القائمة الرئيسية

الصفحات

نصر حامد أبو زيد يشبّه القرآن الكريم بظاهرة الأوركسترا المعزوفة - الجزء الأول



نصر حامد أبو زيد يشبّه القرآن الكريم  بظاهرة الأوركسترا المعزوفة - الجزء الأول


 نصر حامد أبو زيد يشبّه القرآن الكريم 

بظاهرة الأوركسترا المعزوفة


الجزء الأول


    شبّه المفكر المعاصر المصري الجنسية نصر حامد أبو زيد حركية القرآن وديمومته بظاهرة "الأوركسترا"، وهو تشبيه غير مألوف وغير متداول في الثقافة الإسلامية، بل ليس لائقا أمام مقام كتاب الله المقدس, وذلك في قوله: 

    (ان القرآن في عملية التداول تلك يمثل ظاهرة حية تشبه الى حد كبير ظاهرة "الأوركسترا" المعزوفة, في حين يمكن تشبيه المصحف الصامت بـ "النوتة الموسيقية" الصامتة)([1]).

    وبما ان سورة الفاتحة تعدّ بمثابة المدخل الأساس أو الافتتاحية للقرآن الكريم؛ فقد شبّهها بـ(الحركة الأولى في القصيدة السيمفونية, لابد أن تومئ الى باقي الحركات)([2]).

    وقد بالغ نصر حامد أبو زيد الى حد كبير في تشبيهه هذا وتعامله مع النص القرآني, وفي الواقع نجده قد أثار عدة امور في هذه الفقرة التي أطلقها بشأن القرآن الكريم ينبغي الوقوف عندها وتحليلها , وهي:

*  عملية التداول.

*  التفريق بين القرآن والمصحف.

*  صمت المصحف ونطق القرآن.

*  التشبيه غير المألوف للقرآن والمصحف.

1- عملية التداول:

    ان "عملية التداول" التي اطلقها في سياق كلامه واكتفى بها كشرط على حركية القرآن الكريم وعدّه ظاهرة قرآنية حية, حددها بتداول الناس الروتيني اليومي للآيات الكريمة, والاستشهاد العفوي بها في سياق الجدل في مسار الحياة اليومية وفي المحاورات او المساجلات, او ترتيلها في تأدية الشعائر والمناسبات الحزينة والسعيدة, يقول:

    (إن مجرد النطق بالقرآن, سواء ترتيلا في تأدية الشعائر, أو استشهادا به في سياق الجدل في الحياة اليومية...ينطوي على معنى, أي ينطوي على تفسير ما, وحين يستشهد المحاور الخصم, أو المساجل, بآية أخرى, فإن هذا الاستشهاد يتضمن تأويلا خاصا للآيات التي استشهد بها الخصم...إن القرآن في عملية التداول تلك يمثل ظاهرة حية)([3]) .
    والحق ان تداول القرآن بهذه الصورة الظاهرية الاعتيادية قاصر عن ان يُنعت بالحياة والديناميكية ما لم نخضعه للتأمل والتفكير المنطقي والتحليل العقلي والدراسة المعمقة والبحث المتواصل والاطلاع على دراسات السابقين , وهل يعقل عزو حياة القرآن وديمومته وبقاؤه الى اليوم الى الصدفة والعفوية والممارسات غير الممنهجة؟ 

    إذن فما جدوى نزول آية الحفظ ]إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[([4]), وهل أطلقها الله تعالى بوجه المعاندين عبثا؟ 

    إن القرآن الكريم خالد ومستمر ومحفوظ بقوة غيبية قادرة مهيمنة, ولم يخضع إطلاقا لمحض صدفة أو عادة أو هوى .

   ومن حقيقة خلوده نستخلص عصرنته, فالقرآن العظيم دائما يحمل صفة القراءة المعاصرة, (فأنت حين تقف كقارئ في نقطة معينة من التاريخ, منطلقا من نظام معرفي معين, حاملا إشكاليات اجتماعية ومعرفية معينة, ستفهم من التنزيل ذي النص اللغوي الثابت أمورا, وسيفهم غيرك غيرها مع تغير إحداثياته ومنطلقاته)([5]) .

