كان قد جمع على عهد النبي ص، منها حديث الشعبي، قال: جمع القرآن على عهده (صلى الله عليه وآله) ستة: أُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبو زيد. وفي حديث أنس أنّهم أربعة: أُبي، ومعاذ، وزيد، وأبو زيد. وأمثال ذلك من الروايات. 

ثالثًا: منافاتها مع آيات التحدّي 

    منافاة هذه الروايات مع آيات التحدي التي هي دالة على اكتمال سور القرآن وتمايز بعضها عن بعض. ومتنافية أيضًا مع إطلاق لفظ الكتاب على القرآن على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) الذي يدل على كونه مؤلفًا كتابًا مجموعًا بين دفّتين.

رابعًا: مخالفة حكم العقل 

    عدم جمع القرآن في حياة الرسول مخالف لحكم العقل بوجوب اهتمام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بجمعه وضبطه عن الضياع والنسيان والإهمال. 

خامسًا: اجماع المسلمين 

    مخالفة عدم الجمع مع إجماع المسلمين، الذين يعتبرون النصّ القرآني متواترًا عن النبيّ نفسه (صلى الله عليه وآله)، في حين أنّ بعض هذه الروايات تشير إلى اكتفاء الجامعين بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بشهادة رجلين أو رجل واحد! 

سادسا: استلزام التحريف 

    استلزم ذلك تحريفًا في نصوص الكتاب العزيز، حيث طبيعة الجمع المتأخر تستدعي وقوع نقص أو زيادة في القرآن. وهذا مخالف لضرورة الدين  

سابعا:  المناسبة بين السور

    قيل أيضا إن في المناسبة الموجودة بين كل سورة مع سابقتها ولاحقتها لدليلاً على أن نظمها وترتيبها كان بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) إذ لا يعرف المناسبة بهذا الشكل المبدع البالغ حد الإعجاز غيره (صلى الله عليه وآله).

رأي الشيخ محمد هادي معرفة:

    للشيخ محمد هادي معرفة رأي آخر في مسألة جمع القرآن، إذ يقول:

1.  إن قضية جمع القرآن حدث من أحداث التاريخ، وليست مسألة عقلانية قابلة للبحث والجدل فيها. وعليه فيجب مراجعة النصوص التاريخية المستندة، من غير أن يكون مجال لتجوال الفكر فيها على أية حال! 

    وقد سبق اتفاق كلمة المؤرخين ونصوص أرباب السير وأخبار الأمم، ووافقهم أصحاب الحديث، على إن ترتيب السور شيء حصل بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يكن بالترتيب الذي نزلت عليه السور.
 
2.  لا نرى أي مناقضة بين روايات جمع القرآن، إذ لاشك أن عمر هو الذي أشار على أبي بكر بجمع القرآن، وهذا الأخير أمر زيدا أن يتصدى القضية من قبله، فيصح إسناد الجمع الأوّل إلى كلّ من الثلاثة بهذا الاعتبار.
    نعم نسبة الجمع إلى عثمان كانت باعتبار توحيده للمصاحف ونسخها في صورة موحدة. وأما نسبة توحيد المصاحف إلى عمر فهو من اشتباه الراوي قطعًا. لأنّ الذي فعل ذلك هو عثمان بإجماع المؤرّخين. 

3.  وحديث ستّة أو أربعة جمعوا القرآن على عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) فمعناه: الحفظ عن ظهر القلب، حفظوا جميع الآيات النازلة لحدّ ذاك الوقت، وأمّا الدلالة على وجود نظم كان بين سوره فلا. 

4.  وأمّا حديث التحدّي فكان بنفس الآيات والسور، وكلّ آية أو سورة قرآن، ولم يكن التحدّي يومًا ما بالترتيب القائم بين السور، كي يتوجّه الاستدلال المذكور. على أنّ التحدّي وقع في سور مكيّة أيضًا، ولم يجمع القرآن قبل الهجرة قطعيًّا. 

5.  اهتمام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن القرآن، شيء لا ينكر، ومن ثم كان حريصًا على ثبت الآيات ضمن سورها فور نزولها، وقد حصل النظم بين آيات كلّ سورة في حياته (صلى الله عليه وآله).

