القصة في الآداب الأوروبية
الأدب اليوناني:
يمثل اليونان (الجذور الحضارية لأوروبا كلها إلى
اليوم، فهم الملهمون الأوائل لكل شعوب أوروبا اللاتينية والجرمانية قبل المسيحية
وبعد المسيحية وحتى عصر النهضة)([1]).
وقد ظهرت أول ملامح تأثير اليونان
الحضاري بريادتهم في الفن الملحمي، حيث بدأ الأمر في الملاحم اليونانية التي تمثلت
فيها عناصر متعددة مهدت للنثر القصصي الخيالي في الأدب اليوناني، منها([2]) :
·
العنصر المسرحي، وقد تجسد في إنشاد الملحمة ومواقفها.
·
العنصر القصصي حسب ما كان يفهم من معنى القصة قديماً.
·
العنصر العاطفي، حيث ربط شعراء المآسي اليونانية هذا العنصر
بالأحداث التي يسوقونها سواء أكانت غيبية أم إنسانية, وهذا الربط مهّد لظهور القصص
الخيالية النثرية .
·
العنصر التاريخي، فقد عمد المؤرخ اليوناني (كسينوفون) إلى خلط
الخيال بالتاريخ فيما يشبه القصة, وذلك في تاريخه لملك الفرس (كورش) في كتابه
(كوروبيديا).
لقد كان
أول ظهور للنثر القصصي في القرن الثاني والثالث بعد الميلاد، وكان الأدب القصصي
اليوناني آخر أجناس ذلك الأدب ظهوراً، ولكنه ظل مع ذلك مختلطاً بالمعاني
والمخاطرات الغيبية والسحر والأمور الخارقة([3]).
الأدب الروماني:
أما في
الأدب الروماني (فقد ظهرت القصة في أواخر القرن الأول بعد الميلاد على نحو يخالف
القصة اليونانية في بادئ الأمر، ثم ما لبثت أن تأثرت بالقصص اليونانية)([4]).
وقد كان اليونان يعتقدون بالآلهة،
تجسّد ذلك في آدابهم وفنونهم الأسطورية العجيبة، فقد صنعوا (رباطا خياليا يربط بين
مفهوم الإنسان ومفهوم الطبيعة هو رباط "الأسطورة" القائمة على تفسير
الطبيعة والإنسان من المنظور اليوناني بتوهم وجود الآلهة واستعمالها رموزا خيالية
يدور بها تفسير الوجود في إطار وثني..)([5])، ولذلك تلبّس الخيال بالواقع على نحو
يستحيل انفكاكه، فقد عشعش في كيانهم إلى أبعد حدّ متصوّر.
بهذه
الاعتقادات الوثنية عاش اليونان الأوائل في عالم أوروبا مثالاً فذاً أمام الشعوب
الأوروبية تستلهم منه حضارة الخمر والفلسفة والعدوان، في حين عاش العرب الأوائل في
قلب الوطن العربي مثالاً تستلهمه الشعوب الأخرى عبر العصور من مُثل ومبادئ ولغة
ومجتمع الدين والعلم، والعدل والرحمة.
تأثرت
القصص في أوروبا منذ عصر النهضة بملاحم العصور الوسطى لكنها نزعت نزعة إنسانية
أوضح من ذي قبل، فظهرت قصص الفروسية التي اتسمت بالأثر الإفلاطوني الواضح في
الجانب العاطفي، والذي شدّ من أزر نزعة الفروسية هذه، ما عرفته أوروبا من ثقافة
العرب وآدابهم منذ العصور الوسطى([6]) .
الأدب الاسباني:
وفي
القرن السادس عشر ظهرت في الأدب الاسباني (قصص الشطار) وهي (قصص العادات والتقاليد
للطبقات الدنيا في المجتمع، وهي ذات صبغة هجائية للمجتمع، فتأثر الأدب الفرنسي
بهذا الاتجاه، فكانت قصص الشطار أداة لتقريب القصة من واقع المجتمع واتخاذ حوادث
الحياة العادية أساساً للموضوعات القصصية)([7]).