2- التفريق بين القرآن والمصحف: 

    أقام أبو زيد فارقا بين القرآن والمصحف, وهو فارق له أصل في المعاجم اللغوية فهناك نشأة لفظية للقران صوّرها الانسان بشكل حسي في موجود حسي سمّاه المصحف, والقرآن كلام الله المسموع لا يسمّى مصحفا حتى يُكتب, فإن المصحف هو (المدونة المعترف بها رسميا)([6]), وهو الكتاب الورقي أو الجلدي الذي كُتب فيه كلام الله تعالى أَيْ جُعلَتْ فيه الصُّحُفُ المكْتُوبةُ بين الدَّفَّتَيْن وجُمعَتْ فيه, (وإنما سمي المصحف مصحفاً لأَنه أُصحِف أَي جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدفتين)([7]).

   وهذا التفريق جرى لدى أغلب المفكرين اليوم , ومنهم اركون اذ يقول: ( قلت المصحف ولم أقل القرآن لأنه يدل على الشيء المادي الذي نمسكه بين أيدينا يوميا ولأنه يقابل التوراة والأناجيل بالضبط , فهو كتاب مؤلف من صفحات سجل فيها الخطاب القرآني بالخط المعروف)([8]).


   فالمصحف إذن – بالاتفاق- هو وجود مادي حسي يتكون من غلاف وجلد وورق وحبر, يرسم الصورة اللفظية للقرآن الكريم .

   ويعزو أبو زيد تحوّل النصّ القرآني الى مصحف الى عوامل سياسية وعسكرية, فإذا كانت الطبقة الحاكمة تكرس ( كل ما تمثله الدكتاتورية العسكرية من تضخيم لأهمية القوة المادية ومن تهوين لشأن الوعي العقلي والثقافي...أدركنا الكيفية التي تحولت بها النصوص الدينية من موضوعات للفهم والتفسير والتأويل الى أن تكون أشياء تستخدم للزينة أو لالتماس البركة, هكذا تحوّل القرآن من نصّ الى مصحف, من دلالة الى شيء)([9]).

   ولكن من المعلوم أن هذا التحول (قد حدث فور رحيل النبي(ص) بل قبل رحيله, وانبثق فور رحيله صراع سياسي وصراع آخر حول كتابة النص وصراع ثالث حول تنزيله أعقبته حرب التأويل مباشرة)([10]) .

   وفي الواقع نجد أغلب المفكرين المعاصرين يفتعلون برزخا يشطر القرآن ويفصل بين بُعده المنطوق وبُعده المكتوب, ويصطنعون هالة ضبابية كبرى حول هذه المسألة, بأن القرآن الشفوي مختلف عن القرآن المدوّن؛ معللين ذلك بسقوط بعض الآيات أو ضياعها أو تغيير في منطوقها بعامل جمع القرآن , بادعاء ان ذلك امر طبيعي يحدث لأي كتاب!!!

    يقول أركون: (في أثناء عملية الانتقال من التراث الشفهي الى التراث الكتابي تضيع أشياء, أو تحوّر أشياء, أو تضاف بعض الأشياء, لأن كل ذلك يعتمد على الذاكرة البشرية . وهي ليست معصومة)([11]), مما يستدعي التفريق بينهما, متناسين ان هذا ليس اي كتاب بل قرآن محفوظ بوعد الهي .

    ويصف شبستري الوحي والقرآن وشخصية النبي(ص) بأنها وقائع تاريخية لا طريق مباشر لمعرفتها, وعلى هذا فإن الآيات القرآنية قد تنزلت (داخل مناخ ثقافة شفهية, ولسنا نعلم على وجه التحديد طبيعة الصلة التي قامت داخل تلك الثقافة الشفهية بين الرسول ومخاطبيه, فقد تحولت تلك الثقافة الشفهية بعد الرسول الى ثقافة مكتوبة)([12]).

   وفي اعتقاد شبستري ان أدواتنا ومناهجنا التي نستعملها اليوم في دراستنا للقرآن الكريم مختصة بمعرفة الثقافة المدونة, في حين أن معرفة الثقافة الشفهية تتطلب أدوات ومناهج مباينة للأولى؛ لأن (الحوارات الثنائية المباشرة بين الرسول الأكرم ومعاصريه على امتداد ثلاثة وعشرين عاما من نشاطه النبوي والظروف الاجتماعية المتحولة في تلك السنوات شكلت ثقافة شفهية ليس لنا اليوم أي سبيل إليها, ما يتوافر لدينا اليوم مجموعة من الرموز...تروي لنا تلك الثقافة الشفهية بشكل من الأشكال)([13]).

