نصر حامد أبو زيد يشبّه القرآن الكريم
بظاهرة الأوركسترا المعزوفة
الجزء الثاني
المفكر المعاصر المصري الجنسية نصر
حامد أبو زيد يشبّه القرآن بظاهرة "الأوركسترا" ويمثل حركية القرآن
وديمومته بحركية ظاهرة "الأوركسترا" المعزوفة، وقد ذكرنا في الجزء الأول
من البحث أن هذا التشبيه غير مألوف وغير متداول في الثقافة الإسلامية، وليس لائقا
أمام مقام كتاب الله المقدس.
وناقشنا مقولتين مما أثاره
في هذه الفقرة التي أطلقها بشأن القرآن الكريم, وهي:
عملية التداول.
التفريق بين القرآن والمصحف.
وفي هذا الجزء سوف نكمل مناقشتنا وتحليلنا لمقولته، ونجملها بما يأتي:
صمت المصحف ونطق القرآن.
التشبيه غير المألوف للقرآن والمصحف.
نذكّر
أولا بنصّ قول أبي زيد: (ان القرآن في عملية التداول تلك يمثل
ظاهرة حية تشبه الى حد كبير ظاهرة "الأوركسترا" المعزوفة, في حين يمكن
تشبيه المصحف الصامت بـ "النوتة الموسيقية" الصامتة)([1])، وقد وصلنا الى المناقشة الثالثة:
3- صمت المصحف ونطق القرآن:
وصف ابو زيد القرآن الكريم في صورته اللفظية
بأنه قرآن منطوق وانه ظاهرة حية ديناميكية نابضة بالحياة بفعل تأويل الرجال , في
حين وصف المصحف المكتوب بأنه صامت لا ينطق الا أن نستنطقه , وفي مذهبه هذا يتكئ
على ما يحمله كلام أمير المؤمنين علي(ع) من معان عميقة ودلالات بالغة الأهمية حين قال:
((هَذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ
مَسْطُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ
تَرْجُمَانٍ وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ))([2])
وكان الموقف يستدعي منه ذلك, وقد قالها(ع) في حرب صفين, في قضية رفع المصاحف, والخدعة التي ضلّلت كثيرا من
الرجال .
وقد افاد أبو
زيد من كلام الإمام(ع) ليصل عبره الى مقصد آخر يقوم
على التركيز على الصمت الذي يلفّ المصحف الشريف, وليصبّ فكره واجتهاده ويستنطقه بمنطقه ومنهجه الخاص .
4- التشبيه غير المألوف للقرآن والمصحف:
أطلق أبو زيد
على الظاهرة التداولية القرآنية تشبيها لم نعهده في الوسط الإسلامي , إذ شبهها
بظاهرة الأوركسترا المعزوفة , بينما شبه المصحف المكتوب الصامت بأوركسترا لم تعزف
بعد , وما زال حبرها على ورقها ولم تظهر للوجود , وهي النوتات الموسيقية المكتوبة
.
إن عملية
المقارنة هذه غير موفقة البتة, لاختلاف الوظائف بينهما إصدارا وحجما , كاختلاف ما
هو رباني عما هو بشري , على انه ليس بغريب ان يتجه خيال أبي زيد الى مثل هذه التشبيهات
وقد أمضى الشطر الأهم من حياته في الغرب مع أجواء الأوركسترا والسمفونيات التي
تعدّ اليوم من مكملات الحضارة الغربية , وارتياد هذه الأماكن منحصر في الطبقة
الراقية من المجتمع.
ولا ريب أن أبا زيد ممن تشبث بالرقي من هذا
الطريق, لذا نراه يستنكر إعراض المتدينين عن الموسيقى والغناء, فيقول متعجبا: (ما
سرّ ذلك العداء العجيب للفنون والآداب, خاصة فن الموسيقى والغناء, كأن ترتيل
القرآن الكريم لا ينتمي الى فن الأداء الصوتي, وكأن القرآن نفسه ليس نصا أدبيا
وفنيا راقيا بامتياز؟)([3]).
ما نلحظه في كلامه إعمامه لكل أنواع الموسيقى,
وهو ليس بصحيح, ولا نحتاج الى توضيح الواضح .
والإشكال هنا
ليس في هذه الأمور فحسب , وإنما يقع في عدم التوافق والسنخية في التماثل, بل
القطيعة بين هذا النمط من الموسيقى الذي ولد ونشأ وترعرع في أحضان الحضارة الغربية
فألفها وألفته حتى صارت جزءا من حياة المجتمع , وبين روح القرآن وقدسيته وسموه
ومكانته بين المسلمين ونظرة المسلمين له وتعاملهم مع دلالاته والتسليم والانقياد
له والاعتقاد بأنه صادر من الذات الإلهية المقدسة.
أفيعقل أن نتعامل مع الماء القراح
كما نتعامل مع الخمر النجس, وكلاهما مائع ؟ أو نشبه العالم الروحاني بالسفيه
الجاهل, وكلاهما إنسان؟ ان بينهما بُعد المشرقين .
إن
الأوركسترا السيمفوني يتوهج نجمها وتتألق مدة من الزمن, ثم يخبو ألقها وتبلى وتهرم
ويمجّها السمع , و( كما اننا لا نتذوق اليوم موسيقى اليونان فمن المحتمل جدا ان لا
تتذوق إنسانية المستقبل موزارت وبتهوفن)([4])؛
لأن نوتاتها الموسيقية تتشكل على يد فنانين بشر من المجتمع ذوي اختصاص بفن
الموسيقى.
أما القرآن فله تألق وحركة وديمومة عبر العصور
يتجدد بتجدد الفكر البشري , وله فاعلية تتجلى في المعاني الكلية الشمولية والشفرات
والرموز والإيحاءات التي تغذي العقل فيتفاعل معها بطريقة تتجاوز مرحلة الصوت
والنبرات الى مرحلة الصمت والإيحاءات الخفية بما لا يدع أيما مساحة لعقد مقارنة
بينه وبين ظاهرة الأوركسترا, لا من خاصية الوهية القرآن وبشرية الأوركسترا وسواها
فحسب, وإنما لأن القرآن يؤثر في الآخر بطريقة تتجاوز الصناعة البشرية .
الدكتورة نهضة الشريفي
الهوامش:
تعليقات
إرسال تعليق