المذاهب الأدبية في أوربا:
لقد شهدت
أوروبا مذاهب أدبية متعددة ابتداءً من عصر النهضة، منها:
أولاً: الكلاسية
الكلاسية
لغةً (مأخوذة من كلمة لاتينية (Classis) ومعناها فصل مدرسي أو طبقة، واصطلاحاً
أطلقت الكلمة في عصر النهضة على الأدبين الإغريقي واللاتيني، ثم سمي بها هذا
المذهب لأنه يقوم أساساً على جملة من الصفات والمبادئ التي يشتمل عليها هذان
الأدبان)([8]) .
ظهرت
ملامح الكلاسية أو الكلاسيكية التي كانت تخص الطبقة الارستقراطية مع عصر النهضة،
حيث أخذت أوروبا تستيقظ من سبات القرون الوسطى وتشهد حركة إحياء واسعة في العلوم
والآداب والفنون، وازدهرت في القرن السابع عشر([9]) .
ثم ظهر
الاهتمام بالتحليل النفسي ، ولاسيما التحليل العاطفي في المسرحيات وكان لابد للقصة
أن تتأثر بهذا الاتجاه ، فدعا كثير من النقاد إلى أن تكون حوادث القصة ممكنة ومحتملة
في سياقها لتتجرد من آثار ما فوق الطبيعة ، وتتخلص من أساطير الملاحم ، ولكن على
الرغم من ذلك ظلت القصة بصفة عامة متخلفة عن الأجناس الأدبية الأخرى لأنها لم تكن
لدى أكثر الكتاب على وعي بموضوعها الفني وغايتها الاجتماعية وتأثيرها الحساس
والمباشر في نفوس الناس، فلم يكن يعني بها كبار الكتّاب عنايتهم بالمسرح والخطابة
والشعر لهذا السبب تأخرت القصة في النهوض .
وللسبب ذاته اكتسبت حرية وسلطان انفردت
بهما عن الأجناس الأدبية الأخرى ، فكان يباح فيها ما لا يباح من غيرها من الهجاء
والقول ضد النظام والتقاليد وحتى ضد الديانة المسيحية نفسها ، بذلك حملت القصة
معالم التجديد والثورة في القرن الثامن عشر قبل الأجناس الأدبية الأخرى([10]) .
وظهرت
الحاجة إلى مذهب أدبي جديد قادر على التعبير عن العصر وهمومه، فكان المذهب
الرومانسي.
ثانياً: الرومانسية
أخذت تباشير الرومانسية تلوح في أفق الآداب الأوروبية في منتصف القرن
الثامن عشر، فظهرت على الساحة الأدبية قصص مخاطرات حديثة تهجو الطبقات الاجتماعية
المختلفة إلى جانب عرض صورة للمجتمع ونظمه تعنى فيها بالتعمق أكثر من ذي قبل([11])، إلا أنها تصطبغ بالصبغة العاطفية المشبوبة
الثائرة، وتنسج الخيال اللامحدود، مما حمل المجتمع الأوروبي إلى التبرم والضيق.
وما أن
حلّ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى ظهر مذهب أدبي جديد هو المذهب الواقعي.
ثالثاً: الواقعيــــــة
أسهم التقدم العلمي في (شيوع النظرة الواقعية عند الناس وإحلالها محل
النظرة المثالية حيث دعت الواقعية إلى ان يكون الفن والأدب مطابقين للطبيعة
يصورانها كما هي، وأن يعبرا عن الأشياء كما تبدو في الملاحظة أو التجربة حتى يصلا
إلى حقائق الأشياء)([12]).
لذلك
قربت القصص من الواقع قرباً شديداً (وأصبح الكاتب يتتبع في قصته الواقع على منهج بحثي
استقصائي منظّم , يجمع فيه معارفه بإطلاعه على وقائع الحياة اليومية الفردية
والاجتماعية، ويرتب هذه الوقائع لتكون مجالاً يحرك فيه شخصياته)([13]) .