    إذن, هم يرومون بالتفريق مقصدا آخر هو التأكيد على ان (التبليغ الشفهي الأول ضاع الى الأبد ولا يمكن للمؤرخ الحديث أن يصل إليه أو يتعرف عليه مهما فعل ومهما أجرى من بحوث)([14]).

    أما ما ورد بعد ذلك من تلاوة أو استشهاد بالآيات فيزعمون أن (هذين النمطين من الاستخدام الشفهي يختلفان لغويا عن المرة الشفهية الأولى حين نطق محمد بن عبد الله بالآيات القرآنية أو بالمقاطع والسور على هيئة سلسلة متتابعة أو وحدات متمايزة ومنفصلة على مدار عشرين عاما)([15]) .

    ولم يفصح أي من الباحثين عن مضمون هذا القرآن الشفهي, ولم يتعين الاختلاف فيه عن المكتوب على وجه الدقة ، ولا حتى على وجه الإجمال , ولم يقدم أحدهم دليلا على صدق دعواه , والمهم عندهم أن يبقى هذا المعنى حرا منفتحا على تفسيرات العلمانيين وعلى النظريات المخترعة في عالم الغرب في نطاق الأنثروبولوجيا وعلم النفس والمجتمع .
    إن هذا لهو الوهم المحض, والاختلاق الذي لا يمكن قبوله , فثمة جمع من الأحاديث والروايات تدلّ بوضوح على ان كتابة القرآن كانت تجري مباشرة بعد نزوله* , وتكشف عن (الصرامة العلمية التي كان يتعامل بها النبي(ص) في توثيق القرآن , إذ لم يكن يكتفي بإملائه على كاتب الوحي , بل يطلب من كاتب الوحي قراءة ما كتبه بين يديه تجنبا لما يمكن أن يقع فيه من سهو أو إسقاط)([16]) .

    للكلام تتمة....إن أحببت إكمال الموضوع، لطفا انتقل إلى الجزء الثاني

الدكتورة نهضة الشريفي

الهوامش:




([1]) التجديد والتحريم والتأويل، نصر حامد أبو زيد : 205
([2]) مفهوم النص , نصر حامد أبو زيد : 182
([3]) التجديد والتحريم والتأويل : 204
([4]) سورة الحجر : 7
([5]) تجفيف منابع الارهاب , محمد شحرور , مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة , لبنان – بيروت , ط1 – 2008م : 35
([6]) التجديد والتحريم والتأويل : 201
([7]) لسان العرب , ابن منظور : 11/ 88 فصل الصاد حرف الفاء
([8]) الفكر الإسلامي نقد واجتهاد , محمد أركون , ترجمة وتعليق : هاشم صالح , دار الساقي – بيروت , ط6 – 2012م : 86
([9]) مفهوم النص , نصر حامد أبو زيد : 15
([10]) بين الانغلاق الديني والنشاز الثقافي , عالم سبيط النيلي , دار المحجة البيضاء , بيروت , ط1 – 2008م : 13
([11]) قضايا في نقد العقل الديني كيف نفهم الإسلام اليوم , محمد أركون , ترجمة وتعليق: هاشم صالح , دار الطليعة – بيروت : 232
([12])الإيمان والتجارب الدينية - حوار مع محمد مجتهد شبستري , موسوعة فلسفة الدين, الجزء الثاني بعنوان: الإيمان والتجربة الدينية , إعداد وتحرير: عبد الجبار الرفاعي , ط1 – 2015م  : 244
([13]) م . ن : 244
([14]) القرآن من التفسير الموروث الى تحليل الخطاب الديني , محمد أركون , ترجمة وتعليق: هاشم صالح , دار الطليعة – بيروت , ط2 – 2005م : 38
([15]) م . ن : 38
* من الأحاديث حديث زيد بن ثابت قال : (ثم كنت أكتب الوحي مع رسول الله(ص) وكان يشتد نفسه ويعرق عرقا شديدا مثل الجمان, ثم يسري عنه, فأكتب وهو يملي عليّ, فما أفرغ حتى يثقل, فإذا فرغت قال: اقرأ, فأقرؤه, فإن كان فيه سقط أقامه) . المعجم الكبير ,  أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت:360ه) , تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي , ط2 – 1405ه – 1984م : 5/142
([16]) القرآن الكريم والقراءة الحداثية دراسة تحليلية نقدية لإشكالية النص عند محمد أركون , الحسن العباقي , تدقيق لغوي: مظهر اللحام , ط1 – 2009م : 150

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات