القائمة الرئيسية

الصفحات



الوراثة الحضارية


الوراثة الحضارية



     ثمة سنن وقوانين ثابتة تنتقل بموجبها الحضارة عبر الأجيال, فيبدأ الجيل الجديد حياته من حيث انتهى الجيل السابق, هذه القوانين انضوت تحت مسمى: الوراثة الحضارية, وهي تعني (انتقال القيم والأفكار والرؤى والأعراف والأخلاق من جيل الى جيل)([1]).

أصحاب الحضارة الإلهية:

    عبر هذه العوامل انتقل إلينا هذا التيار الحضاري الكبير من عصر آدم(ع), وعصور الأنبياء نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد (عليهم الصلاة والسلام أجمعين) حتى عصرنا الحاضر, ونحن فرع من تلك الجذور الممتدة في عمق التاريخ, تلقّينا هذه القيم والمعارف عبر قنوات الوراثة الحضارية من جيل الى جيل, ومن أهم هذه القنوات: البيت، والمدرسة، والمسجد([2])، حيث تحركت فيها معارف الحضارة الإلهية ووصلت الحاضر بالماضي والخلف بالسلف .

     إن هؤلاء الأنبياء العظام هم أصحاب الحضارة الإلهية التي ورثناها, وقادة الأمم ورسل الله تعالى الى الإنسان لتهذيب سلوكه وتحريره من التخلف والانحطاط.

     وهم الذين أسسوا معالم الحضارات في الأرض, وأقاموا المناهج الإصلاحية التي تطورت بها حياة الإنسان بعد ما كان يرزح تحت نير الجهل والتخلف.

     وهم الذين رفدوا قنوات الوراثة الحضارية بأسس التعامل وأساليب الدعوة الى الله تعالى.

     والقائد الأعظم صاحب الحضارة العظمى النبي الخاتم محمد(ص) هو من قدّم الى البشرية معجزته الخالدة التي تمثل أحد الثقلين الذين أمرنا بالتمسك بهما, وهما (القرآن, والعترة), ولا شك أن التمسّك بهما يعني الاغتراف من العلوم والمعارف الإلهية وصبّها في وعاء الخبرات الممتد في عمق الزمان, لتنتج مزيجا راقيا من العلوم يسمو فوق ما احتوته مؤلفات أسلافنا من العلماء والمفكرين .

القرآن منبع العلم ومصدر التطور:

     إن القرآن العظيم نزل متمّما للديانات السماوية بما يتناسب وتطور الإنسانية عبر الأزمان, فهو منبع العلم ومصدر التطور.

    والتطور (سنّة من سنن الخليقة يقول به كل مفكر, فالموحدون في توحيدهم, والمتصوفة في تعبيراتهم, والطبيعيون في فلسفتهم الطبيعية... يُجمعون على أن التطور سيرٌ الى الكمال... والديانات السماوية كلها كانت أخْذا بيد الإنسانية نحو الكمال, وسمّوا بها من كامل الى أكمل, وتلك سنّة الله في خلقه, ولن تجد لسنة الله تبديلا)([3]).

     ونحن نرى اليوم ثلّة من العلماء والعارفين والمفكرين ــــ بتمسكهم بالقرآن ـــ قد أفصحوا عن علم عميق الغور بعيد الشأو في مجال علوم القرآن وتفسيره، ورفدوا قنوات الوراثة الحضارية بقوة معارفهم, وعمق مداركهم, وغذّوها بالمزيد من القنوات والمسالك والسبل ليرثها جيل المستقبل, مثلما ورثوا هم عن السابقين, حيث وظّفوا أحدث أنواع التقنيات العصرية لمصلحة هذا الجيل, ولخدمة مجتمعهم والنهوض به الى التقدم والرقي, مستلهمين القيم العظيمة التي يحملها القرآن وقصصه وحوادث الأمم الغابرة,  للمساهمة في عملية التغيير الإنساني, فإن([4]) :

·       للقصة أثر بالغ في خلق روح المقاومة والصحوة والصبر تجاه تحديات العصر ومصاعب الزمن .

·       القصة تعدّ من أبرز العوامل وأيسر السبل للاتعاظ والتذكير في وجدان الإنسان.

·       للقصة دور فاعل في بيان المصاديق الجزئية لعملية المعروف ومنجزاته, والمنكر وتبعاته, وبذلك تكون متممة لعالم المفاهيم الكلية ومجلية لمداليله.

·       للقصة أثر كبير في انتشال الإنسان من عالم الغفلة, وإيقاظ المجتمع من حالة السبات والنوم الروحي والمعنوي .