ازداد اهتمام القصة الواقعية بالطبقات الدنيا والمتوسطة (وتغلغلت إلى أعماق
النفس الإنسانية وكشفت جوانب السوء والشر، وصورت المجتمعات والنفوس المترفة فريسة
للفساد والغرائز الحيوانية)([14]) .
سميت
الواقعية الأولى التي ظهرت في فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر
بالواقعية النقدية، ثم ظهرت الواقعية الطبيعية في أواخر القرن نفسه حيث كانت امتداداً وتطويراً للواقعية النقدية، وفي
القرن العشرين ظهرت الواقعية الاشتراكية وذلك بعد عام 1917م([15]).
ونشأت فيها قصص التحليل لأدق الجوانب
النفسية في الفرد والمجتمع, ولكنها لم تصور النفس الارستقراطية وإنما تناولت
نفسيات الأفراد من الجمهور وسواء الشعب ، وراج هذا الاتجاه في الأدب الروسي ثم
انتشر في القصص الأوروبية([16]) .
رابعاً: الرمزية
بعد الواقعية بامتداداتها وتطوراتها ظهر المذهب الرمزي فكان اتجاه آخر حديث
في القصة حيث لا يعمد القاص إلى درس المشكلات الاجتماعية والمسائل العادية فحسب،
بل يرمي كذلك إلى جلاء حالات نفسية خاصة أو إلى الإفضاء بآراء ذاتية تمس أعماق
النفس التي يصعب على اللغة الإحاطة بها تخص حقائق كثيرة تقوم على حدود ما بين
الوعي واللاشعور, واليقظة والنوم, والعقل والجنون, وما إلى ذلك من المشاعر العجيبة
التي لا توصف إلا عن طريق الإيحاء بها وذلك بإثارة صور خيالية تثير المشاعر وتوحي
بالحالات الغامضة في أعماق النفس([17]) .
خامساً: السريالية
في مطلع العقد الثالث من القرن العشرين ظهرت السريالية وهي امتداد وتطوير
لمدارس واتجاهات أدبية عرفتها أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الأولى وما أحدثته
من كوارث وويلات للإنسان الأوروبي مما جعل قيمه المألوفة تهتز وثقته بالأنظمة
والمذاهب السائدة تضعف، فشرع الأوروبي يبحث عن قيم ومذاهب جديدة في الفكر والأدب
والفن، فكانت قيم متحللة بعيدة عن كل وصف جمالي وأخلاقي.
هكذا بدا
مفهوم القصة في العالم الأوروبي على مدى القرون والآماد وهكذا تبلورت القصة بعد أن
خطت الخطوات الأساسية من العالم الغيبي والقوى العجيبة التي كانت تدنيها من
الملاحم، ومن العالم المثالي الذي كانت تبتعد فيه عن الواقع المألوف، ثم من العالم
الارستقراطي الذي كانت تهتم فيه بطبقة خاصة، وحتى نزولها إلى أغوار المجتمع
لتتعاطى مع مشكلاته، ولم تكتف بذلك بل غاصت بالجوانب المظلمة في أعماق النفس
الإنسانية لتعالجها.
ومع ذلك،
على الرغم من كل أنماط التغيير والتطوير الذي اكتنف الأدب القصصي العالمي، (يبقى
بعيداً وغريباً عن أدبنا العربي ومضاداً لطبيعة مجتمعنا العربي الإسلامي ورسالته
في الحياة ومنهجه في التعبير، وأخلاقه ومبادئه)([18]) التي سنها من تعاليم القرآن وقصص
القرآن بوحيها الخالد وصدقها المبين وحوارها المتقن والموجّه لكل العصور ولكل
البشر، تعطي وهي تعلو وتتجدد, وتنمّي حياة الإيمان لأمة الإسلام، بينما هناك تحت
أطباق الظلام يتناقل الغرب خرافات شعوب وثنية مخمورة قصصها منسوجة من وساوس
شيطانية خبيثة.
الدكتورة
نهضة الشريفي
الهوامش:
تعليقات
إرسال تعليق