6.   وأمّا الجمع بين السور وترتيبها كمصحف موحّد، فلم يحصل حينذاك، نظرًا لترقّب نزول قرآن عليه، فما لم ينقطع الوحي لا يصحّ جمع القرآن بين دفّتين ككتاب. ومن ثمّ لمّا أيقن بانقطاع الوحي بوفاته (صلى الله عليه وآله)، أوصى إلى علي (عليه السلام) بجمعه. 

7.  ومعنى تواتر النّص القرآنيّ: هو القطع بكونه قرآنًا، الأمر الذي كان يحصل بأخبار جماعة وشهادة آخرين بأنّه قرآن ولا سيّما من الصحابة الأوّلين، الأمر الذي كان قد التزمه زيد في الجمع الأوّل كما يأتي. وليس التواتر -هنا- بمعناه المصطلح عند المتأخرين.
8.  وأمّا استلزام تأخّر الجمع تحريفًا في كتاب الله، فهو احتمال مجرّد لا سند له بعد معرفتنا بضبط الجامعين وقرب عهدهم بنزول الآيات وشدّة احتياطهم على الوحي بما لا يدع مجالاً لتسرّب احتمال زيادة أو نقصان.

 التعبير بلفظ ((المصحف)) يدلّ على الجمع:

    قد يتراءى لبعض الباحثين، أن التعبير بلفظ ((المصحف)) الوارد في أحاديث الرسول وعلى لسانه - صلّى الله عليه وآله- ليصلح شاهدًا على وقوع الجمع وتنسيق السور مع بعضها، في ذلك العهد، إذ لو لم يكن هناك تدوين وجمع، بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن، لما صحّ هذا التعبير ولا كان ثمة مبرّر لإطلاق لفظ ((مصحف)) أو ((مصاحف)) على القرآن. 

    لكن لا موضع لهذا الاستشهاد، بعد أن كان ((المصحف)) اسمًا لمجموعة صحائف مكتوبة انضم بعضها إلى بعض، وربما ربطت بخيط ونحوه، أو وضعت في ملفّة أو إضبارة وما شاكل، حفظًا لها عن التفرق والضياع، سواء أكان بينها تنسيق ونظم، ليصح إطلاق التدوين عليها، أم لم يكن. 

    قال ابن دريد: والصُحف، واحدتها صحيفة، وهي القطعة من أدم أبيض أو رقّ يكتب فيه. وتجمع صحائف. وقال الخليل: وسمّى المصحف مصحفًا، لأنه ًاصحف، أي جعل جامعًا للصحف المكتوبة بين الدفَّتين.

   وكانت السورة القرآنية تكتمل وتكتب آياتها منظمة ومرتبة حسب النزول، حتى تنزل سورة أخرى بنزول بسملتها، وكانت تكتب في ورقة من قرطاس أو قطعة من أديم أورق، وتحفظ برأسها. وهكذا كل سورة.

    ومن طبيعة الحال إن هذه السور المكتملة كانت تحتفظ وتجمع في مكان، في نحو ملفّة أو اضبارة ونحو ذلك، ولكن من غير أن يجعل بينها ترتيب أو تنظم بتقديم الطوال على القصار على غرار تنظيمها الحاضر، وذلك لأن القرآن لمّا ينته نزوله، وكان يترتب نزول سور وآيات، مادام الوحي القرآني لم ينقطع، والرسول - صلى الله عليه وآله- على قيد الحياة.

    إذن فمجموعة السور النازلة في كل عام ولحدّ ذاك الحين، وكانت مكتوبة على صحائف، كانت تُحتفظ في وعاء، وربما كانت متعددة لدى الصحابة، كلٌّ له مجموعة منها في بيته وبذلك صحّ إطلاق لفظ ((المصحف)) على كلٍّ من تلك المجموعات، بهذا الاعتبار لا غير.

    وبذلك يتبين ترادف لفظي القرآن والمصحف، غير أن الأول كان باعتبار اللفظ المقروء، وكان الثاني باعتبار اللفظ المكتوب على صحيفة. فكما أن القرآن يطلق على قليله وكثيره، ومن غير دلالة على تنسيق سوره ذلك الحين، فكذلك لفظ المصحف من غير فرق.  ومن ثمّ نجد تبديل لفظ المصحف بالقرآن في نفس الروايات التي استشهد بها المستدلّ.



الدكتورة نهضة الشريفي

المصادر:
البيان في تفسير القرآن ، السيد الخوئي قدس سره
التمهيد في علوم القرآن ، الشيخ محمد هادي معرفة








هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات