اتجاهات العلماء في فهم التأويل
حظي التأويل
باهتمام واسع من قبل العلماء والمحققين قديما وحديثا سواء أكان في النصوص الدينية
أم النصوص الأدبية والعلوم الإنسانية , وكتبت حوله آراء واجتهادات وتعريفات
اصطلاحية متعددة .
أولا: اتجاه العلماء المتقدمين في التأويل
· ابن جرير
الطبري:
كان التأويل في استعمال السلف مترادفا مع
التفسير, وقد دأب على هذا المنوال جمع من العلماء, منهم ابو جعفر الطبري(ت:310هـ)
في تفسيره للآيات القرآنية , فكان قوله : "القول في تأويل قوله جل
ثناؤه...", وقوله "قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك
أقوالا..." وقوله "قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك..." هي طريقته
في بداية تفسير كل آية من القرآن الكريم وليس مقصوده التأويل([1]),
وعنوان مؤلفه التفسيري "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" يدل دلالة
واضحة على أنه يجعل التفسير والتأويل مترادفين.
· محمد بن الحسن
الطوسي:
وعلى غرار ما
صنع الطبري استعمل الشيخ الطوسي(ت:460هـ) لفظ "التأويل" بما تدل عليه
كلمة "التفسير", فكان يقول - على سبيل المثال - "اختلف أهل التأويل
في سبب نزول هذه الآية...", "أجمع أهل التأويل على أن هذه الآية
نزلت...", " وهو قول الزجاج والفراء والرماني والطبري وأكثر أهل
التأويل"([2])؛
وعلّة ذلك التساوي بين المفهومين هي إن إطلاق التأويل وإرادة معنى آخر مخالف لظاهر
اللفظ هو استعمال مولّد نشأ بعد نزول القرآن الكريم([3]),
فهو(في مصطلح المتأخرين جاء متغايرا مع التفسير, وربما أخصّ منه)([4]).
اتجاه العلماء المتأخرين في التأويل:
· السيد محمد
باقر الحكيم:
قال السيد محمد
باقر الحكيم : (والتأويل كلمة أخرى ظهرت الى صف كلمة التفسير في بحوث القرآن عند
المفسرين, واعتبرت من قبلهم متفقة بصورة جوهرية مع كلمة التفسير في المعنى,
فالكلمتان معا تدلان على بيان معنى اللفظ والكشف عنه)([5]) ,
لكن ثمة اختلاف في تحديد مديات التطابق بين التفسير والتأويل , فظهر اتجاهان في
هذه المسألة([6])
:
§
الاتجاه الذي
يميل الى القول بالترادف بينهما, وهو اتجاه جملة من المتقدمين , فكل تفسير تأويل،
والعكس صحيح , والنسبة بينهما التساوي.
§
الاتجاه الذي يقول بان التفسير
يخالف التأويل في بعض المجالات , وهو اتجاه من تأخر عنهم من المفسرين , وتأتي المخالفة
والتمييز بلحاظ أمور عدة :
- اما في
طبيعة النص المفسر والمؤول , فالتأويل في هذا الاتجاه يصدق على كل كلام له معنى
ظاهر, فيحمل على غيره فيكون تأويلاً, والتفسير بيان مدلول اللفظ اعم من ان يكون
على خلاف الظاهر او لا .
- أو في نوع
الحكم الذي يقرره المفسر والمؤول , فهذا الاتجاه يقوم على اساس ان التفسير
والتأويل متباينان فالتفسير هو القطع بمراد اللّه تعالى, والتأويل ترجيح احد
المحتملات بدون قطع .
- او في
طبيعة الدليل الذي يعتمد عليه التفسير والتأويل , ويبنى هذا الاتجاه على ان
التفسير بيان مدلول اللفظ باعتماده دليلا شرعيا, والتأويل بيان اللفظ
باعتماده دليلا عقليا .
· السيد محمد
حسين الطباطبائي:
كلّ هذه
الاتجاهات والاجتهادات المتباينة التي ذكرناها حول معنى التأويل وعلاقته بالتفسير
تعرض لها السيد الطباطبائي وناقشها,
نجملها في هذه النقاط :
أ-
ما ورد من ترادف
بين التأويل والتفسير , نقل الذهبي (ت:1398هـ) عن ابي عبيدة انه قال: (التفسير
والتأويل بمعنى واحد فهما مترادفان, وهذا هو الشائع عند المتقدمين من علماء
التفسير)([7]),
ان هذا التوافق والترادف المتداول قديما فيه نظر وتأمل ؛ لأن (أقل ما يلزمه أن
تكون بعض الآيات القرآنية لا ينال تأويلها, أي تفسيرها, أي المراد من مداليلها
اللفظية عامة الأفهام، وليس في القرآن آيات كذلك بل القرآن ناطق بأنه إنما أنزل
قرآنا ليناله الأفهام)([8])
.
وقال بعضهم
إن المراد بالتأويل: هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ .
ولكن لازم هذا القول هو
(وجود آيات في القرآن أريد بها معان يخالفها ظاهرها الذي يوجب الفتنة في الدين
بتنافيه مع المحكمات، ومرجعه إلى أن في القرآن اختلافا بين الآيات لا يرتفع إلا
بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا يفهمها عامة الأفهام)([9])
.
هذا الكلام يعني بطلان الاحتجاج في الآية
الكريمة ]أَفَلاَ
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ
اخْتِلاَفاً كَثِيراً[([10]) , (إذ لو كان ارتفاع اختلاف آية مع آية بأن يقال: إنه
أريد بإحداهما أو بهما معا غير ما يدل عليه الظاهر بل معنى تأويلي باصطلاحهم لا
يعلمه إلا الله سبحانه مثلا لم تنجح حجة الآية)([11]) .
ب-
وذهب آخرون إلى أن التأويل معنى من معاني الآية لا يعلمه
إلا الله ، أو لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم, مع عدم كونه خلاف ظاهر
اللفظ، بمعنى أن الأمر يعود إلى تعدد المعاني للآية المتشابهة، فمنها ما هو تحت
اللفظ في متناول جميع الأفهام، ومنها ما هو أبعد منه لا يناله إلا الله تعالى, أو
هو تعالى والراسخون في العلم([12])
, ويناقش هذا القول من جهة أن (اشتمال الآيات على معان مترتبة بعضها فوق بعض...مما
لا ينكره إلا من حرم نعمة التدبر، إلا أنها جميعا...مداليل لفظية مختلفة من حيث
الإنفهام وذكاء السامع المتدبر وبلادته، وهذا لا يلائم قوله تعالى في وصف التأويل ) وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ()([13])
لأن العلوم والمعارف الدقيقة لا تختلف فيها الأذهان بلحاظ التقوى وطهارة النفس بل
بلحاظ الفطنة وحدة الذكاء وعدمها([14]) .
ت-
ان التأويل هو الأمر الخارجي العيني الذي يعتمد عليه
الكلام، فإن كان الكلام حكما إنشائيا كالأمر والنهي فتأويله المصلحة التي توجب
إنشاء الحكم وتشريعه، فمثلا تأويل قوله: أقيموا الصلاة هو الحالة النورانية
الخارجية التي تقوم بنفس المصلي في الخارج فتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وإن كان
الكلام خبريا عن الحوادث الماضية كان تأويله نفس الحادثة الواقعة في ظرف الماضي
كأخبار الأنبياء والأمم الماضية, وإن كان من الأمور المستقبلة الغيبية كالأمور
المرتبطة بيوم القيامة والحساب, أو كحقيقة صفاته وأفعاله تعالى فتأويلها أيضا نفس
حقائقها الخارجية([15])
.
وقد يبدو هذا
الرأي مشابها لما قاله الشيخ ابن تيمية , فالتأويل عنده نفس المراد بالكلام ونفس
الأمور الموجودة في الخارج سواء كانت ماضية أم حاضرة أم مستقبلة لا فرق (فإذا قيل:
طلعت الشمس, فتأويل هذا نفس طلوعها ويكون التأويل من باب الوجود العيني الخارجي,
فتأويل الكلام هو الحقائق الثابتة في الخارج بما هي عليه من صفاتها وشؤونها
وأحوالها)([16]).
ولكن عند مناقشة هذا الرأي يتبين الفرق , فقد يكون مصيبا في بعضه لكنه مجانب
للصواب في بعضه الآخر, فإنه وإن أصاب في قوله بأن التأويل ليس مختصا بالمتشابه بل
يشمل كل القرآن، وأن التأويل هو أمر خارجي يُبنى عليه الكلام وليس من سنخ المدلول
اللفظي (لكنه أخطأ في عدّ كل أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام حتى مصاديق الأخبار
الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة تأويلا للكلام، وفي حصر المتشابه الذي لا
يعلم تأويله في آيات الصفات وآيات القيامة)([17]) .
إذن يتضح مما
ذكرنا مبنى السيد الطباطبائي في التأويل([18]) :
§ أنه الحقيقة
الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية من عظة أو حكمة أو حكم.
§ وأنه واقع على
كل الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها .
§ وأنه ليس من
قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الأمور العينية المتعالية من أن
تحاط بها شبكات الألفاظ ، وإنما قيدها الله تعالى بقيد الألفاظ لتقريبها الى
أذهاننا نوع تقريب .
الإفراط والتفريط في التأويل:
اتجه بعض العلماء والباحثين في تعاملهم مع
تأويل القرآن بلحاظ قبوله وعدمه بين افراط وتفريط([19]) :
أولا:
النزعة
النصوصية الحرفية التي تبنّتها قديما الحشوية , وتمثلها اليوم السلفية النصوصية
الحرفية , الرافضة التأويل مطلقا .
ثانيا:
النزعة
الغنوصية* , المغالية في التأويل, بادعاء أن لكل ظاهر باطن ولكل
تنزيل تأويل مطلقا .
ثالثا:
النزعة التاريخية التي تبنت مقولات فلسفة
التنوير الغربي التي ترى ان النص القرآني نصّا بشريا متناسبا وطفولة العقل البشري
ثم تجاوزه في مرحلة الميتافيزيقيا , ثم تجاوزه تماما بالحكم عليه بالتاريخية في كل
معانيه وأحكامه بادعاء تخلّفها عن الواقع الذي تطور .
وكثيرا ما يميل الباحثون اليوم الى النزعة الحداثوية، وهي التأويلية الجديدة (الهرمنيوطيقا)، للمزيد من المعلومات أضغط هنا
الدكتورة نهضة الشريفي
الهوامش:
* (الغنوصية مصطلح حديث الاستعمال يشير الى تيار ديني وفلسفي مسيحي
ازدهر في القرنين الثاني والثالث الميلاديين بتأثير بعض المذاهب والمعتقدات
الشرقية الدينية القديمة من أبرزها الزرادشتية, ثم امتزج بمؤثرات يونانية, لاسيما
من الافلاطونية المحدثة, بالإضافة الى اليهودية ثم المسيحية التي تعد الغنوصية
واحدة من الهرطقات أو الزندقات التي خرجت منها)
دليل الناقد الأدبي, ميجان الرويلي , سعد البازعي : 196
تعليقات
إرسال تعليق