هجر القرآن:  

     إن المتمسكين بالقرآن ثلة فحسب !! فالواقع يحكي تغافل إنسان اليوم وإهماله وهجره للقرآن, بل شنّه حربا على كتاب الله بإشهاره سلاح الجهل والعمى والضلال ضده .

      لقد انجرف هذا الإنسان، بفعل انبهاره بالعلوم والمكتشفات الحديثة, وبالحضارة الغربية وزخرفها وزبرجها، نحو تيار الحداثة ونسي ربه !! وقد أخطأ أيما خطأ حين ابتعد عن القرآن وهو النص الإلهي الوحيد الشامل لكل أبعاد الرسالة الإسلامية, والسبيل الوحيد لحل مشاكلنا في هذا الزمان الذي تعصف فيه الفتن, أنبأنا بذلك رسول الله(ص) في قوله الشريف:

 ((.. فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفّع وماحل مصدّق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار))([5])؛ لأنه السبب المتصل بين الأرض والسماء وهو الثقل الأكبر.

     وذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) عوامل تقوّض حضارات الأمم السالفة: ((فانظروا الى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة, وتشتت الألفة, واختلفت الكلمة والأفئدة, وتشعبوا مختلفين, وتفرقوا متحاربين, قد خلع الله عنهم لباس كرامته, وسلبهم غضارة نعمته, وبقي قصص أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين))([6]).

    إذن لابد لنا من استنطاق القرآن والإفادة منه، قال الإمام علي بن الحسين(ع) بشأن القرآن: ((... فهو بينهم شاهد صادق, وصامت ناطق))([7]), لأنه لا ينطق بنفسه بل لا بد له من مترجم فهو صامت في الصورة, أما في المعنى فهو أنطق الناطقين, فاستنطقوه في بلاغته المعجزة, وفي علومه ومغيباته, وقصصه وعبره؛ لأنه مصدر حضارتنا ومنبع تطورنا.

القرآن والعلم:

      لا ينبغي للعلم أن يقصي القرآن العظيم؛ لأنه سيقع في فجوة عميقة الغور لا ينتشله منها إلا هو, فالقرآن والعلم مقترنان ومتلازمان على وجه لا ينفك أحدهما عن الآخر, بل إنه يدعو اليه ويؤكد عليه بشدة, وكلما امتد العلم وتوسع, كلما استوعبه وعاء الدين الإسلامي واحتواه, ويمكن القول أن القرآن هو العلم بكل أبعاده .

      إذن فهذه دعوة لجيل اليوم لنفتح أوعية قلوبنا وعقولنا لدراسة القرآن العظيم والاستفادة من أحكامه وقوانينه وقصصه ووعظه وإرشاده, ولنستغل تقنيات العصر الحديث وتطوراته العلمية لترجمة أسرار كلام الله, واستكناه علومه, فإن لكل عصر آلياته وأدواته في استنطاق القرآن ومعرفة السبيل الى القرب الإلهي, فعن الامام الصادق(ع) وقد سأله رجل:

 ((ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة فأجاب(ع): لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس, فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غضّ الى يوم القيامة))([8]).

      ولا بد أن نضع نصب أعيننا, ونحن نستعمل آليات زمننا لفهم القرآن, (ان أي قصور في التعبير والإحاطة والاحتواء...إنما هو أجنبي عن النص ومناف لقدسيته وعلويته المرتبطة بمصدره القدسي المعصوم عن كل نقص أو قصور, وبالتالي فالقصور مرتبط تماما بالفهم البشري المتصدي لتفسير النص وهذا القصور أمر محتمل في أي زمان ولأي فهم)([9]). 

الدكتورة نهضة الشريفي

الهوامش:           

([1]) الجسور الثلاثة قصة الغارة الحضارية على العالم الإسلامي , محمد مهدي الآصفي : 112 , مجلة المنهاج العدد الثالث
([2]) ظ م . ن : 112
([3]) القافلة تسير , محمد تقي القمي : 38 , مجلة رسالة الإسلام , العدد الأول
([4]) ظ قصص الأبرار من بحار الأنوار , مرتضى الميلاني : 10 ـ 11
([5]) الكافي : 2/ 599 كتاب فضل القرآن , حديث رقم 2
([6]) نهج البلاغة :  213 , الخطبة القاصعة رقم 193
([7]) الكافي : 8/ 391 كتاب الروضة رقم 588
([8]) بحار الأنوار : 2/ 280
([9]) مناهج المتكلمين في فهم النص القرآني , د. ستار جبر حمود الأعرجي : 80

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع في المحتويات